مساهمة في اعادة صياغة الماركسية - اليسار الجديد


بهاءالدين نوري
2014 / 9 / 17 - 21:19     

مساهمة في اعادة صياغة الماركسية
اليسار الجديد
مدخل تاريخي
دشنت كومونة باريس مرحلة جديدة من نضال العمال وجميع الكادحين. وقد جرى ذلك في وقت كان الرعيل الأول من المثقفين والمفكرين المتفاعلين مع ذلك النضال منهمكين في تنظير وتنظيم الصراع الطبقي العمالي ـ الرأسمالي وصياغة المبادئ والأسس التي تقوم عليها الأحزاب السياسية العمالية كأحزاب معنية بقيادة وتوجيه نضال الشغيلة وحريصة على مصالحها وتكاتفها الطبقي والأممي. وقام كارل ماركس وفريدريك انگلس بدور متميز في هذا المجهود الكفاحي المشرف الذي تكلل بإصدار المانيفيست (البيان الشيوعي) وبتأسيس أحزاب عمالية اشتراكية ذات برامج سياسية طبقية وخطط نضالية هادفة إلى تحرير العمال من الظلم والأستغلال. وقد تابعت تلك الأحزاب مسيرتها الكفاحية حتى نهاية القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين حيث تعثرت المسيرة بسبب عجزها عن مواكبة الظروف المستجدة الناجمة عن تعاظم القدرات الصناعية والعسكرية لدى الدول الرأسمالية. وزعم البعض منها أنه غبن وحرم من حيازة مناطق النفوذ ولجأ إلى إثارة حرب عالمية (914- 918) لغرض إعادة تقسيم المستعمرات. وقد سببت الحرب قتل 20 مليوناً من البشر ودماراً غير مسبوق على امتداد التاريخ.
كان على الأحزاب الاشتراكية ـ العمالية أن تتخذ موقفاً أممياً داعياً إلى تضامن الشغيلة في مختلف البلدان ضد الحرب لكن قيادات هذه الأحزاب فعلت العكس، اتخذت مواقف قومية لدعم البرجوازيات الحاكمة، كل في بلده، فأصبحت جزءاً من الصراعات بين الدول البرجوازية بدلاً من أن تكون قائدة للصراع الطبقي العمالي ضد البرجوازية. وشذ عن ذلك الحزب الاشتراكي الروسي، أو غالبيته، بقيادة فلاديمير لينين، إذ وقف ضد الحرب وقاد الشغيلة في ثورة أكتوبر الاشتراكية المجيدة عام 1917 وأسست على أثرها أول سلطة للعمال وكل الكادحين الذين استماتوا في الدفاع عنها ودحروا قوى الردة المحلية والجيوش الاستعمارية المعتدية وسط ظروف بالغة الصعوبة في سني 1918ـ 1922. وقد انتفضت الطبقة العاملة في البلدان الرأسمالية في حركة تضامنية كبرى لدعم الثورة الاشتراكية وكبح جماح الدول البرجوازية. ولعب ذلك دوراً هاماً في الدفاع عن الثورة الاشتراكية.
كانت ثورة أكتوبر إيذاناً ببدء مرحلة جديدة من تأريخ الحركة العمالية الاشتراكية. ونظر المناضلون الثوريون في شتى البلدان إلى الحزب الشيوعي البولشفي الروسي كنموذج جدير بأن يقتدوا به، وبادروا إلى تشكيل أحزاب شيوعية مماثلة من الطراز اللينيني لتقود نضال الشغيلة في المرحلة الجديدة المتميزة بوجود أكبر فصائلها على رأس السلطة. وغير ذلك توازن القوى على المسرح الدولي وقدم لشغيلة البلدان الرأسمالية آفاقاً جديدة مشرقة ومليئة بالتفاؤل والأمل في التحرير من الاستغلال الرأسمالي. وقد اضطرت الأنظمة الرأسمالية الحاكمة، ولو على مضض، بقبول التعايش مع النظام السوفيتي خلال العقدين الثالث والرابع من القرن العشرين، فيما انصرفت شغيلة الدولة السوفيتية بحماس منقطع النظير إلى بناء نظامهم الجديد وتطوير قدراته الصناعية ـ الزراعية والثقافية.
لم تتعظ ألمانيا بدروس خسارتها في الحرب العالمية الأولى ولم تتخل عن فكرة "إعادة تقسيم المستعمرات". ووجد هتلر في اليابان وإيطاليا من شاركوه في هذه الرغبة وأقام محور برلين ـ طوكيوـ روما وبادر في 1939 إلى إثارة الحرب وبذلك أقحم النظام الرأسمالي شعوب بلدانه وكل العالم في حرب كونية جديدة . ولم يلبث أن أستولى هتلر على أوروبا البرجوازية كلها باستثناء بريطانيا. وتراءى لهتلر أن الوقت قد حان للهجوم على الدولة السوفيتية بهدف إسقاطها والاستيلاء على مستعمرات واسعة شرقاً، وقد حشد قواه ليهاجم الاتحاد السوفيتي، في حزيران 1941، رغم وجود معاهدة عدم اعتداء بين البلدين، وأجتاح مساحات واسعة حتى وصل المعتدون إلى ضواحي موسكو. ومنذ الهجوم الهتلري أصبحت الأرض السوفيتية موضع الجبهة الرئيسية للحرب في أوروبا. وفي غضون سنة ونصف من الحرب تحول الجيش السوفيتي إلى الهجوم ولاحق الجيش الألماني حتى سقوط النظام الهتلري في أيار 1945. فيما أنهت أمريكا الحرب في اليابان بإلقاء القنابل الذرية على مدينتي هيروشيما وناكازاكي.
كان انتصار النظام السوفيتي في الحرب حدثاً تأريخياً عظيماً من شتى النواحي؛ السياسية والعسكرية والمعنوية، وكان ضربة كبرى للنظام الرأسمالي العالمي، ونتيجة هذا الانتصار تعاظمت هيبة وشعبية الحركة الشيوعية في العالم حتى أصبحت أكبر حركة سياسية اجتماعية في العالم واستلم الشيوعيون زمام الحكم في بلدان أوروبية إضافة إلى كوريا الشمالية، لتؤسس مع الاتحاد السوفيتي المعسكر الاشتراكي مقابل المعسكر الرأسمالي. وفي 1949 انتصرت الثورة الشعبية الصينية بقيادة الحزب الشيوعي لينضم أكبر بلد في العالم من حيث عدد سكانه إلى هذا المعسكر. كما انضمت إليه فيتنام بمرحلتين في 1954 ثم في 1975.
وعلى أثر هذه الانتصارات انتعشت حركة التحرر الوطني على الصعيد العالمي وأصيب النظام الكولونيالي بالانهيار وتشكلت عشرات الأنظمة الوطنية المستقلة على أنقاض الكولونيالية المنهارة، كما تشكلت حركة عدم الانحياز المناوئة للاستعمار.
وفي أعقاب هذا الانتصار أسست منظمة الأمم المتحدة بعد الحرب لتلعب دوراً متزايد الأهمية على المسرح الدولي، بالأخص في السنين الأخيرة، لحل النزاعات الدولية والتصدي لتفاقم الظلم والاضطهاد القومي والديني وأحياناً لتأديب الظالمين ومساعدة المنكوبين.
إن ثورة أكتوبر كانت ثورة اشتراكية قولاً وعملاً، وسار العمل بنجاح لبناء الاشتراكية في الاتحاد السوفيتي خلال العقود الثلاثة الأولى من تاريخها. وكان من شأن ذلك أن يضمن للحركة الشيوعية والعمالية، متابعة السير في طريق الانتصارات المتعاقبة عالمياً فيما لو انتهجت الأحزاب الشيوعية الحاكمة نهجاً سياسياً صائباً. لكن الأمور سارت على منوال مغاير، إذ اقترن البناء الاشتراكي بأفكار لينين الخاطئة التي صاغها كقوانين عامة وملزمة للثورات الاشتراكية في جميع البلدان. ورغم إن ستالين كان من الشيوعيين المخلصين الجهاديين، إلا أنه كان أقل قدرة من حيث المستوى الفكري والخبرة وأكثر عرضة لترسبات العادات والتقاليد المتخلفة، فعمق في تفسيراته وتطبيقاته العملية تلك الأخطاء. ونكل بعدد كبير من رفاقه لمجرد اختلافهم في الرأي أو الشك في ولائهم لشخصه وأنزلق إلى موقع دكتاتور فردي. وقد ساعدت صعوبات البناء الاشتراكي ونجاحاته في العشرينات والثلاثينات وصعوبات ظروف الحرب التي فرضتها الهتلرية وانعدام تجربة سابقة في البناء الاشتراكي والخوف الذي أشاعه جو التسلط الفردي البيروقراطي ـ ساعد كل ذلك على تغطية الأخطاء والنواقص قبل رحيل ستالين في 1953.
كان نيكيتا خروشيوف، وهو من قادة البلاشفة وتسلم زعامة الحزب بعد وفاة ستالين، أول من أنتبه إلى أخطاء ستالين وأثارها في المؤتمر العشرين للحزب عام 1956 وطرح أمام القيادة مهمة المعالجة. لكنه لم يدرك أبعاد النمو للاتجاه الستاليني داخل الحزب ومدى خطورته ولم يحشد قوة حزبية قادرة على التصدي لها، فكان أن تغدى به الستالينيون في 1964 قبل أن يتعشى بهم إذ أزاحوه في عمل شبه انقلابي وأحلوا محله ليونيد بريجنيف زعيماً للحزب، وهو زعيم مشبع بالعقلية الستالينية، ومغفل عما يجري حوله ومولع بكيل المديح له. وخلال عشرين عاماً من عهده ظل الإنتاج الصناعي ـ الزراعي السوفيتي يراوح في مكانه وتخلف كثيراً عن مواكبة التطور المتسارع في البدان الرأسمالية وأصبح المستوى المعاشي للشغيلة السوفيت يراوح في مكانه وينظرون بعين الحسد إلى مستوى معيشة أخوتهم العمال في البلدان الرأسمالية الغربية. وبدلاً من إشاعة الديمقراطية بشكل أوسع مما في البلدان الرأسمالية سلط جهاز المخابرات (ك ج ب) على رقاب الناس لكي لا يبدي أحد التذمر على الوضع المتدهور الذي ينخره الفساد الإداري والخراب الشامل، ورحل بريجنيف ليخلف وراءه نظاماً مهدداً بزلزال سياسي عاصف.
وفي الثمانينات تسلم كربجوف زعامة الحزب وانتبه إلى الوضع المتدهور ووضع برامجاً لإعادة البناء (البيروسترويكا) ولكنه وقع في ذات الأخطاء التي وقع بها خروشيوف إذ حاول بعض زملائه الستالينيين في القيادة إزاحته في 1991بهدف إعادة الاتجاه الستاليني إلى التسلط. إلا إن حساباتهم كانت خاطئة إذ كان النظام معزولاً عن الشعب فاقداً جاذبيته فلم تتحرك الشغيلة للدفاع عنه، بل حدث الزلزال السياسي المنتظر إذ نضج الوضع لتحرك البرجوازية المكشوف، التي فرخها النظام السوفيتي نفسه في ظل الفساد الناجم عن سيادة الاتجاه الستاليني داخل الحزب، وقفز الشيوعي المرتد بوريس يلسن إلى قمة السلطة مدعوماً من جهاز المخابرات ك ج ب ومن الجماهير.
وبسقوط النظام السوفيتي كان من الطبيعي أن تسقط الأنظمة الاشتراكية الأخرى في أوروبا لأن العلاقة بينها وبين موسكو لم تقم على أسس أممية متوازية كما يفترض، بل كانت علاقات التبعية وراء القيادة السوفيتية، ولأن تلك الأنظمة كانت مصابة بجميع الأمراض والعيوب التي وجدت في النظام السوفيتي.
كان سقوط النظام السوفيتي بعد أكثر من سبعين عاماً على انتصار ثورة أكتوبر أكبر حدث تاريخي في ظروف العولمة المتقدمة، خلال النصف الثاني من القرن العشرين، وأكبر انتكاسة للحركة الشيوعية والعمالية في القرن العشرين، وغيّر ذلك توازن القوى على المسرح الدولي إذ اختفت عن الساحة إحدى القوتين العظميين، وانفردت الدولة البرجوازية العظمى ـ أمريكا ـ بزعامة العالم، ولو بصورة مؤقتة، وانتعشت آمال مناصري النظام الرأسمالي بأن ثبت خطأ الشيوعيين في حتمية سقوط الرأسمالية.
بسقوط النظام السوفيتي وعودة الرأسمالية إلى الحكم في 1991 انتهت المرحلة الثانية من تأريخ الحركة العمالية ـ الاشتراكية. وكما أسبقنا اقترن ذلك بانتكاسة عميقة، فكرية وسياسية وتنظيمية لهذه الحركة، بعكس ما كان الأمر في ختام المرحلة الأولى حيث اقترن بانتصار ثورة أكتوبر. ورغم إن الشيوعيين لا يزالون على رأس السلطة في ثلاثة بلدان أسيوية وبلد أمريكي لاتيني، يقطنها حوالي خمس البشرية، إلا أن ذلك لا يبعث على الكثير من التفاؤل لأن الأنظمة المتبقية تعاني من كافة الأمراض والعيوب التي سببت سقوط النظام السوفيتي. ورغم أن الإنسان لا يستطيع التنبؤ القاطع بمفاجآت المستقبل، إلا أن أغلب الظن أن الأنظمة الاشتراكية المتبقية سائرة إلى نفس المصير.
والسؤال المطروح اليوم: هل أن سقوط النظام الاشتراكي السوفيتي كان الكلمة الأخيرة للتاريخ؟ هل ذهبت الاشتراكية إلى غير رجعة وتوطدت أركان النظام الرأسمالي لتبقى إلى الأبد، أم أن ما حدث كان مجرد فصل جديد وستعقبها فصول أخرى؟ هل أن الحركة الشيوعية ـ العمالية، التي انتصرت في ثورة أكتوبر 1917ماتت إلى الأبد ولن تعود إليها الحياة أبداً؟
إن وقائع التأريخ قدمت أجوبة على هذه الأسئلة. فالإنسان البدائي الذي كان يعيش في الكهوف حياة شبه حيوانية (العصر الحجري) انتقل تدريجياً وعبر مراحل متدرجة إلى حياته المعاصرة بين ناطحات السحاب والسفر بالطائرات والإنترنيت ...ألخ. وقبل قرون لم يكن هناك وجود لما نسميه اليوم بالنظام الرأسمالي. واحتاجت الرأسمالية إلى مئات السنين لكي تصل من بدايتها المانيفكتورية إلى حالتها الراهنة من الأتمتة الصناعية. وقطعت الرأسمالية مسيرتها الطويلة مقرونة بسلسلة طويلة من الأزمات والانتكاسات والحروب، بما في ذلك حربان عالميتان، قبل أن تصل إلى وضعها الراهن. فما الغرابة في أن تفشل التجربة الأولى، وعمرها سبعون عاماً، في مسيرة التحول من الرأسمالية إلى الاشتراكية؟
إن انهيار النظام الاشتراكي خسران جولة في لعبة الصراع الطبقي وليس خسران اللعبة بوجه عام. فالصراع مستمر والآية ستنقلب في صالح الشغيلة عاجلاً آم آجلاً. فالرأسمالية كنظام اجتماعي اقتصادي قائمة على استغلال الشغيلة. وهذا الاستغلال أوجد صراعاً طبقياً يمكن أن يطول زمنه أو يتبدل شكله ولكنه لا يمكن أن ينتهي إلا بزوال أساس الاستغلال ـ أي أسلوب الإنتاج الرأسمالي، كما كان الحال مع النظاميين العبودي والإقطاعي.
متى تبدأ المرحلة الجديدة؟
والسؤال المطروح الآن: متى تبدأ المرحلة الجديدة الثالثة من تأريخ الحركة العمالية الاشتراكية وما هي سمات وخصائص هذه المرحلة؟
مرت قرابة ربع قرن على سقوط النظام السوفيتي وتواصل خلالها النضال بأشكاله الروتينية الكلاسيكية دون أن يلوح في الأفق شيء يشير إلى أي تغيير نوعي في التوجهات الفكرية ـ السياسية ـ التنظيمية، التي تشير إلى حلول مرحلة جديدة في إدارة الصراع، الذي لم ولن يتوقف بين المستغِلين والمُستغَلين. ويتراءى لي أن ليس من الصواب انتظار ظهور ماركس جديد ليضطلع بإعادة بناء الصياغات النظرية لأفكار إدارة الصراع الطبقي في ظروف العولمة الراهنة. فالعالم اليوم، بعد قرنين من التقدم العلمي التكنيكي ومن توافر تجربة الصراعات الطبقية، زاخر بأعداد كبيرة من المثقفين والعلماء المعنيين بقضايا الصراعات السياسية، الطبقية والقومية وغيرها، والقادرين على الإسهام في إعادة الصياغة للفكر الاشتراكي العلمي وما يرتبط به من التوجهات السياسية والتنظيمية. ومن المؤكد إن الجهد الجماعي لهؤلاء يقدم أفضل النتائج. وتوافر الصحافة الإلكترونية، التي لا تحتاج إلى حامل البريد أو فيز المرور، يساعد على النقاشات وتبادل الآراء بين المعنيين أينما كانوا من هذا العالم.
ويطيب لي أن أطرح فيما يلي آرائي حول السمات الرئيسية التي يفترض أن تتسم بها المرحلة الثالثة المرتقبة من الصراع بين المُستغِلين والمُستغَلين. فما هي تلك السمات المفترضة؟
* * *
السمات المفترض أن تتصف بها المرحلة الجديدة من تأريخ الحركة الاشتراكية العمالية، من حيث الأهداف وأساليب العمل وأشكال التنظيم، تكون على الوجه التالي:
الهدف
لا تغير في الهدف الاستراتيجي الأساسي، بالمقارنة مع المرحلة السابقة، وهو الوصول إلى السلطة لإسقاط سلطان الرأسمال وإقامة نظام جديد سياسياً واقتصادياً، نظام اشتراكي يُلغى فيه استغلال الإنسان للإنسان عن طريق إزالة أسلوب الإنتاج الرأسمالي القائم على الملكية الخاصة لوسائل الإنتاج، وإقامة أسلوب جديد في الإنتاج، أسلوب الإنتاج الاشتراكي القائم على الملكية العامة لوسائل الإنتاج، وتجب هنا الإشارة إلى إنني أتحدث هنا عن البلدان الرأسمالية المتطورة، وليس عن البلدان النامية التي تكون بحاجة إلى مرحلة انتقالية يُستكمل فيها التطور الديمقراطي والبناء الاقتصادي ـ الصناعي، من أجل تهيأة القاعدة المادية ـ التكنيكية للتحول الاشتراكي. كما تجب الإشارة أيضاً إلى أنني أتحدث هنا عن النظام الاشتراكي الاجتماعي وليس عن النظام الشيوعي الذي سأفرد له فقرة خاصة.
أسلوب النضال السياسي
مرت عصور من العهد الرأسمالي وما قبله كان فيها العنف الأسلوب السائد في أي مسعى لتغيير النظام أو تحقيق أهداف سياسية بين الدول أو داخل الدولة الواحدة. وقد شهد القرن العشرون رقماً قياسياً في نشوب الحروب والانقلابات العسكرية، وكانت ضمنه حربان عالميتان لم تفصل بينهما سوى عشرين عاماً. وفي مجرى تقدم العولمة تغيرت هذه المعادلة في الحقبة التأريخية الأخيرة إذ تقلصت الحروب والانقلابات وظاهرة استخدام العنف كوسيلة لحل المنازعات الدولية. ومرت 75 عاماً على انتهاء الحرب الكونية الثانية حوفظ فيها على السلم العالمي، وإن لم تزل فيها خطر نشوب حرب عالمية ثالثة، أو حروب إقليمية. غير أن تقلص الحروب اقترن بتفشي لون جديد من العنف الذي يسود اليوم كثرة من بلدان العالم في شتى القارات، وهو العنف الذي تمارسه الفئات الإرهابية المتطرفة، المدعومة من دول نفطية ودول أخرى تمارس نفسها الإرهاب المنظم. ولا يمر يوم دون إزهاق الأرواح لعدد كبير من الضحايا الأبرياء للتفجيرات الإرهابية والانتحارية في شتى البلدان.
وهكذا فإن العنف تقلص بشكله الكلاسيكي من جهة وتوسع بشكله الجديد الإرهابي من جهة أخرى. وتعاظمت على الصعيدين الرسمي والشعبي وفي UN القوى المطالبة بالكف عن العنف واعتماد الحوار والتفاوض كوسيلة لحل المنازعات. وهذه ظاهرة هامة أعطت وتعطي أكثر فأكثر ثمارها وترجح كفة أنصار الحل السلمي في العلاقات وتقصر عمر الفئات الإرهابية المتطرفة. والمكان الطبيعي لليسار الجديد لا يمكن أن يكون إلا بين مناصري الحلول السلمية للمشاكل. والعنف كوسيلة للوصول إلى السلطة وللبناء الاشتراكي قد فات أوانه وذهب إلى غير رجعة.
اليسار الجديد مدعو إلى الإعلان عن رفضه للعنف واعتماده على السبل السلمية في النشاط السياسي واعتماد صناديق الاقتراع للوصول إلى السلطة ولتداول السلطة. ولا نرى من الصحيح تكرار التجربة السوفيتية والتشبث بكرسي الحكم عندما يفقد النظام ثقة أغلبية الناخبين في البلاد.
الديمقراطية في الحكم
الديمقراطية بمفهومها الراهن ظاهرة من الظواهر الاجتماعية ونتيجة طبيعية للتطور الحضاري العلمي ـ التكنيكي عبر القرون المتعاقبة. وهي مكسب كبير كان للشعوب الأوربية شرف السبق في النضال من أجله ضد اضطهاد وإرهاب الكنيسة المسيحية المستبدة في القرون الوسطى. في الماضي لم يكن اتخاذ القرارات المصيرية إلا في أيدي الملوك والكنيسة. ومنذ أولى النجاحات في انتزاع حقوق الشعب الديمقراطية وتبعاً للتطور التدريجي الدائب للديمقراطية بدأت عملية متوازية في تغيير صلاحية اتخاذ القرارات المصيرية ونقل هذه الصلاحية من الملوك إلى الشعوب نفسها، وقد أطاحت الجماهير بالأنظمة الملكية في بعض البلدان وبقي الملوك في بعض البلدان كرموز لا صلاحية لها، بل انتقلت إلى البرلمان والحكومة، بينما بقي الملوك بين بين في البلدان النامية.
والديمقراطية تستند على أركان عدة أهمها الانتخاب البرلماني، وهي ظاهرة اجتماعية نسبية شأن سائر الظواهر وتكون على مستويات متباينة في مختلف المجتمعات. كما تكون في حاجة دائمة إلى إعادة النظر في درجة تطورها بهدف نقلها إلى مستوى أرقى. ولا يحق لأي بلد في العالم أن يدعي بأنه يملك اليوم ديمقراطية متكاملة. فالحياة الاجتماعية في تطور مستمر لا يتوقف أبداً والديمقراطية أصبحت حاجة من حاجات المجتمع ولا مناص من أن تكون هي الأخرى في تطور مستمر لكي تواكب تطور المجتمع نفسه. وبخلاف ذلك يختل التوازن بين ما يحتاج إليه المجتمع من الديمقراطية وبين مستوى التطور الديمقراطي. وكمثال للتوضيح نأخذ ما جرى في بريطانيا العريقة في التطور الديمقراطي.
رحب المجتمع في يوم من الأيام بظهور الانتخابات النيابية في بريطانيا دون أن يفكر أحد مجرد التفكير فيما إذا كانت الانتخابات على أساس التمثيل النسبي أفضل منه على أساس نظام الدوائر الانتخابية الذي أخذ به البريطانيون. إلا أن تطور الحياة الاجتماعية خلال أكثر من قرن كشف عن حقيقة أن النظام الانتخابي القائم على التمثيل النسبي هو الأفضل والأكثر عدالة، فتبنت أغلبية الدول الأوربية فكرة التمثيل النسبي في حين جمدت بريطانيا على قاعدة نظام الدوائر الانتخابية حتى اليوم دون المبالاة بحقيقة إن هذا النظام يفتقر إلى العدالة إذ يحرم نسبة كبيرة من الناخبين قد تزيد عن 40% من حق التمثيل في البرلمان وينقل حق التصرف بأصواتهم إلى الفائزين في المنافسة الانتخابية، في حين أن التمثيل النسبي يضمن حقوق جميع الناخبين في التركيبة البرلمانية. وقد انتقل هذا النظام اللاعادل إلى بلدان أخرى كانت سابقاً من مستعمرات بريطانيا كالولايات المتحدة الأمريكية وكندا وأستراليا .. الخ.
إن اليسار الجديد مطالب بأن يحرص على الديمقراطية بأفضل أشكالها ويرفض القيود التي أوجدتها البرجوازيات الحاكمة في أوربا من قبيل الاشتراط على الحزب المشارك في الانتخابات على كسب 5% أو 7% من أصوات الناخبين لكي يسمح له بدخول البرلمان، فالديمقراطية ضرورية ولا يمكن الاستغناء عنها سواء في مرحلة النظام الرأسمالي أو النظام الاشتراكي. والخطأ الذي ارتكب في العهد السوفيتي، وأعني تجزأة الديمقراطية إلى: «ديمقراطية برجوازية» و«ديمقراطية بروليتارية» يجب ألا يتكرر. وإذا كانت البرجوازية الحاكمة تجد من مصلحتها التحايل على الديمقراطية فإن من مصلحة اليسار الجديد أن يوفر للشعب الديمقراطية بأفضل أشكالها.
التمييز بين الاشتراكية وبين الشيوعية
غيّر لينين اسم (الحزب الاشتراكي الروسي) إلى (الحزب الشيوعي الروسي) ليميزه عن الأحزاب الاشتراكية الديمقراطية التي أدارت ظهرها لقضية الثورة الاشتراكية والأممية. وسمّت الجماعات الاشتراكية الثورية أحزابها بالشيوعية، دون تدقيق و تمحيص، اقتداء بالبلاشفة الروس. وقد اقترن هذا التغيير في الاسم بتغيّر جوهري في الأهداف، حيث تخلت الأحزاب الاشتراكية الأوربية عن قضية الثورة الاشتراكية. بيد أنه كان له نتائج سلبية أيضاً إذ خلق نوعاً من الالتباس بين مرحلتين من التطور الاجتماعي، المرحلة الاشتراكية والمرحلة الشيوعية. وسميت الأنظمة التي أصبح الشيوعيون على رأسها بـ«أنظمية شيوعية» ولم يعد هناك أي فرق بين المرحلتين بالنسبة لعامة الناس المؤيدين والمعارضين. وبسّط لينين نفسه هذا الفرق إلى حد المبالغة عندما قال أن الشيوعية عبارة عن النظام السوفيتي+ كهربة روسيا. وذهب القادة والمنظرون السوفييت إلى مبالغات أكثر حين كانوا يتحدثون عن الشيوعية، في النصف الثاني من القرن العشرين، وكأنها غدت قاب قوسين، في وقت كان النظام الاشتراكي السوفيتي يعاني من أمراض خطيرة تهدده بالانهيار.
إن فرضية "من كل حسب طاقته ولكل حسب عمله" مفهومة ومعقولة قائمة على بناء توازن منطقي بين عمليتي الإنتاج والتوزيع ولا يتضمن الغبن لأحد. فالجميع يشاركون في العمل ويكافأون كل حسب مقدار مشاركته. أما فرضية "من كل حسب طاقته ولكل حسب حاجته" وهي الفكرة التي يفترض أن يقوم عليها البناء الشيوعي كنظام اجتماعي، فإن التوازن فيها مختل منذ البداية، إذ هي تساوي بين مهندس مبدع موهوب و بين عامل كولي لا يملك أيَ قدر من المهارة. ولا أعتقد إن من حقنا الآن أن ننوب عن ذلك المهندس، الذي يظهر في مستقبل مجهول، لنتنازل عن حقه ونعطي قسطاً غير قليل من هذا الجهد ـ زيادة عن مساهمته الأصولية في دفع الضرائب ـ لرجل آخر يكون الفارق بين قدراتهما في الإنتاج كبيراً. وقد يكون بدل المهندس بروفيسور واسع النشاط في مجال علمي حساس، ويكون بدل العامل الكولي فراش مدرسة لا يصلح لأي عمل آخر.
إننا نخوض هنا موضوعاً مستقبلياً مجهول الأبعاد. ولا أرى من الصواب أن نكرر خطأ البعض من القادة السوفييت ومنظريهم، الذين زعموا إن النظام الاشتراكي اكتمل بناءه وبات النظام الشيوعي قاب قوسين، في وقت كانت الاشتراكية مصابة بأمراض تدفعها نحو الانهيار. إن الشيوعية يمكن أن تناقش في الأبحاث النظرية، ولكن من غير الضروري ومن غير الصحيح أن نتناولها كشيء مرتبط بأهدافنا المرحلية الراهنة. ولا أرى من الصواب أن نسمي أحزاب اليسار الجديد بأحزاب شيوعية ـ يكفينا أن نستخدم مصطلح الاشتراكية كتسمية للأحزاب وكهدف استراتيجي ليس قريب المنال ما دمنا نعتمد أسلوب النضال السلمي وصناديق الاقتراع والتداول السلمي للسلطة. نحن نعرف البون الشاسع بين الوضع العالمي الراهن الذي نعيش فيه ونكتب في ظروف العولمة والإنترنيت والوضع الذي عاش ماركس وكتب فيه في القرن التاسع عشر. وقد تطرأ تغيرات أكبر بعد قرن أو قرنين، والمنظر (تابلو) ليس واضحاً لنا اليوم. ولهذا أرى أن نترك مسألة الشيوعية للأجيال القادمة.
أي طبقة يمثل اليسار الجديد؟
المصطلح التقليدي تأريخياً هو أن الحزب الاشتراكي الماركسي يمثل الطبقة العاملة، بل يشكل طليعتها السياسية. وهذه المقولة كانت صحيحة سابقاً. ولكنني اعتقد إن ظروف العولمة وما اقترن بها من تطورات على تركيبة رأس المال العالمي وعلاقاتها فيما بين أ قسامها المختلفة على الصعيد الدولي وما استجد من تركيبة الطبقة العاملة وفئات من البرجوازية الصغيرة ...ألخ، كل ذلك قرب بين مصالح ومواقف الطبقة العاملة وفئات وشرائح اجتماعية لم تحسب سابقاً ضمن الشغيلة، بل كانت محسوبة على البرجوازية الصغيرة والقريبة من البرجوازية عامة. أشير بوجه خاص إلى جهاز منتسبي الدولة، وهم عدد ضخم من الناس ويشغلون مركزاً حساساً في الحياة الاجتماعية ويعتاشون على الرواتب الشهرية التي لم تزدد بخط مواز لازدياد أسعار المواد المعيشية خلال عشرات السنين الأخيرة. فوجدوا أنفسهم يراوحون ـ إلا نسبة ضئيلة منهم ـ في مستواهم المعاشي أو ينزلون إلى مستوى أدنى. أنا لا أملك الإحصاءات والدراسات بهذا الصدد ولست في الوضع الذي يساعدني على القيام بهذه الدراسات، ولكنني أتصور إن الأمور تطورت على هذه الشاكلة ليس فقط بالنسبة إلى جهاز موظفي الدولة، بل كذلك بالنسبة إلى بعض الشرائح الأخرى من المجتمعات الرأسمالية، وأعني فئات من الحرفيين والمزارعين وسأكون ممتناً لمن يستطيع تقديم الدراسات المدعومة بالإحصاءات الموثقة، سواء تدعم رأيي أو تفنده.
إن ما يجمع بين العمال وبين موظفي جهاز الدولة البرجوازية هو أنهم يؤدون عملاً، عضليا كان أم فكريا، لقاء أجور يأخذونها من من القطاع العام أو الخاص. وما يجمع بين هؤلاء وبين فئات من المزارعين وبقايا الحرفيين هو أنهم جميعا يكدحون لكي يعيشوا. وهذا القاسم المشترك بينهم يدخلهم جميعا ضمن ما اصطلح على تسميته بـ«الشغيلة»، وهم الجماهير التي لها مصلحة في قيام نظام اشتراكي تسوده العدالة الاجتماعية، التي لن تسود المجتمع الرأسمالي أبدا.
فاليسار الجديد يفترض أن يكون التنظيم السياسي ـ الحزبي ـ الذي يحل محل الحزب الشيوعي التقليدي بالمواصفات الجديدة المتميزة. فيسمى، مثلا، حزب الشغيلة السويدي. وبديهي أن اليسار الجديد لا يحتكر لنفسه الاتجاه السياسي اليساري ولا يرفض التحالفات السياسية، الانتخابية وغير الانتخابية، مع أي تيار سياسي يساري أو حتى غير يساري.
الأممية الاشتراكية في الظروف المستجدة
فكرة الأممية في العلاقات بين البشر فوق كوكبنا من أجمل وأعظم الأفكار التي تضمنتها الماركسية منذ القرن التاسع عشر. فهي وضعت حدا فاصلا بين عهدين من تاريخ البشرية، عهد سابق من التخلف والتوحش، الذي ساد العلاقات بين القبائل والتجمعات السكانية طوال العصور المنصرمة وعهد لاحق يختفي فيه العدوان ويحل محلها علاقات التآخي والتعايش السلمي بين الشعوب. ورغم أن العهد الرأسمالي اقترن بتطور كبير للعلم والتكنيك فإن النظام الرأسمالي ورث التخلف والتوحش من عهود الماضي السحيق وأغرق العالم في سلسلة من الحروب المدمرة فيما بينها أو ضد الشعوب المُستعمَرة أو ضد شعوب بلدانها، بما في ذلك حربين عالميتين خلال النصف الأول من القرن الماضي. وعلى العكس مما فعلته الدول البرجوازية، فإن الحركة العمالية في أوروبا وغيرها وضعت أفكار التضامن الأممي موضع التطبيق إذ هبّت من مختلف البلدان في مظاهرات وانتفاضات لدعم ثورة أكتوبر ضد اعتداء وتدخل الجيوش الاستعمارية ولنصرة البلاشفة.
على أن القيادة السوفيتية شوهت العلاقات الأممية عندما انحرفت عن المسار الصحيح للبناء الاشتراكي، فحولت العلاقات مع الأحزاب الشيوعية الأخرى إلى علاقات تسلط وتبعية، بالأخص خلال النصف الثاني من القرن العشرين. وبات من الضروري أن تُعاد صياغة العلاقات الأممية بين أحزاب الشغيلة أو أحزاب اليسار الجديد على ضوء التطورات العولمية ووفق متطلبات الأوضاع الجديدة. ولا بد من الانتباه هنا إلى نقطة هامة هي أن الأممية لم تعد حكرا على الماركسيين، بل نقلها التطور الحضاري العولمي إلى المجرى العام للعلاقات الدولية وإلى مناهج وإجراءات منظمة الأمم المتحدة. وقد اصطلح دوليا على تسمية الأممية بـ«الإنسانية»، وهي تسمية مقبولة ومعقولة. ولا يندر في وسائل الإعلام المختلفة استخدام كلمة «الأممية»، وهي تتجسد في تقديم المعونة بشتى أشكالها الاقتصادية والسياسية والفنية والثقافية إلى الشعوب والدول المنكوبة بسبب كوارث طبيعية أو التعرض لعدوان من الخارج أو من الداخل. وهذه المعونات الإنسانية ليست هبة من الأنظمة البرجوازية التي تشارك في تقديم العون سواء عبر الـ UN أو بشكل آخر، بل هي من ثمار التطور الحضاري العولمي الذي يخلق ويفرض قيما جديدة رغم أنف الجميع. إن العلاقات الجديدة بين أحزاب الشغيلة لا تعني حظر إسداء النصح أو النقد الأخوي بين حزب وآخر، بل تعني حظر التسلط وحظر فرض التبعية باي ذريعة كانت.
البناء الاشتراكي
إن التحول من الرأسمالية إلى الاشتراكية في بلد رأسمالي متطور أمر متاح ولكنه ليس سهلا، إذا أخذنا بنظر الاعتبار أن هذا التحول يجري في بلد انتصرت فيه الرأسمالية منذ قرون ووطدت خلالها أركانها واكتسب الحكام خبرة واسعة في مواجهة واجتياز الأزمات والصعاب المتنوعة، وهم يقاومون بكل ما أتيح لهم البناء الجديد. لكن باستطاعة بناة الاشتراكية بدورهم أن يستفيدوا من تجربة بناء وانهيار النظام الاشتراكي السوفييتي وأن يستغلوا إخفاق النظام الرأسمالي في تحقيق ما يتطلع إليه الشغيلة من عدالة اجتماعية مبنية على إلغاء استغلال الإنسان للإنسان.
إن استلام السلطة السياسية في ظروف أزمة سياسية كظروف 1917 في روسيا أمر سهل المنال وقد تستغرق ساعات أو أياما. إلا أن الصعوبات كثيرة في بناء النظام الجديد وترسيخ أركانه. فالوقائع كشفت لنا عن أن تلك العملية فشلت بعد حوالي سبعين عاما من الثورة. أما في الظروف الجديدة، ظروف التطور السلمي واعتماد صناديق الاقتراع، فإن من المتوقع أن تسير العملية ببطء شديد وأن يستغرق وقتا طويلا يتخلله النجاح والتقدم تارة والإخفاق والعودة إلى الوراء تارة أخرى. فالنجاح هنا لا يتوقف فقط على تحقيق ما تصبو إليه الجماهير الكادحة، بل يتوقف كذلك على النجاح في اللعبة الانتخابية، وخصوصا في كسب أصوات الناخبين المترددين الذين لم يقرروا قبل الانتخابات لمن يصوتون. علما أننا نكون إزاء خصم سياسي يسخو في الإنفاق على الدعاية الانتخابية ويملك خبرة كبيرة في ممارسة التضليل الإعلامي في اللعبة الانتخابية.
وأيا كان الأمر فإن الصراع الطبقي بين العمال وكل الشغيلة ضد الرأسمالية سيكون بأشكال وأساليب جديدة مغايرة لما كتب في المؤلفات الماركسية وجُرب في الثورات الاشتراكية في سنوات القرن العشرين. وأغلب الظن أن قضية الانتقال إلى الاشتراكية تمر بمرحلة انتقالية طويلة الأمد، يقوم خلالها قطاع مختلط اشتراكي ـ رأسمالي، أو يبتكرون أشكالا جديدة من الملكية الاشتراكية ويفسحون المجال لإقامة تعاونيات مستقلة عن الدولة ومسؤولة بنفسها عن إدارة الإنتاج والتوزيع والتسويق. ويتأتي على الدولة أن تنظم المنافسة بين المنتجين بمعنى الكلمة الصحيح وأن ترعى عنصر التحفيز المادي والمكافأة المالية اللائقة للمبدعين والمخترعين. ولكي يستفاد من التجربة السوفييتية في البناء الاشتراكي ينبغي ضمان التعددية السياسية واستمرار التنافس السلمي الديمقراطي الحقيقي وليس المفتعل في إدارة البلاد، ورفض الاقتصار على الحزب الواحد الذي يتنافى مع التنافس السياسي السليم. فالمنافسة ضرورية حتى في إطار البناء الاشتراكي كعامل من العوامل الأساسية لكشف نقاط الضعف والأخطاء والتصدي للجمود ولظواهر الفساد قبل فوات الأوان.


اليسار الجديد في البلدان النامية
لا جدال في أن اليسار الجديد مدعو إلى أن يتخذ من البلدان النامية، التي تشكل القسم الأكبر من عالمنا فوق المعمورة، ميدانا من ميادين نشاطه. فالظلم والاستغلال في هذه البلدان أوسع وأكثف من البلدان الرأسمالية المتطورة، والتربة خصبة للنشاط السياسي مما يساعد على ترحيب الجماهير الكادحة الحار ببرامج وأهداف اليسار السياسي. والسمة المميزة لهذه البلدان، أو لغالبيتها الساحقة، هي أنها متخلفة، ولو بدرجات متفاوتة، من حيث المستوى العلمي ـ التكنيكي، ومن حيث التطور الديمقراطي، عن البلدان الرأسمالية المتطورة. ولهذا السبب لا يصح أن يكون الهدف الاستراتيجي المرحلي للنضال في هذه البلدان كما هو في البلدان الرأسمالية المتطورة. من المؤكد أن هذه البلدان تعيش في مستويات متباينة وأن ظروف كل بلد هي التي تحدد كيفية التعامل معها سياسيا. إلا أن سمة التخلف المشتركة بينها، أو بين غالبيتها الساحقة تجعلها في حاجة إلى إزالة أو تقليص الفارقين ـ التخلف العلمي التكنيكي الصناعي + تخلف مستوى التطور الديمقراطي وما يترتب على ذلك، لكي تنضج مستلزمات التحول الاشتراكي.
اليسار الجديد والـ UN
انبثقت UN (منظمة الأمم المتحدة) من تعاون وانتصار النظاميين الرأسمالي والاشتراكي ضد الفاشية في الحرب الكونية الثانية. وخلال الـ(74) سنة المنصرمة لعبت دوراً بارزاً، إيجابياً في أغلب الأحيان، في التأثير على مجرى الأحداث في العالم. وكان من الطبيعي أن تسعى الدول الكبرى لوضع هذه المنظمة في خدمة أهدافها الخاصة. لكن هذه المساعي اصطدمت بالتقدم الحضاري المطرد في ظروف العولمة المتقدمة وبانضمام عدد ضخم من الدول الوطنية المنبثقة من انهيار النظام الكولونيالي في العالم، إلى قوام UN ، وتأسيس حركة عدم الانحياز العالمية التي غلب فيها الطابع المناوئ للإمبريالية. وتجلت حقيقة تطور UN في أن المرحلة الثانية من تأريخ المنظمة تميزت بكثرة الفيتوات الأمريكية، وخصوصاً في الدفاع عن إسرائيل، بعكس المرحلة الأولى التي تميزت بكثرة الفيتوات السوفيتية. ورغم إننا لا نملك ضماناً لصمود UN أمام كل الأعاصير البرجوازية وتنامي دورها المستمر في أداء مهماتها، إلا أن من واجبنا وواجب كل حريص على السلم والحرية والديمقراطية في العالم أن نحرص على بقائها وتطوير دورها المتنامي في حل المنازعات بالسبل السلمية وتنسيق المجهود الدولي ضد العنف و الإرهاب وخطر الحروب وسباق التسلح ولمواجهة التحديات الكثيرة التي تهدد البشرية من قبيل مشكلة الجفاف والأمراض العصية والمخدرات والتدخين والفقر وما إلى ذلك.
ولكي تستطيع UN أداء دورها المطلوب في الظروف المستجدة فإن عليها أن تعيد بناء نفسها، بعد مرور 74 عاماً على تأسيسها، وبعد كل هذه التغيرات التي طرأت على العالم. ولا بديل عن عقد اجتماع عالمي لهذا الغرض تشارك فيه وفود الدول المنتسبة إليها وأكاديميون أخصائيون في الأمور الضرورية من قبيل إعادة صياغة مواثيق المنظمة وتركيبها وتفرعاتها بشكل يستجيب لمتطلبات العولمة واستحقاقات التغيرات الكبيرة التي طرأت خلال 74 سنة المنصرمة ومن الضروري أن يعاد النظر في اجتماعات دورية، مرة كل عشر سنوات، بهدف إجراء التعديلات في تركيب المنظمة ومهماتها وأدائها.
ويتأتى على اليسار الجديد أن يناقش ويصوغ أفكاره بهذا الصدد، كفكرة إعادة النظر في صلاحيات الجمعية العمومية للمنظمة ومجلس الأمن التابع لها، وضم أعضاء جدد دائميين ودوريين إلى قوام المجلس وإلغاء الفيتو واشتراط موافقة الثلثين بالنسبة إلى القرارات الهامة، وتطوير صلاحياتها لكي تستطيع مراقبة ميزانيات الدول وإبداء الملاحظات حول مخصصات الصحة وبعض الخدمات العامة وقضايا التسلح والشؤون العسكرية وقضايا المساعدات المالية من الدول المتطورة والدول البترولية إلى البلدان النامية الفقيرة ...ألخ.
إن UN مدعوة إلى صياغة ومراقبة برنامج لمكافحة ظاهرة الفساد في العالم، وخصوصاً في بعض الدول، وقبل كل شيء إلى التصدي للفساد المستشري في صفوفها نفسها.
الموقف من الدين
التدين مسألة شخصية متروكة لكل إنسان لكي يحدد موقفه. ويرفض اليسار الجديد إقحام الدين في السياسة، كما يرفض في الوقت نفسه أي تجاوز على الأديان والمذاهب وعلى حق الناس في ممارسة طقوسهم الدينية، وعلى المعابد والمؤسسات الدينية، ويدين كل اضطهاد للناس بسبب دينهم أو مذهبهم، كما يرفض إكراه أي إنسان على التخلي عن دينه أو مذهبه والانتقال إلى دين آخر. كما يدعو رجال الدين وكل المتدينين في العالم إلى نبذ التعصب الديني واحترام التعددية الدينية وإقامة العلاقات الأخوية بين منتسبي مختلف الأديان.
وينفتح اليسار الجديد إزاء الراغبين في الانتساب إليه من المتدينين واللامتدينين شريطة تبني برنامجه السياسي والالتزام بقواعد عمله التنظيمي.
حماية البيئة
أوجد التطور الصناعي مشكلة تلوث البيئة، وهي مشكلة مشتركة بين الناس على اختلاف قومياتهم وأديانهم وألوانهم، إذ ليس هناك ما يجمع بين الصحة العامة والأمان والبهجة وبين تلوث البيئة التي يعيشون فيها، وبديهي أن المسؤولية الأساسية في حماية البيئة إنما تقع على الأنظمة الحاكمة، وبالدرجة الثانية على المؤسسات الصناعية المعنية. إلا أنه لا يمكن الاستخفاف بدور المنظمات، السياسية وغير السياسية، بل حتى دور الفرد الواحد في الحفاظ على نظافة البيئة.
التوجهات التنظيمية عند اليسار الجديد
تستهدف أحزاب اليسار الجديد السلطة السياسية عبر النضال السلمي والانتخابات البرلمانية. وليس عبر الكفاح المسلح ودكتاتورية البروليتاريا، ولهذا لا يمكن بناء أحزابنا الجديدة على الطراز اللينيني المعهود، وليس خافياً إن التطور العلمي ـ التكنيكي العاصف، المقرون بالدعاية البرجوازية المدروسة الهادفة إلى التقليل من اهتمامات الشباب بالشأن السياسي، خاصة في البلدان الرأسمالية المتطورة، يضاف إلى ذلك تأثير الأنترنيت والفضائيات، وكذلك تأثير الانهيار المأساوي للنظام السوفيتي، ... كل ذلك خلق نوعاً من اللاأبالية لدى الشباب تجاه القضايا السياسية.
ومهما كان الأمر فإن اليسار الجديد سيجد أشكالاً جديدة مناسبة لظروف المرحلة المرتقبة في مجال العمل التنظيمي.
كردستان العراق