عن -تراجع الإمبريالية- و-العالم المتعدد الأقطاب-


هاني عضاضة
2014 / 9 / 12 - 01:51     

يتزايد الحديث مؤخراً عن "تراجع الإمبريالية"، حتى بين البعض من الرفاق الذين لم أكن أتصوّر انتظارهم إعلان ‘تراجع الإمبريالية’ لكي يكشّروا عن أنيابهم ويقرعوا طبول الحرب ضدّها ويصرّحوا أخيراً بأنها ‘مأزومة’، وكأن الامبريالية نمط من الانتاج قائم بحد ذاته له مساره الخاص ومراحله الخاصة، وليس مرحلة من مراحل الرأسمالية. ناهيك عن مقولة "العالم المتعدد الأقطاب" والتي تفترض ‘عودة’ الصراع التاريخي بين منظومة رأسماليات الدولة (المسمّاة بالمنظومة الإشتراكية خلال الحرب الباردة) وبين الإمبريالية الأميركية والذي انتهى بتفكّك رأسمالية الدولة بوجه نظام متكامل من الرأسمالية المعولمة و’حرية’ السوق. وغيرها من المقولات التي أًصبح التوافق بشأنها ميزة مشتركة بين الكثير من ‘المحلّلين’. ولكن المشكلة التي سنقوم بمعالجتها الآن لا تكمن في تصاريح واستنتاجات وخلاصات وسائل الإعلام والأدوات الفكرية والثقافية للطبقة المسيطرة، بل تكمن في تغلغل هذه الاستنتاجات والخلاصات الجاهزة إلى صفوف بعض اليسار بالذات والتسليم بها دون قراءة جدية ومراجعة وتدقيق ونقد علمي، وهذا ما سنحاول الإضاءة عليه.

إن الفصل بين المنهج الذي بواسطته نقوم بالبحث والتحليل في كل فترة من الزمن، وبين خلاصة البحث والتحليل في فترة زمنية محددة، هو فصلٌ ضروري، كما هو ضروري الفصل بين المنهجين العلمي الثوري والمثالي الرجعي. وإعادة النظر بخلاصة البحث نفسه حتى ولو كانت مبنية على تربة الفكر الثوري ومنهجه ضرورية لمجاراة تحولات الواقع المادي وإلا فالإنزلاق حتمي نحو المثالية، فكيف إذا كانت الاستنتاجات والخلاصات الجاهزة التي نتبناها، أساساً مبنية على تربة الفكر المسيطر، المثالي، ومنهجه؟
إن هذه المقولات بحاجة للكثير من التأمل، ولا يمكننا أن نمرّ عليها مرور الكرام كونها تظهر لنا مدى خطورة الإنزلاق إلى الموقع النقيض من الصراع، لا الصراع الإيديولوجي فحسب، بل السياسي والإجتماعي، فما يتبع الإنزلاق النظري هو ممارسة الطاعة والإنصياع العملي إضافةً إلى النزعة القومية الشوفينية من جهة، أو تعزيز النزعة والممارسات الفوضوية التي تلبس لبوس الفكر الثوري، ليس لأن تلك المقولات هي التي تلحقنا بهذا الخط أو ذاك في الممارسة السياسية، بل لأن الفكر الذي يتّجه لصناعة تلك المقولات هو نفسه الفكر المنتج للتبعية والمبرّر لها بكافة أشكالها وتجلياتها، هو الفكر المسيطر في المجتمع الرأسمالي التابع.

إن أصحاب تلك المقولات، أي "تراجع الإمبريالية" و"العالم المتعدد الأقطاب"، لا يرون من حركة التطور الرأسمالي إلا ما تسمح له بنية فكرهم المستهلِك لما يُطمئِن غروره، والمنزلق في كل حين إلى المنطق الإيديولوجي للطبقة الحاكمة. إذا كنا حقاً نريد العمل لتغيير الملعب بأكمله وليس الإكتفاء بتبديل اللاعبين عبر الإستفادة من ‘الفرصة الذهبية المؤاتية’ لاستبدال علاقات التبعية البنيوية بالإمبريالية بغير نقيضها، إذا كنا نريد تغيير واقعنا المجتمعي بشكل حقيقي أي تدمير تلك العلاقات عوضاً عن الإكتفاء باستبدالها بمثلها، فعلينا أن نفهم واقع مجتمعنا العربي ونقدم التفسيرات الواضحة والواقعية حوله، وأن نمتنع عن فصله عن محيطه الواسع، أي العالمي، وعن سلخه عن القضايا القومية المتعدّدة في محيطه القريب، أي المحلي والإقليمي، والتي تصبّ جميعها في خدمة نشوء وتطوّر حركة تحررية ثورية تتجرّأ على انتهاك ‘قدسية’ تلك العلاقات والقطع النهائي، الحتمي، في اللحظة التاريخية المناسبة مع الرأسمالية. ولكن ليصبح هذا الخيار أكثر واقعية علينا مكافحة إفرازات الرأسمالية من التعصب القومي الشوفيني والتطرف الديني إلى العنصرية والطائفية والتمييز الجنسي، وربطها بشكل حاسم ونهائي بالصراع ضد الكيان الصهيوني وكل الأنظمة الرأسمالية التابعة والرجعية في المنطقة بأسرها.

إن الامبريالية كمرحلة متقدمة من مراحل النمو الرأسمالي بعد عقود من تركّز وتمركز رأس المال والمراكمة المستمرة للثروات في يد القلّة، تتمثّل بالقوى التي تستعمر الدول النامية (دول الأطراف) وتعمل على تحويلها إلى أسواق استهلاكية من خلال ضرب اقتصاداتها ونهب مواردها الأولية والبشرية وإنشاء القواعد العسكرية فيها وتوجيه إنتاجها العلمي والثقافي. وإذا كان لا بد من القول بأن الإمبريالية في تراجع كما تشير إحدى المقولات التي نعالجها بالنقد هنا، فإن الإمبريالية الأميركية حصراً، هي التي تتراجع، بشكل جزئي وبسيط، ربما يتحول إلى تدريجي مستمر، أمام الرأسماليات الصاعدة المتمثلة بالشركات ‘المسمّاة بـ ‘الوطنية’ الصينية والشركات الإحتكارية اليابانية وإلى حد ما الروسية والكورية الجنوبية من جهة، والشركات المالية والنفطية لدول مجلس التعاون الخليجي من جهة أخرى، فإن تراجع الإمبريالية الأميركية في القرن الواحد والعشرين شبيه إلى حد بعيد بتراجع الإمبرياليات الأوروبية واليابانية والتي ازدهرت في القرن التاسع عشر أمام صعود الإمبريالية الأميركية في بدايات القرن العشرين. الإمبريالية الأميركية تتراجع ليس لأنها تسير باتجاه عكسي في حركة مشاكسة للقوانين التي تحكم التطور الاقتصادي والسياسي للرأسمالية كما حددها لينين في كتابه "الإمبريالية أعلى مراحل الرأسمالية"، وليس لأنها تواجه حركات عمالية تحرّرية صاعدة توجّه الضربات الموجعة للإمبريالية وحكومات التبعية الرأسمالية وتسيطر على السلطة السياسية في أماكن متعددة، بل لأن الرأسمالية المالية التي تترأس هرم الاحتكارات التي نشأت في اليابان والصين وروسيا ودول الخليج العربي *(1) خلال عقدين من الزمن، تخطّت بأشواط مرحلة تصدير رأس المال الأولية وبدأت بالفعل، ومنذ سنوات عدة، تعزيز وتطوير الجيوش العسكرية الضخمة بشكل متفاقم، ورافق هذا التعزيز والتطوير مرحلة السيطرة على موارد بعض المجتمعات النامية/التابعة وثرواتها بعد إضعاف سيطرة الشركات الإمبريالية الأميركية وشريكاتها الألمانية والفرنسية والبريطانية في عدة مناطق من العالم، والسيطرة على عدد من أسواقها التي سبق وتقاسمتها فيما بينها بهذا الشكل أو ذاك بناء على تحالفات واتحادات احتكارية (كارتيلات) بغطاءين سياسي وعسكري أميركي وأوروبي أمنا لها السيطرة التامّة لعشرات السنين، ولكن المفارقة تكمن في أن القوى الرأسمالية الصاعدة التي نتكلم عنها لم تلجأ بعد إلى الخيار العسكري بغية السيطرة، لأنها غير قادرة بعد على مواجهة القوة الإمبريالية الأميركية الأعتى والأكثر وحشية في العالم بشكل مباشر، وبالتالي فهي لا تفوّت فرصة للإنقضاض ‘الناعم’ على مصالح الشركات الأميركية (أي ثروات ومقدرات الشعوب المنهوبة) كلما تعثّرت خطى الأميركيين في أي مكان في العالم كما في أفغانستان والعراق وسوريا وليبيا وجنوب السودان.

ويمكننا بكل سهولة تعقّب نشاط الشركات الصينية واليابانية وكذلك الروسية المنشأ وتقدّمها على حساب الشركات الأميركية والبريطانية والفرنسية المنشأ، في صراعٍ رأسمالي محتدم يلف العالم بأسره ويفسّر لنا المقولة الأخرى، وهي مقولة "العالم المتعدد الأقطاب" في الرأسمالية، هذا العالم الذي يروّج ويهلّل له البعض وكأنّه الوصفة والحل السحري للمشاكل الكونية، وهو في الحقيقة عالم التسلّح والتسلّح المضاد، عالم المعسكرات التابعة للقوى الإمبريالية والإقليمية المتقدّمة على شكل تكتّلات دولية جوهرها تحالفات شركاتية ضخمة من جهة، والمعسكرات التابعة للقوى الإمبريالية والإقليمية التي تحاول الحفاظ على سيطرتها ومواقعها ومصالحها من جهة أخرى. هو عالم ما قبل الحرب الإمبريالية الثالثة، هو عالم تكريس استعمار شعوب المجتمعات الرأسمالية التابعة من جميع النواحي بعد صعود العولمة النيوليبرالية واعتناق مبادئها على نطاق واسع، وليس عالم "السلام العالمي" و"التوازنات التي تخدم الشعوب"، تلك أسميها "أحلام اليقظة".

فالنشاط العالمي، العابر للحدود الإقليمية، للشركات الصينية واليابانية المنشأ وبعض الشركات الروسية الضخمة المنشأ، والتي أصبحت تمتلك العشرات من الشركات الفرعية حول العالم - وطنية المنشأ سابقاً قبل دمجها أو شراء نسبة من أسهمها أو السيطرة عليها بالكامل، وبِدء تصوّر تلك الشركات للعالم بمثابة سوق واحدة والتعامل معها على هذا الأساس، يشير بالتحديد إلى المرحلة الخامسة والأخيرة التي تكلم عنها لينين في ما يتعلق بالنمو الرأسمالي، وهي مرحلة إعادة اقتسام العالم إقليمياً فيما بين كبريات الدول الرأسمالية، أي إعادة الهيكلة، بعد عقود طويلة تميّزت باحتكار شبه كامل للشركات الأميركية والبريطانية والفرنسية المنشأ لأسواق الدول الرأسمالية التابعة، وهنا بالذات يكون "تراجع الإمبريالية" هو تراجع سيطرة الشركات الأميركية والأوروبية المنشأ على الإقتصاد الرأسمالي العالمي مقابل تقدم الشركات الآسيوية والروسية المنشأ على حسابها.

فلنأخذ على سبيل المثال لا الحصر، ثلاث شركات صينية المنشأ تحتل مراكز متقدمة في الإقتصاد الرأسمالي العالمي (من أضخم 10 شركات في العالم):
1) "مؤسسة البترول الوطنية الصينية" (CNPC) – الشركة الرابعة في العالم من حيث الإيرادات بأكثر من 425 مليار دولار.
2) "مجموعة صينوپك" (Sinopec Group) – الشركة الخامسة في العالم من حيث الإيرادات بأكثر من 411 مليار دولار سنوياً.
3) (SGCC) “State Grid Corporation of China” – الشركة التاسعة في العالم من حيث الإيرادات بأكثر من 290 مليار دولار سنوياً.

ولنتتبع فقط نشاط "مؤسسة البترول الوطنية الصينية" (CNPC) التي بدأت بالتنافس على الصعيد العالمي عام 1993: أرباحها الصافية عام 2012 بلغت 17 مليار دولار، وإجمالي الأصول بلغ 485 مليار دولار. تملك استثمارات نفطية وغازية ضخمة في نيوزيلاندا، العراق، إيران، سوريا، كازاخستان، أوزبكستان، أفغانستان، جنوب السودان، التشاد، الموزامبيق، البيرو.

1- تملك سابيت (SAPET)، شركة فرعية لـ (CNPC)، وتسيطر على البلوك النفطي السابع في محافظة تالارا في البيرو.
2- تسيطر (CNPC) على البلوكات 1 & 2 & 4 في غرب كردفان‎ في جنوب السودان.
3- اشترت 60% من أسهم شركة "AktobeMunaiGaz" الكازاخستانية، ومدت أنابيب الغاز من أقتوبه في كازاخستان إلى شينجيانغ الصينية لتمويل الاقتصاد الصيني.
4- اشترت شركة "بترو كازاخستان" الكندية المنشأ مقابل 4 مليار و180 مليون دولار عام 2005، قبل بيعها لشركة "بترو تشاينا" الصينية المنشأ عام 2006.
5- كانت (CNPC) أول شركة عالمية ضخمة تستثمر بالنفط العراقي في محافظة أحدب (أفقر محافظة في العراق يعاني سكانها من النقص في الغذاء والخدمات التعليمية والطبية والتمديدات الصحية) ومحافظة واسط عام 2009 بعد الحرب الإمبريالية الأميركية على العراق عام 2003 (عقد مؤجل من العام 1996).
6- ومن استثمارات (CNPC) في العراق أيضاً في حقل الرميلة النفطي في جنوب البلاد، وهو تاسع أضخم حقل نفطي في العالم (660 بئراً) وأكثرها ارتفاعاً من حيث جودة النفط، وتقوم (CNPC) وغيرها من الشركات الصينية المنشأ (Daqing Field) والأميركية المنشأ (Weatherford) والفرنسية المنشأ (Schlumberger) باستخراج النفط من عدد من الآبار، كما تحاول بعض الشركات الروسية المنشأ أن تستثمر في الحقل ذاته.
7- سيطرت (CNPC) على الآبار النفطية أواخر العام 2012 في تاراناكي في نيوزيلاندا مع شركتها الفرعية (CCDC) لهندسة حفر الآبار.
8- اشترت (CNPC) 29% من أسهم "الوكالة الوطنية للمحروقات" الإيطالية في الموزامبيق في شرق أفريقيا، بصفقة قيمتها 4 مليار و210 مليون دولار في 2013 ونتيجتها السيطرة على 20% من بلوكات الغاز الطبيعي الموزامبيقي.

نرى الآن الأمور من منظور مختلف: إنه توسّع هائل لشركة صينية واحدة، في مدة زمنية قصيرة، أصبحت تتحكم فيها بقدر من الثروات النفطية في عدة دول أغلبها تعاني من مشاكل ونزاعات أمنية وسياسية لها أبعاد إقليمية ودولية.

لا يمكن للموقف السياسي لأي حركة تغييرية أن يكون منفصلاً عن الواقع المادي، وبعد سنوات من إعادة الهيكلة العميقة في الإقتصاد الرأسمالي نتيجة العولمة وتداعياتها أصبح إنتاج الخلاصات الجاهزة والقابلة للنسخ والتكرار أكثر صعوبة بكثير ويشكل تعبيراً عن الإنزلاق إلى المفاهيم المثالية، كون الخلاصات الجاهزة لا تستطيع الصمود لأي فترة معقولة من الزمن، فحركة رؤوس الأموال أصبحت أكثر فوضوية بعد تحرّرها من معظم القيود والسياسات الحمائية، وبالتالي لا يمكن للموقف السياسي تجاه هذه الحركة أن ينبني على أي خلاصات جاهزة أو مواقف مسبقة، بل يجب أن ينبني دوماً على تحليل متجدد للواقع المتغير وإلّا تقع الحركة بأكملها في مأزق الجمود. فقَطر وحدها، على سبيل المثال، وبعيداً عن صولاتها وجولاتها وتدخلاتها السياسية واستثماراتها الضخمة في البلاد العربية والأفريقية، ترسم لنا عبر نشاطها الاقتصادي في أوروبا والولايات المتحدة الأمريكية نموذجاً مصغراً وأكثر وضوحاً عن مجريات الأمور على أرض الواقع المعقّد، وقطر هي أحد الأعضاء الستة لدول مجلس التعاون الخليجي. استثمرت قطر مبالغ خيالية في بريطانيا وفرنسا وإسبانيا والولايات المتحدة الأميركية في مشاريع مختلفة خلال 4 أعوام فقط، وكأمثلة على تدفق رؤوس الأموال القطرية: في عام 2010 بلغ الاستثمار القطري من خلال "ذراع قطر للإستثمارات العقارية" في مشروع "City-Center-DC" في واشنطن أكثر من 650 مليون دولار، وفي العام 2012 اشترت "مجموعة الفيصل" القطرية “Radisson Blue Aqua” في شيكاغو، وفي العام 2013 اشترت تلفزيون "كارنت تي في" الأميركي مقابل 500 مليون دولار، وفي مطلع العام 2014 اشترت 50 طائرة بوينغ 777 جديدة بقيمة 19 مليار دولار، كما وأنها تمتلك نسبة كبيرة من أسهم عدة شركات أميركية المنشأ، مثل شركة “Golden Pass Products”. وخلال أعوام قليلة، استثمرت قطر مبلغ 33 مليار دولار في برج "شارد" في لندن، كما أن بريطانيا تعتمد بنسبة 85% على الغاز الطبيعي القطري، ما يضع قطر في موقع التأثير المباشر على الاقتصاد البريطاني، فقطر تبيع الغاز الطبيعي لبريطانيا وتعود لتستثمر أرباح الغاز في مشاريع ربحية في بريطانيا نفسها. وفي فرنسا وإسبانيا ضخت قطر أكثر من 22 مليار دولار في مشاريع استثمارية متنوعة من العقارية والخدماتية إلى الصناعية والنفطية والإعلامية. أما موقع قطر من الصراع في سوريا فهو تماماً كموقع روسيا من الصراع في أوكرانيا، فقطر طرفٌ من أطراف الصراع المتنازعة على أنابيب الغاز في سوريا، والهدف من هذا النزاع سيطرة قطر على هذه القنوات لمدّ دول الإتحاد الأوروبي بدلاً من "غاز بروم" الروسية التي تصارع في أوكرانيا للأسباب نفسها. فإذا كانت شركات هذه الدولة الصغيرة قادرة على كل هذا، فماذا عن الشركات الصينية واليابانية والروسية؟ وهل هذه الدول مجرد رأسماليات عادية تنشأ فيها شركات لا مصالح عالمية لديها ولا تسيطر أو تؤثر في دول ما يسمى بالعالم الثالث (أي بنسبة كبيرة دول الأطراف) وحتى المراكز المالية المسيطرة، أم هي الإمبريالية تطل علينا تدريجياً بوجهها الجديد، التفسير الوحيد لمقولة "العالم المتعدد الأقطاب"؟

إن هدفنا النهائي هو تحويل النظام القائم، وليس الخوض في جدالات كلامية غير منتجة وبذل جهود نضالية غير مجدية، كما أن النضال لا يشترط انتظار تراجع الإمبريالية من تلقاء نفسها، وكيف يكون تراجعاً للإمبريالية وليس هناك من حراك عمالي ثوري واضح وواعٍ لشروط الصراع، يقطع مع الرأسمالية ويهدف لبناء السلطة السياسية البديلة في المقابل؟ وكيف يكون تفسير مقولة "تراجع الإمبريالية" في هذا الإطار إذاً؟ إن هذه النقطة بالذات مفصلية بالنسبة لنا في عملية تحديد موقعنا من التحالفات المناهضة للقوى الرأسمالية والرجعية المسيطرة في منطقتنا، المشرق العربي.
إن مقولة "تراجع الإمبريالية" غير مبنية على وقائع، بل هي مبنية على تصورات حتمية، ميكانيكية، للتطور الرأسمالي، وقراءة سياسة سطحية للصراع العالمي بشكله الحالي.
فقد اكتشفنا، بعد التجربة والمراقبة، بأن فوضى الإنتاج الرأسمالي لا تقود بالضرورة إلى دمار الإقتصاد الرأسمالي، فالدمار يعني حائطاً مسدوداً، وعدم القدرة على التجدّد، وهذا ما لم يحصل طوال 150 عاماً منذ بدء الثورة النظرية التي أنتجت لنا مفاهيم الإشتراكية القابلة للتطبيق العملي. ففوضى الإنتاج الرأسمالي تؤدي إلى دخول فترة زمنية معينة من الكساد، قبل فترة النمو، فالازدهار، فالركود قبل الكساد الجديد، وهذا لا يعني أن الإشتراكية لم تعد ضرورةً موضوعية، بل يعني بأن النضال من أجل بناء المجتمع الإشتراكي، يرتكز بشكل أساسي على التنظيم والوعي، والنضال السياسي، في كل الفترات، عوضاً عن انتظار الأزمات الاقتصادية والكوارث البيئية المفتعلة واقتصار حركتنا على ردات الفعل وركوب الموجات الجماهيرية، بعكس ما سبق من أنماط للإنتاج قُيِّدت فيها القوى المنتجة إلى درجة معينة، ولم تتمكن علاقات الإنتاج من إعادة هيكلة نفسها وتخطي هذا التناقض بينها وبين القوى المنتجة بشكل جزئي يسمح للطبقة العاملة بالتوهّم بأن الأزمة مؤقتة كما يحصل في الرأسمالية، وغياب الوعي الطبقي في صفوف الحركات العمالية يلعب دوراً أساسياً في إخماد هذا التناقض البنيوي وبثّ الخطاب الإصلاحي. فمحنة الطبقة العاملة لا تختصر بفترات انهيار الإقتصاد الرأسمالي، بل هي محنة دائمة ومتجددة، هي محنة عبودية العمل المأجور والعذاب اليومي، ولا يعني نمو الإقتصاد الرأسمالي وتصاعد المزاحمة في السوق العالمي بين الشركات الإحتكارية الضخمة بأن هذه المحنة أصبحت أقل وطأة على العمال، بل العكس تماماً. وهذا ما يجعل من النضال من أجل الإشتراكية ضرورةً موضوعيةً وتاريخية بالرغم من قدرة النظام الرأسمالي على الخروج من مأزقه بعد كل انهيار، بل بشكل خاص بسبب قدرة هذا النظام على الخروج من مأزقه وتخطي أزماته، فهذا النظام لم يتخطى أزمته الأخيرة عام 2008 بسرعة فائقة بفضل ديناميته الذاتية، بل بفضل الحكومات الرأسمالية التي ضخّت جهد وعرق الشعوب العاملة لإنقاذ الشركات والمصارف وتأمين قدرة النهوض لها وتحصينها من جديد لتعود فتمارس النهب لعقود، وهنا تتضّح لنا ضرورة انتقال الخطاب العمالي من الخطاب الإصلاحي المهادن للحكومات الرأسمالية إلى الخطاب الثوري والعمل السياسي للإستيلاء على السلطة السياسية في الدول الرأسمالية المستعمِرة والمستعمَرة على حد سواء، مع الأخذ بعين الاعتبار عدم إهمال التقاطعات على أنواعها وضرورة التحالفات المرحلية الواقعية مع القوى المختلفة في سبيل التقدّم بخطوات واثقة بعيداً عن الطروحات المثالية.

ملاحظات:
*1* للتوضيح، إن الرأسمالية المالية التي نشأت في الخليج العربي ليست ثمرة الإحتكارات الصناعية وتمركز الإنتاج الصناعي بل هي في الدرجة الأولى ثمرة الإقتصاد الريعي القائم على الصادرات النفطية والمواد الخام.