ماذا لو رفعت داعش راياتها فوق البيت الأبيض الأمريكى؟


محمود محمد ياسين
2014 / 9 / 17 - 02:16     

الإجابة على عنوان المقال يجعل الشخص يسترجع سقوط الامبراطورية الرومانية فى القرن الخامس الميلادى على يد القبائل الجرمانية الهمجية التى كانت قلة قليلة من قادتها بالكاد تستطيع القراءة والكتابة. والباعث لهذا الإرتجاع هو الإرتداد فى تطور المجتمع البشرى بين الواقع فى حدث إندثار روما القديمة وبين الخيال فى الحلم الداعشى؛ والعرض أدناه يلقى ضوءاً على هذه المماثلة.

الاسلام السياسى هيّأت وتهيئ ظهوره فى بلدان غرب آسيا وافريقيا شروط سياسية تعبرعن أوضاع إجتماعية-اقتصادية محددة، وثقافياً يفاقم من إنتشاره افتقار المجتمعات المعنية للحداثة تكرسه انظمة حاكمة مستبدة؛ وهذا ما يفسر تعدد اشكاله المختلفة بإختلاف الدول التى ينشط فيها: جماعة الاخوان المسلمين -حزب التحرير -النهضة التونسية -حماس - بوكو حرام -داعش – جبهة النصرة -طالبان، الخ. وهكذا تباينت نشاطات تنظيمات الاسلام السياسى، فبينما وظف بعضها نفسه فى خدمة المشاريع الاستعمارية منذ اوائل القرن العشرين، ولدت أخرى فى قلب حركات التحرر الوطنى كما فى حالة حركة حماس وصراع الفلسطينيين مع العصابات الصهيونية. وعدم النظر الى هذه التنظيمات ككيانات سياسية تنطلق من مواقف طبقية محددة لا غير، دفع بالبعض الثبات على شيئ واحد وهو مبدأ شيطنتها وإعتبارها حركات أصولية لا تعبر عن صحيح الاسلام.

تنزع حركات الإسلام السياسى فى الممارسة السياسية منزعاً داعماً لعلاقات الإنتاج السائدة والعمل على إستمرارها؛ فالقاسم المشترك بينها هو الحفاظ على العلاقات الإقتصادية (الليبرالية الإقتصادية) كما هى بشرط فرض فكر تكفيرى يعطل الكثير من المظاهر الثقافية الحداثية فى مضامير الافكار والآداب والفنون ويفرض قيوداً على الحرية الشخصية للأفراد ويكرههم على اتباع أسلوب فى الحياة (lifestyle) يرجع لقرون خلت. وتبنى الليبرالية الاقتصادية يقود بالضرورة الى التبعية وبالتالى الإفقار. فالتبعية للدول الغربية ليست خياراً، بل ضرورة إقتصادية لا مفر منها يفرضها على ممثلى الليبرالية الإقتصادية إعتماد نشاطهم (الإقتصادى) على رؤوس الاموال الاجنبية للدول الغربية التى تسيطر على مفاتيح اقتصاديات الدول الفقيرة. فالمراكز الرأسمالية العالمية حولت دول الاطراف لكيانات مهمشة مغلوبة على أمرها أضحت اسيرة توجهات رؤوس الاموال الاجنبية ووصفات مؤسسات التمويل الدولية.

وعلى صعيد الدول االمتقدمة راسمالياً فإن "الضرورة" تعمل كذلك على تمددها خارج حدودها والسيطرة على البلدان الفقيرة من خلال تصدير رؤوس الاموال لها كمسالة موضوعية تحتمها طبيعة عمل (modus operandi) الإنتاج السلعى الذى لا يتوقف عن البحث عن اسواق جديدة تضمن له تحقيق الارباح الفاحشة.....وهذا أدى لظهور "الإستعمار الراسمالى" الذى أشعلته البلدان الغربية بسيطرتها على العالم وتقسيم دوله لمناطق نفوذ بينها فى نهاية القرن التاسع عشر. وعندما لم تعد هناك فضاءات أخرى قابلة للسيطرة، أعادت الدول الإستعمارية الراسمالية تقسيم العالم فى أعقاب كلتا الحربين العالميتين الاولى والثانية. ونتيجة للصعوبات الإقتصادية الشديدة التى تجابه اقتصاديات الدول الغربية وظهور منافسين جدد كالصين، يتصاعد حالياً الصراع الإمبريالى بهدف ترتيب جيوسياسى جديد يعيد رسم خريطة مناطق النفوذ التى وُضعت بعد الحرب العالمية الثانية.

أدت ظاهرة الإستعمار الراسمالى (الإمبريالية) الى توحيد وجهة نضال شعوب العالم. ففى الدول المتقدمة فإن الصراع يتمحور حول هدف تاسيس نظام اجتماعى- إقتصادى اشتراكى بإلغاء الملكية الخاصة لوسائل الإنتاج التى تقع فى تناقض مع الطبيعه الاجتماعية للإنتاج. وفى المقابل صارت الاولوية السياسية فى البلدان الفقيرة لقضية الإنعتاق من الهيمنة الإقتصادية للدول الكبرى بإزالة الراسماليات المحلية التابعة. وهكذا صار هدف تحقيق الإشتراكية فى المجتمعات الإنسانية، كحل لتناقضات وتعقيدات وأضرار الراسمالية، هدفاً استراتيجياً متسقاً مع حركة التاريخ وقوانين تطور المجتمع.

الحركات الاسلامية تعتبر الدول الغربية دولاً كافرة ينبغى أسلمتها، فالمكتب الإعلامي لتنظيم داعش المتطرف أعلن انه سيرفع راية الجهاد فوق البيت البيت الأبيض ويعلن دولة الخلافة الإسلامية داخل الولايات المتحدة قريباً.

ولأن الفكر التكفيرى يرفض تاريخية المجتمعات البشرية وبالتالى تطورها الإطرادى، تغيب عنه حقيقة أن تغيير النظام الأمريكى لا يتم على اساس تصورات لعلاقات مرغوب فيها، بل يرتكز على الدراسة العميقة لتناقضات الواقع التى تفضى الى تقدير حركتها المستقبلية كضرورة تفرضها المرحلة التاريخية؛ وبإختصار العلاقات الجديدة ُتستخرج من حركة الواقع نفسه عندما يصبح عائقاً للتقدم. و النظام الراسمالى الامريكى يقع فى مستوى عالٍ ضمن التسلسل الزمنى لتعاقب التشكيلات الاجتماعية-الاقتصادية ومناهضته، المتساوقة مع طبيعة الصراع العالمى الراهن التى أشرنا لها أعلاه، لا تتم الا بفهم هذه الحقيقية التى تقى من أفكار حول التغيير تُبنى على تقديرات ذاتية.

وعليه فإن رفع رايات داعش فوق ساريات البيت الابيض الأمريكى يعنى تدمير الديمقراطية السياسية الليبرالية التى تحتضن النظام الأكثر تقدماً فى عالم اليوم. الانقطاعات فى تطور التشكيلات الاجتماعية-الاقتصادية ليس مستبعداً وعرف التاريخ نكوص التشكيلات الإجتماعية الإقتصادية بإنتكاستها وعودة انسقة مجتمعية قديمة جاءت ( التشكيلات) فى اعقابها كزوال الإتحاد السوفيتى و فترة الإعادة (restoration) فى فرنسا (1814-1830). ولكن إذا افترضنا بأن حلم داعش بإخضاع أمريكا لنظام الخلافة كما طبق فى قرون سلفت سيتحقق، تكون المماثلة هنا مع أكبر هزة فى تاريخ الحضارة الإنسانية: تدمير القبائل الجرمانية البدائية للإمبراطورية الرومانية. وبالطبع لأن الفارق بين مضمون عمليتى الإرتداد الفعلية والمتخيلة واضح، فإن المماثلة المقصودة هى فقط فى بعدهما الدراماتيكى.

كان النسق الإجتماعى- الإقتصادى والثقافى الذى تقوم عليه روما القديمة الأكثر تقدما في العالم آنذاك، فإقتصادها كان فى عداد الاقتصاديات المتقدمة لعصور ما قبل الثورة الصناعية. كما إن التقدم فى مجال التشريع وسن القوانين يقف دليلاً على عبقرية الحضارة الرومانية. وكانت الفلسفة والآداب والفنون لروما القديمة إمتداداً للإبداعات الباهرة للحضارة اليونانية فى هذه المجالات.

نظام العبودية الذى املته الضرورة الإقتصادية بدأ فى التخلخل وعائقاً أمام التطور فى السنوات الاخيرة للامبراطورية الرومانية نتيجة لثورات العبيد؛ بالإضافة الى إرتفاع تكلفة حيازة الرقيق الذى أصبح الحصول عليه صعباً. وأدى هذا الى ان يجرى صراع كتيم بين ملاك العبيد وقوى إجتماعية جديدة اصبحت تتجه لنشر الملكيات الزراعية التى يتم العمل فيها على اساس أساس القنانة، خلافاَ للنظام العبودى الذى يجعل المنتج (العبد) حيازة شخصية لمالكه. وكان ظهور نظام القنانة فى روما البداية لظهور الاقطاعية بالشكل الذى عرفته أوربا لاحقاً. ولكن تدمير القبائل الجرمانية، التى كانت تعتمد على الصيد وعلى شكل متخلف للزراعة، للامبراطورية الرومانية ومحوها لكل إنجازات الحضارة الاغريقية-الرومانية (Greco-Roman) أوقف هذا التطور وأغرق اوربا فى ظلام العصور الوسطى.