ستالين والفلسفة


يعقوب ابراهامي
2014 / 9 / 6 - 16:26     

"سيبقى "القاموس الفلسفي" (الروسي) نصب عارٍ لحقبةٍ اندثرت" - ليوبولد أينفيلد، فيزيائي نمساوي (1968-1898)، عن النشاط الفلسفي السوفييتي في عهد ستالين.

في الجزء الثالث من مسلسل "الزيرجاوي ومأساة الديالكتيك" ( "الحوار المتمدن" – 30/08/2014) يهاجم حسقيل قوجمان الزميل جاسم لأنه وصف كراس ستالين "المادية الديالكتيكية والتاريخية" بالكارثة أو المأساة.
كراس "المادية الديالكتيكية والتاريخية" ظهر في البداية كفصلٍ من كتابٍ أُطلِق عليه اسم "موجر تاريخ الحزب الشيوعي في الإتحاد السوفييتي (البولشفي)" وظهر عام 1939.
لا أحد يدري حتى يومنا هذا لماذا أُختير هذا الإسم، لأن الكتاب نفسه يمكن أن يوصف بكل شيء عدا أنه كتاب تاريخ. هذه مجموعة هائلة من الأكاذيب والإفتراءات والتزوير والتشويه وغسل الدماغ وطمس الحقائق قلّ مثيلها منذ أن اخترع يوهان غوتنبرغ آلة الطباعة. وإذا كان هناك بين القراء من قرأ مقال فؤاد النمري المنشور حالياً على صفحات "الحوار المتمدن"، (4/9/2014)، فإنه قد يفهم ما أقصده.
الفصل عن "المادية الديالكتيكية والتاريخية" في "كتاب التاريخ"هذا كتبه ستالين نفسه ثم ظهر بعد ذلك في كراسٍ منفصل. هذا مُؤلف ضحل، خالٍ من كل عمقٍ فلسفي ومكتوب باسلوب الوعائظ الدينية، حوّل فيه خريج مدرسة اللاهوت الفلسفة الماركسية إلى مجموعة ثابتة من مراسيم وقواعد جامدة مجدبة أشبه بوصايا كنائسية دينية. هذا الكراس، الذي اعتبرته الدعاية الرسمية وشرطة الأفكار الحزبية، في روسيا الستالينية آنذاك ، الكلمة الأخيرة في التفكير الفلسفي وذروة الإبداع الفكري، أنزل ضربة مُميتة على النشاط الفلسفي في الإتحاد السوفييتي وحوَل العاملين في حقل الفلسفة (أو من بقى منهم على قيد الحياة بعد أن أدركت يد السفاح الصفوف الأولى منهم) إلى جوقة من "مجترّي نصوص" يقولون ما كتبه ستالين "كما تقول الببغا".

الزميل جاسم وصف العواقب الوخيمة لكتاب ستالين هذا بالكارثة. وهكذا يرد عليه حسقيل قوجمان:
"لنفرض جدلا ان كتاب ستالين كان كتابا مخالفا او مشوها للمادية الديالكتيكية او مستبعدا لقانون نفي النفي الهيغلي فلماذا يشكل كارثة؟ فقد كتب عدد هائل من الناس لا يمكن احصاؤه عن الديالكتيك سلبا او إيجابا قبل ستالين وبعد ستالين وها نحن، انا وانت عزيزي الزيرجاوي ايضا نناقش ونختلف حول الديالكتيك والمادية الديالكتيكية الى حد اعتبارهما علما ام لا وقد راينا ان البعض حاول حتى البرهنة على خرافتهما ولم تحدث الكارثة. فلماذا حدثت الكارثة فقط حين كتب ستالين كراسه؟"
بما أن لديّ كل الأسباب التي تدعوني إلى الإعتقاد بأنني أنا المقصود ب-"هذا البعض" الذي حاول البرهنة على خرافة قوانين الديالكتيك، أريد (بعد أن أحمد الله الذي جعلني "بعضاً") أن أجيب نيابةً عن الزميل جاسم. جوابي طبعاً لا يُلزِم الزميل جاسم.
أورد فيما يلي فقرة واحدة، مترجمة بتصرف، من كتاب "الماركسية وفلسفة العلوم" للماركسية والشيوعية الأرلندية المعروفة هيلينا شيهان -:
"كراس "المادية الديالكتيكية والتاريخية" أُعتُبِر في حينه إنجازاً فلسفياً من الدرجة الأولى . . . أما اليوم فلا يمكن لآحدِ أن ينكر العواقب الوخيمة لهذا الكراس وأثره في ابتذال الفلسفة الماركسية وخنق النشاط الفلسفي في الإتحاد السوفييتي. ورغم سطحية الكتاب، أسلوبه الشكلي في معالجة المواضيع الفلسفية المعقدة وخلوه من كل عمق فلسفي، فقد وضعته الدعاية الرسمية آنذاك في مصاف الكلاسيكيات الماركسية واعتبرته مؤلفاً كلاسيكياً جديداً يضاف إلى الكلاسيكيات الماركسية، وأخذ الفلاسفة يقتبسون منه وكأنه ذروة الحكمة البشرية والكلمة الأخيرة في الفلسفة. بعد هذا الكتاب لم يبق لأحدٍ ما يضيفه إلى الفلسفة. هذا الكتاب أُعتبر برهاناً على عبقرية ستالين وتفوقه في الفلسفة كما في كل الأمور الأخرى." (ألا يذكركم هذا بفؤاد النمري؟)
إن لم يكن ابتذال الفلسفة الماركسية كارثة - ما هي الكارثة؟ وإن لم يكن خنق النشاط الفلسفي مأساة - ما هي المأساة ؟
أليس محزناً إن أحداً من الفلاسفة والمفكرين في الإتحاد السوفييتي (وربما في الحركة الشيوعية العالمية كلها) لم يقم آنذك ويصيح: إن الملك عارٍ؟ ألم يخطر ببال أحد إن ستالين قد يكون عبقرياً فريداً من نوعه لكنه لا يملك المؤهلات اللازمة لتأليف كتابٍ عن الفلسفة؟

"المادية الديالكتيكية والتاريخية" هو ليس كتاباً في الفلسفة بل كتاب دعاية رخيص كتبه ستالين للدفاعٍ عن سياسته بعد أن قضى (جسدياً) على كل خصومه داخل الحزب والدولة وبعد أن أودى بحياة الملايين تحت ستار "القانون الديالكتيكي" الإجرامي (الذي لا زال بعض الحمقى يرددونه حتى يومنا هذا) وهو: إن الصراع الطبقي يشتد حدةً كلما تقدم بناء الإشتراكية. (كل عاقلٍ يعرف طبعاً إن العكس هو الصحيح).
على ضوء هذا يمكننا ربما أن نفهم سر "التعديلات" التي أدخلها ستالين في كتابه على الديالكتيك الهيغلي كما فهمه وطبقه كارل ماركس.
"التعديل" الأول الذي أدخله ستالين على الديالكتيك الهيغلي هو أنه أزال "وحدة الأضداد" من "قانون وحدة وصراع الأضداد" وابقى على "صراع الأضداد" فقط. هل لهذا علاقة بالقضاء على المعارضة والتخلص من البلاشفة القدامى، رفاق لينين، برصاصة من الخلف، في مؤخرة الرأس، في أقبية لوبيانكا الرهيبة؟

(أريد من باب المتعة الفكرية فقط أن استخدم هنا اسلوب ستالين في معالجة القضايا الفلسفية:
"من السهل ان نفهم عظم اهمية إمتداد مبدأ "صراع الأضداد" إلى دراسة الحياة الاجتماعية وتأريخ المجتمع، وعظم اهمية تطبيق هذا المبدأ على تاريخ المجتمع وعلى النشاط العملي لحزب البروليتاريا.
فإذا لم يكن هناك "وحدة أضداد" بل "صراع أضداد" فقط فمن الواضح إن كل الصراعات الفكرية داخل الحزب هي صراعات بين أعداء لا بين خصومٍ فكريين داخل الحزب الواحد، صراع بين ماركسيين وخونة، بين أنصار الثورة وجواسيس للعدو.
لذلك، لكي لا يخطئ المرء في السياسة، فإن عليه أن يقضي جسدياُ على كل أعداء الثورة."
هذه صورة طبق الأصل لأسلوب ستالين في معالجة القضايا الفلسفية في كتابه سيء الصيت.)

"التعديل" الثاني الذي أدخله ستالين على الديالكتيك الهيغلي هو أنه ألغى نهائياً "قانون نقض النقيض". لماذا؟
في أساس مبدأ نقض النقيض يوجد الثالوث الديالكتي المعروف Thesis-Antithesis-Synthesis (اطروحة-إطروحة مضادة-اطروحة مركبة). والفكرة الأساسية في هذا الثالوث، إذا كنتُ قد فهمته جيداً وبصرف النظر عن صحته أو عدمها، هي إن المولود الجديد (الإطروحة المركبة – Synthesis) لا يمحي نهائياً كل الإطروحات السابقة بل يحمل في طياته كل ما هو جيدً من المرحلتين السابقتين. هذا هو المفهوم الديالكتيكي حول المسار الحلزوني في التطور.
هل إلغاء ستالين لمبدأ نقض النقيض (واستبداله بمبدأ محو الآخر وإزالته من الوجود نهائياً) له علاقة بسياسة القضاء على طبقة الفلاحين التي انتهجها والتي كلفت الشعوب السوفييتية عشرات الملايين من الضحايا؟ لا أدري. لكنني لا استبعد ذلك. ماذا يقول زميلنا عبد المطلب؟

كتاب ستالين "المادية الديالكتيكية والتاريخية" وضع الأساس النظري لتحويل الماركسية إلى "علم"، لمسخ الماركسية وتجريدها من محتواها الإنساني واقتراف أبشع الجرائم ضد الإنسانية تحت ستار "الإشتراكية العلمية".
يقول ستالين في كتابه:
"ولهذا فان النشاطات العملية لحزب البروليتاريا يجب الا تقوم على اساس الرغبات الطيبة ل-"أشخاص بارزين"، لا على ما يمليه "العقل" أو "القيم الأخلاقية" الخ.. بل على قوانين تطور المجتمع وعلى دراسة هذه القوانين.
ثم، اذا كان العالم قابلا للمعرفة وكانت معرفتنا لقوانين تطور الطبيعة معرفة موثوقاً بها ولها صحة الحقيقة الموضوعية، ينجم عن هذا ان الحياة الاجتماعية، تطور المجتمع، هو الآخر قابل للمعرفة وان المعلومات العلمية بخصوص قوانين تطور المجتمع معلومات موثوقٌ بها ولها صحة الحقائق الموضوعية.
وعليه يمكن ان يصبح علم تاريخ المجتمع، رغم تعقد ظواهر الحياة الاجتماعية، علما دقيقا لنقل مثل علم الاحياء، (الآن فهمتُ من أين جاء حسقيل قوجمان بمقولته البائسة: "الماركسية لا تقل دقةُ عن علم الفيزياء". أنا لا أعرف كم كان ستالين خبيراً بعلم الأحياء عندما كتب ما كتب (أنا أفترض إن معلوماته في هذا الشأن لا تتعدى ما تعلمه في معهد اللاهوت في جورجيا)، لكنني متأكدٌ إن من يقارن دقة الماركسية بدقة علم الفيزياء ربما قرأ "رأس المال" أو "نقد برنامج غوتا" ولكنه لم يفتح يوماً كتاب فيزياء في حياته – ي. أ.) علما قادرا على الاستفادة من قوانين تطور المجتمع للاغراض العملية. (من الممتع أن نلاجظ إن المسؤول عن قتل عشرات الملايين من البشر اختار "علم الأحياء" من بين كل العلوم. أين أنت يا فرويد؟ - ي. أ.)
لذا على حزب البروليتاريا الا يتبع في نشاطاته العملية الحوافز العرضية، بل يتبع قوانين تطور المجتمع وبالاستدلال العملي من هذه القوانين.
وعليه فان الاشتراكية تتحول من حلم بمستقبل افضل للانسانية إلى علم.". انتهى الإقتباس.
هذا هو الأساس النظري ل-"الإشتراكية العلمية" التي يمكن أن نرى ثمراتها اليوم في متاحف الجماجم في كمبوديا وفي صالونات الحلاقة في كوريا الشمالية.
ما قيمة حياة عشرات الملايين من البشر إذا كنتً تعرف "قوانين تطور المجتمع" وتمسك بيدك المفتاح إلى "مستقبلٍ افضل للانسانية"، مهتدياً ببوصلة "علم الماركسية" الذي لا يقل دقة عن علم الفيزياء؟
السؤال الوحيد هو: لماذا إذن أنزلت "الإشتراكية العلمية" كل هذه المآسي على البشر؟
ولماذا انهارت "الإشتراكية العلمية"؟
ولماذا يحطمون في كل العالم تماثيل ستالين ولم يحطموا تمثالاً واحداً لكارل ماركس؟

هل أنتَ أيضاً يا ستالين؟ أو: إكتشاف مفاجئ (لمعرفة حسقيل قوجمان وفؤاد النمري):
لم أقرأ كتاب ستالين "المادية الديالكتيكية والتاريخية" بأكمله، من البداية حتى النهاية، منذ عشرات السنين، أي منذ أن قطعتُ كل صلة لي بالشيوعية الستالينية.
كم كانت دهشتي كبيرة إذن عندما رجعتُ إلى الكتاب في الأيام الأخيرة، استعداداً لكتابة هذا المقال، واكتشفتُ إن ستالين لا يرى في الديالكتيك قوانين طبيعية، مغروسةً في الطبيعة وموجودةً في الطبيعة، بل إن الديالكتيك في نظره هو طريقة لفهم العالم، اسلوب في التفكير والبحث والتحليل، تماماً كما أدعو إليه أنا (وربما الزميل جاسم أيضاً) دائماً.
وإلاّ كيف نفسر الجملة التالية التي يستهل بها ستالين كتابه: "المادية الديالكتيكية هي وجهة نظر الحزب الماركسي اللينيني. وهي تدعى مادية ديالكتيكية لان معالجتها للظواهر الطبيعية، اسلوبها في دراسة هذه الظواهر وتفهمها ديالكتيكي بينما تفسيرها للظواهر الطبيعية، فكرتها عن هذه الظواهر، نظريتها، مادية."
إذا كنتُ أفهم ستالين جيداً فإنه يقول إن الديالكتيك هو طريقة (أو اسلوب) في معالجة الظواهر الطبيعية ودراستها وفهمها.
إذا أضفنا إلى ذلك إن كلمة "قوانين الديالكتيك" لم ترد ولو مرة واحدة في الكتاب كله وإن ستالين يستخدم بدل ذلك مصطلح "مبادئ الديالكتيك" أو "المعالم الاساسية للاسلوب الديالكتيكي" ماذا يبقى من "حبة الفول" (قوجمان) أو من "الديالكتيك هو الوجود" (النمري)؟