الماركسية والخارجون على القانون (تابع 5)


فؤاد النمري
2014 / 8 / 11 - 13:46     

الماركسية والخارجون على القانون (تابع 5)
بعد كل ما تقدم يلزم التأكيد أخيراً على أن كارل ماركس لم يأتِ بجديد من عنده أو من خارج الحياة وتطورها في المجتمعات البشرية . أعظم ما قام به كارل ماركس هو أنه أضاء فقط على دينامية تطور هذه المجتعات التي ستصير إلى مرحلة الشيوعية، حيث تنتهي نهائياً كل المجتمعات الطبقية ؛ تلك الدينامية التي لم يتعرّف عليها أحد قبله والتي هي اليوم من مسلمات علم التاريخ .
ففي رسالة بعث بها كارل ماركس إلى صديقه جوزف فيدماير (J. Weydmeyer) بتاريخ 5 مارس آذار 1852 يقول فيها ..
" ليس لي الفضل في اكتشاف وجود الطبقات في المجتمعات الحديثة أو الصراع بين هذه الطبقات .. ما قمت به هو مجرد إثبات النقاط الثلاث التالية ..

1) أن وجود الطبقات مرتبط بالمرحلة التاريخية المعينة من تطور الإنتاج .
2) أن الصراع الطبقي سيقود أخيراً إلى دكتاتورية البروليتاريا .
3) أن دكتاتورية البروليتاريا نفسها ستشكل المعبر إلى إلغاء جميع الطبقات وإلى المجتمع اللاطبقي " .

ما يسترعي الإنتباه هنا في هذه الرسالة الهامة من ماركس إلى رفيقه المناضل الشيوعي جوزف فيدماير هو أن خلاصة الماركسية المشار إليها في البنود الثلاثة ليس لماركس شأن فيها حيث هي التاريخ الذي يتقدم وفق ميكانزماته الداخلية التي كانت تعمل قبل ماركس ومنذ نشوء المجتعات البشرية وستظل تعمل ذات العمل، وربما بسرعة أكبر، حتى نهاية التاريخ عندما تتوقف تلك الميكانزمات عن العمل . ما قام به ماركس فقط هو تفسير التاريخ من خلال الكشف عن ميكانزماته الداخلية . لذلك أكدنا منذ البداية على أن الماركسية هي قانون الحياة الذي يتجسد في المادية التاريخية وميكانزماتها التي لا شأن لماركس بها أكثر من التعرّف عليها .

تبعاً للتفسير الماركسي فقد بدأ تاريخ الإنسانية منذ أن بدأت الحيوانات الشبيهة بالإنسان رحلة التغريب التاريخية (Historic Alienation) عندما خرج هذا الحيوان عن ذاته والتقط أداة من خارج جسمه، أكان ذلك عصاً أم حجراً، تساعده في إنتاج حياته حيث كان ذلك فرصته الوحيدة للبقاء وعدم الإنقراض . يؤكد الأنثروبولوجيون (علم الإنسان) أن أجناساً أخرى من الحيوانات الشبيهة بالإنسان لم تنجح في أن تتغرب عن ذاتها وتتناول أي أداة تساعدها على إنتاج الحياة ولذلك انقرضت . ولما كان تاريخ الإنسان قد بدأ بإقامة علاقة بين الإنسان وأداة تساعده على إنتاج حياته فليس لأحد أن يدعي بأن التاريخ ليس هو الوصف الكامل الشامل لتطور العلاقة الأبدية بين الإنسان من جهة وأدوات الإنتاج من جهة أخرى، الأدوات الني بها وحدها ينتج الإنسان حياته . علاقة التناقض بين الإنسان وأدوات الإنتاج هي علاقة ديالكتيكية ذات أثر مباشر على طرفي العلاقة ؛ فبمقدار ما تتطور أدوات الإنتاج يتطور الإنسان والعكس صحيح أيضاً . وهكذا ميّز المؤرخون عصور التاريخ بأدوات الإنتاج ومادة صناعتها فقالوا بالعصر الحجري والعصر الحديدي ثم النحاسي وحديثاً البخاري والكهربائي والذري لكننا بالمقابل لا نجد مثل هذا التمييز لمراحل تطور الإنسان ؛ ولذلك أسباب كثيرة أهمها اعتداد الإنسان بنفسه حتى إدعاؤه بأنه مخلوق على خلقة الله نفسه، ومنها أيضاً ضآلة التغيرات في جسم الإنسان وخلقته لدرجة الإهمال . أما التغيرات في الفكر وفي الأخلاق والتكوين النفسي فإن الأفكار الدينية تستوجب إهمال تلك التغيرات غير أن من يقرأ التوراة وهي الكتاب الأكثر قدسية لمختلف الأديان يلاحظ بصورة صارخة الفرق السايكولوجي بين الإنسان قبل عشرين قرناً وهو أقرب إلى الوحوش والإنسان الحديث ؛ ثم لا يجوز بحال من الأحوال إهمال العلاقة الوثيقة بين التكوين الفسيولوجي لجسم الإنسان وتكوينه السيكولوجي .

ميّز المؤرخون مراحل التاريخ كما هو معروف بالمادة التي تصنع منها أدوات الإنتاج السائدة في ذلك العصر وفي ذلك إجماع على أن أدوات الإنتاج هي من يكتب التاريخ . لكنهم توقفوا عند هذه الحقيقة لأنهم ليسوا مؤهلين فيما عدا علم التاريخ الذي لا يتدخل في أثر أدوات الإنتاج في رسم وتحديد علاقات الإنتاج التي هي من صلب علم الإقتصاد . كان ماركس وإنجلز هما أول من بحث في آثار أدوات الإنتاج في رسم المجتمع وعلاقات الإنتاج فيه . أدوات الإنتاج البدائية كالرفش والمعول التي أُستعملت في الزراعات الفردية المتناثرة (Horticulture) هي التي رسمت مجتمع السادة والعبيد . ثم التوسع في الزراعة الحقلية باستخدام الحيوانات في جر المحراث الخشبي هو ما رسم المجتع الإقطاعي، إقطاعيون وأقنان، ومع اكتشاف المحرك البخاري بزغت شمس الرأسمالية وتحت أشعتها نشطت الشعوب في الإنتاج وملأت الدنيا بثروات لم تعهدها البشرية من قبل وتشكلت طبقتا الرأسماليين والبروليتاريا ؛ إلا أن قانون الطبيعة لا يتعطل فكما أن الإقطاع نفى العبودية والبورجوازية نفت النظام الإقطاعي فإن البروليتاريا ستنفي بل نفت النظام الرأسمالي . لقد أثبت النظام الرأسمالي أن تحويل جماهير غفيرة إلى بروليتاريا قد جلب ثروات متعاظمة لشعوب العالم وهو ما علّم البروليتاريا أن تأخذ على عاتقها تحويل جميع الناس إلى بروليتاريا فيطفح العالم بالثروات وتتحرر البشرية من قيد الإنتاج الأبدي لتحيا حياة الشيوعية فيرقى الإنسان إلى أرقى مراتب الرقي .

وهكذا أضاف كارل ماركس إلى تأريخ المؤرخين للتاريخ فقال أن التاريخ يتمرحل بفعل أدوات الإنتاج . فهناك مرحلة المشاعية البدائية حيث لم يمتلك الانسان أدوات إنتاج ذات فعل، ورحل التاريخ إلى مرحلة العبودية بعد أن استحصل الإنسان على أدوات إنتاج ذات فعل أدنى، ثم إلى مرحلة الإقطاع مع وجود قوى إضافية في الفلاحة، وفي القرون الثلاثة الأخير رحلت البشرية إلى مرحلة الرأسمالية مع المحرك البخاري .
اليوم وبعد انهيار الاشتراكية السوفياتية لأسباب لم تتحدد بعد في الخطاب العام، يتفلت العامة وذوو العقول البليدة من مثل فرانسس فوكوياما إلى الإدعاء بأن اقتصاد السوق ـ وهي التسمية الملطفة للنظام الرأسالي الإمبريالي ـ هو نهاية التاريخ . وهو ما يعني إما أن أدوات الإنتاج الخاصة بالنظام الرأسمالي لم تعد تتطور وتتغير وهو ما لا يقبل به أي عاقل، وإما أن النظام الرأسالي لم يعد يتغير أو يتبدل مهما تطورت وتغيرت أدوات الإنتاج الرأسمالي وهو ما يخالف قانون الحياة الذي بفعلة انهار النظام العبودي ونظام الإقطاع وكذلك النظام الرأسمالي الذي ما زال يشكك بانهياره الكثيرون . ولذات القانون كان كارل ماركس قد أكد انهيار النظام الرأسمالي قبل قرن ونصف حيث وجد أن المنافسة الرأسمالية الدائمة ستتسبب بإدخال التقنيات الرفيعة على أدوات الإنتاج دون توقف وهو ما سيصير بالتالي إلى زيادة رأس المال الثابت في المؤسسة الرأسمالية فيتدنى لذلك معدل الربح لدرجة غير مقبولة الأمر الذي يستدعي الرأسمالي إلى إغلاق المؤسسة . ومما يثير الضحك والسخرية في آن هو أن بعض المغفلين يدعون بأن رفع تقنية أدوات الإنتاج من شأنها أن تزيد في أرباح الرأسمالي !! من المعروف تماماً أن الرأسمالي يحصل على أرباحه من فائض القيمة الذي ينتجه العمال فقط وليس أدوات الإنتاج ؛ بل إن تغطية قيمة استهلاك أدوات الإنتاج (Ware&Tare) إنما يكون من حساب فائض القيمة فقط وهو من إنتاج العمال . فالتقنيات الرفيعة التي تسمح بتخفيض عدد العمال في المصنع من 1000 عامل إلى 100 عامل فهي تعمل بنفس الوقت على تخفيض فائض القيمة فعلياً عشر مرات الأمر الذي لا يعود يستحق المغامرة الرأسمالية .
ما يتوجب الوقوف عليه في هذا السياق هو أن انهيار النظام الرأسمالي في السبعينيات لم يكن بفعل أدوات الإنتاج رفيعة التقنية بل بفعل ثورة التحرر الوطني التي امتدت تبعاً لانتصار الاتحاد السوفيتي في الحرب من 1946 إلى 1972 حيث نجحت جميع الدول المحيطية تقريباً في الحصول على الإستقلال وقطع روابط التبعية مع مراكز الرأسمالية الإمبريالية، ولم تعد هذه الدول المتحررة تقبل أن تكون مصرفاً لفائض الإنتاج المتحقق في مراكز الرأسمالية . فكان رد هذه المراكز على لسان زعمائها الخمسة في رامبوييه نوفمبر 1975 ، وهو رد المهزوم المفلس، بالإدعاء المفلس والمضحك وهو أن قيمتهم العليا تكمن في نقودهم وليس في بضائعهم التي لم يعودوا ينتجونها . هم لم يخجلوا من أنفسهم فالبشرية لم تكن يوماً بحاجة لأية نقود إلا لتعبر عن قيمة البضائع التي تنتجها . قرار زعماء الدول الرأسمالية لانتهاك القانون الأساسي للنقد إنما هو بمثابة التسليم بحقيقة انهيار النظام الرأسمالي .

وأخيراً نعود إلى البنود الثلاثة أعلاه التي حددها ماركس في رسالته لصديقه جوزيف فيدماير باعتبارها خلاصة ما جاء به إلى المعترك السياسي ؛ فلم نجد بينها ما اعتبره ماركس فخراً له حتى لو لم يبدع شيئاً غيره وهو فائض القيمة . بالرغم من أهمية هذا الإكتشاف حصراً، وهو الأساس في علم الإقتصاد الرأسمالي، والذي اعتبره ماركس فخراً له إلا أن ماركس نفسه تجاوزه ولم يتوقف عنده في تفسير التاريخ، وهو ما يعني أن تقدم التاريخ سيصل إلى مرحلة الشيوعية حتى لو لم يتم اكتشاف فائض القيمة .
في نهاية المطاف يجب الاعتراف بأن الماركسية إنما هي التفسير الصحيح للتاريخ بدءاً باكتشاف القانون الذي يتقدم بموجب شروطه التاريخ وعلى البشرية كافة أن تصدع لنفاذه ؛ وليس الخروج على القانون سوى أنه الدمغة الصارخة