نساء مناضلات في الثورة الروسية العظمى

ألكساندرا كولونتاي
2018 / 2 / 2 - 00:30     

من هنّ النساء اللاتي شاركن في الثورة الروسية العظمى؟ هل كنَّ فرادى منعزلات؟ كلا، لقد كانت غالبيتهن؛ العشرات أو ربما مئات الآلاف منهن بطلات مجهولات سرنّ جنبًا إلى جنب مع العمال والفلاحين خلف الراية الحمراء وشعار السوفييتات، عَبَرن على أنقاض الثيوقراطية القيصرية نحو مستقبل جديد.

إذا ألقينا نظرة على الماضي، يمكن للمرء أن يراهُنّ، تلك الجموع من البطلات المجهولات التي وجدتهن ثورة أكتوبر في مدن تتضور جوعًا، في القرى الفقيرة التي نهبتها الحرب.. بوشاح على الرأس (الذي نادرًا مايزال منديلًا أحمرًا) وتنورة بالية، وسترة شتوية تغطيها الرقع. شابات ومسنّات، نساء عاملات وزوجات جنود، فلاحات وربات منازل من فقراء المدن. كان نادرًا في تلك الأيام، بل نادرًا جدًا، مشاركة الموظفات أو المهنيات، أي النساء المتعلمات المثقفات. إلا أن هناك بالطبع بعض المثقفات ممن حملن الراية الحمراء نحو انتصار أكتوبر – من المعلمات، والموظفات، وطالبات الجامعات والمدارس الثانوية، والطبيبات.

لقد تقدمن بعزم وشجاعة وإنكار للذات. ذهبن أينما كانت الحاجة إليهن. إلى الجبهة؟ حيث اعتمرن قبعة الجندية وأصبحن مقاتلات في الجيش الأحمر. وحين يرتدين شارات الأذرع الحمراء فهذا يعني تقديم المساعدة لمراكز الإسعافات الأولية بالجبهة الحمراء في مواجهة كيرينسكي في جاتشينا. كما عملن في مجال الاتصالات بالجيش. لقد عملن بابتهاج وأمل، كنَّ متيقنات من أنّ أمرًا بالغ الأهمية كان يحدث، وأنهن جميعًا تروس صغيرة في ماكينة الثورة.

في القرى، انتزعت الفلاحات (اللاتي كان أزواجهن قد أُرسلوا للجبهة) الأرض من مالكيها وقمن بطرد الطبقة الأرستقراطية من الأعشاش التي أقاموا فيها لقرون طويلة. عندما يتذكر المرء أحداث أكتوبر، لا يرى وجوه مفردة بعينها، لكن يرى جموع الجماهير. أعدادٌ لا تُعد ولا تُحصى مثل موجات من البشر. وأينما ينظر يرى اجتماعات وتجمعات ومظاهرات.

ورغم أنهنّ وحتى تلك اللحظة لم يكنّ على يقين تام مما يردنّ، أو ما الذي يكافحن من أجله، إلا أنهنّ كنّ يعرفن شيئًا واحدًا؛ أنهنّ لن يتحملن الحرب بعد الآن، كما أنهنّ لا يردن ملاك الأراضي والأغنياء بينهنّ بعد الآن. وفي عام 1917، أخذ المحيط البشري العظيم في الفوران والاحتدام، وكانت المكون الأكبر منه من النساء.

في يوم من الأيام سيكتب المؤرخون عن أفعال بطلات الثورة المجهولات اللواتي لقين حتفهن على الجبهة قتلاً برصاص الجيش الأبيض، واللاتي حملن حرمان السنوات الأولى التي أعقبت الثورة، ورغم هذا واصلن حمل راية السلطة السوفيتية والشيوعية عاليًا. أولئك البطلات المجهولات، اللواتي لقين حتفهنّ أثناء ثورة أكتوبر العظمى في سبيل حياة جديدة لجماهير العمال، اللواتي تنحني لهنّ الجمهورية الفتيّة الآن بتقدير وإجلال حيث يبني شبابها، ببهجة وحماس، أسس الاشتراكية.

ناديجيدا قنسطنطينوفنا كروبسكايا
ولكن، حتمًا تبرز في هذا البحر من النساء ذوات الأوشحة والقبعات البالية شخصيات يقف عندها المؤرخون ويولونها اهتمامًا خاصًا حينما سيكتبون، بعد سنوات من الآن، عن ثورة أكتوبر العظمى وقائدها لينين.

أول من يبرز من شخصيات هي رفيقة لينين المخلصة، ناديجدا قنسطنطينوفنا كروبسكايا، مرتدية ثوبها الرمادي الخالي من النقوش والساعية أبدًا للبقاء في الخلفية بعيدًا عن الأضواء. كانت كروبسكايا تتسلل في هدوء وتتوارى خلف عامود لحضور اجتماع ما، لكنها كانت ترى وتسمع كل شيء في انتباه، تراقب كل ما يحدث بحيث يمكنها بعد ذلك إعطاء فلاديمير لينين تقريرًا مفصلاً، بالإضافة إلى تعليقها الخاص وملاحظاتها الذكية ملقيةً الضوء على الأفكار المناسبة والمفيدة.

في تلك الأيام لم تشارك كروبسكايا في المناقشات الحامية التي تأججت في الاجتماعات العاصفة الكثيرة التي تجادل فيها الجميع حول القضية الأهم؛ هل ستتمكن السوفييتات من الاستيلاء على السلطة، أم لا؟ لكنها كانت بمثابة الذراع اليمنى لفلاديمير إيليتش وعملت بلا كلل، وفي بعض الأحيان، رغم ندرتها، كانت تشارك بالتعليق في اجتماعات الحزب. ظلت ناديجيدا ثابتة كما هي دون أن تتبدل حتى في أكثر اللحظات صعوبة وخطورة، حين استسلم بعض الرفاق الأقوياء للشك وفقدوا إيمانهم. كانت على قناعةٍ تامة من صواب القضية متيقنةً من النصر. كانت تشع إيمانًا لا يتزعزع. كانت شخصية متحمسة تتخفى وراء تواضع نادر الوجود. كانت ذات تأثير مبهج طال كل من كان على اتصال بالرفيق القائد العظيم لثورة أكتوبر.

يلينا ديمترييفنا ستاسوفا
شخصية أخرى تظهر، وهي أيضًا رفيقة مخلصة لفلاديمير إيليتش، رفيقة النضال أثناء السنوات الصعبة من العمل سرًا تحت الأرض، سكرتير اللجنة المركزية للحزب، يلينا ديمترييفنا ستاسوفا. حاضرة عالية الجبين، ذات انضباط نادر وقدرة استثنائية على العمل، وقدرة فريدة على تحديد الشخص المناسب للعمل في المكان المناسب. طولها وقومها المثالي كانا أول ما يُرى في السوفييت في قصر تافريشيسكي، ثم في منزل كشسينسكايا، وأخيرًا في سمولني. دائمًا تحمل في يدها دفترًا لتدوين الملاحظات، بينما يتجمع حولها الرفاق من مراسلي الجبهة، والعمال، وجنود الحرس الأحمر، العاملات، وأعضاء الحزب والمجالس العمالية، في انتظار أمر منها أو إجابة سريعة واضحة على تساؤلٍ ما.

تحملت ستاسوفا مسؤولية العديد من الأمور الهامة، وكانت إذا ما واجه رفيق ضيقًا أو احتاج العون في تلك الأيام العاصفة، دائمًا حاضرة لتقديم كل ما تستطيع فعله. كانت دائمًا غارقة في العمل، محمّلة بالأعباء، ودائمًا في موقعها. دائمًا في موقعها، لكن أبدًا لم تسع لأن تكون في الصف الأمامي، لم تسع للصدارة. كانت تكره أن تكون محور الاهتمام. كان اهتمامها وقلقها منصبًا على القضية، لا على نفسها.

وفي سبيل قضية الشيوعية المنشودة النبيلة، عانت ستاسوفا من المنفى والاعتقال في السجون القيصرية، لتخرج منها معتلة واهنة الصحة. لكنها بإسم القضية كانت صلبة كالفولاذ، ورغم هذا كانت تُظهر رقة وتأثرًا لمعاناة الرفاق وكانت استجابتها لمثل تلك الأمور لا يمكن أن تصدر إلا عن امرأة تمتلك قلبًا دافئ نبيل.

نيقولاييفا وسامويلوفا وأرماند.. وأخريات
كانت كلافديا نيقولاييفا عاملة ذات أصول شديدة التواضع. انضمت للبلاشفة في وقت مبكر من عام 1908، خلال سنوات التراجع، وتعرضت للمنفى والاعتقال. عادت عام 1917 إلى لينينجراد وترأست تحرير أول مجلة للنساء العاملات “كوميونيستكا”. كانت لاتزال شابة، متسرعة نافذة الصبر. لكنها حملت الراية بحزم وعزم، وأعلنت بجرأة أن على العاملات وزوجات الجنود والفلاحات الانضمام للحزب. إلى العمل، أيتها النساء! للدفاع عن السوفييتات والشيوعية!

ألقت نيقولاييفا الكلمات في الاجتماعات، ورغم أنها كانت لاتزال متوترة وغير واثقة من نفسها، إلا أنها نجحت في لفت الانتباه وتبعها الكثيرين. كانت واحدة من أولئك الذين حملوا على أكتافهم الصعوبات المتعلقة بإعداد الطريق لمشاركة النساء مشاركة جماهيرية واسعة في الثورة، واحدة من أولئك الذين قاتلوا على جبهتين – من أجل السوفييتات والشيوعية، وفي نفس الوقت من أجل تحرير المرأة.

إن أسماءًا مثل كلافديا نيقولاييفا وكونكورديا سامويلوفا، التي توفيت عام 1921 إثر مضاعفات الكوليرا وهي في منصبها الثوري، هي أسماءٌ ترتبط ارتباطًا وثيقًا بالخطوات الأولى الأكثر صعوبة لحركة المرأة العاملة، لاسيما في لينينجراد. كانت كونكورديا سامويلوفا عاملة حزبية تميزت بنكران الذات وإيثار لا مثيل لهما، كانت متحدثة لبقة عرفت كيف تأسر قلوب النساء العاملات. يتذكرها هؤلاء الذين عملوا معها جنبًا إلى جنب. كانت متواضعة، وبسيطة المظهر، لكنها حادة فيما يتعلق بتنفيذ القرارات، كانت صارمة مع الآخرين ومع نفسها على حدٍ سواء.

إينسا أرماند، شخصية رقيقة وساحرة تلفت الانتباه بشكل خاص، كانت مُكلفة بعمل حزبي بالغ الأهمية متعلق بالتحضير لثورة أكتوبر، وواحدة ممن ساهموا بالكثير من الأفكار الإبداعية للعمل بين النساء. ومع كل ما تحلت به من أنوثة ودماثة خلق، كانت أرماند قوية لا يطالها الشك فيما يتعلق بقناعاتها، وكانت قادرة على الدفاع عما تعتقد في صوابه بكل حزم، حتى في مواجهة أعتى المعارضين. وبعد الثورة، كرّست أرماند نفسها لتنظيم الحركة النسائية الواسعة.

أنجزت فارفارا نيقولاييفنا ياقوفليفا مهام هائلة خلال الأيام الصعبة والحاسمة لثورة أكتوبر في موسكو. وفي ساحة المعركة، خلف المتاريس، اتخذت قرارًا خليقًا بأن يصدر عن زعيم حزبي.. اعترف الكثير من الرفاق بعد ذلك بأن قرارها وشجاعتها منقطعة النظير وصيحتها أثناء المعركة: إلى الأمام! إلى النصر! أعطيتا دفعة قوية للمترددين وكانت بمثابة إلهامًا للخائفين.

كلما تذكرنا النساء اللواتي شاركن في ثورة أكتوبر العظمى، كلما تداعت أمامنا المزيد والمزيد من الأسماء والوجوه وكأنه سحرًا من الذاكرة. هل يمكن أن نغفل اليوم عن تكريم ذكرى فيرا سلوتسكايا، التي عملت بتفانٍ للتحضير والإعداد للثورة والتي قُتلت رميًا برصاص القوزاق وهي تخدم في أولى جبهات الجيش الأحمر بالقرب من بتروجراد؟ هل يمكن أن ننسى يوفجينيا بووش، بمزاجها الناري، التوّاقة دائمًا لخوض المعارك؟ والتي أيضًا لقيت حتفها أثناء عملها وتوليها لمنصبها الثوري.

هل يمكنا أن نتجاهل أو نستبعد ذكر إسمين ارتبطا ارتباطًا وثيقًا بحياة ونشاط فلاديمير إيليتش لينين، اللتين كانتا بمثابة شقيقتاه وليس رفيقتا نضاله فحسب، آنا إيليينشنا يليزارفا وماريا إيلينشنا أوليانوفا؟ والرفيقة فاريا، العاملة بورش السكك الحديدية في موسكو، النشيطة دائمًا، المتعجلة دائمًا. وفيودوروفا، عاملة النسيج في لينينجراد، بلطفها المعهود، ووجها البشوش الباسم وجسارتها النادرة حين يتعلق الأمر بالقتال خلف المتاريس؟

من المستحيل أن نذكرهنّ هنا جميعًا، حتى وإن حاولنا كم منهن، سيظللن مجهولات؟ إن بطلات ثورة أكتوبر كنّ جيشٌ بكامله، ورغم أن أسمائهن ربما تكون قد ذهبت طي النسيان، إلا أن حياتهن التي بذلنها في سبيل القضية تظهر في كل انتصارٍ للثورة، في كل المكاسب والامتيازات التي تتمتع بها النساء الآن في الاتحاد السوفييتي.

لا جدال أنه بدون مشاركة النساء، ما كان لثورة أكتوبر أن تنتصر. المجد للنساء العاملات اللواتي سرنَ في ظل الراية الحمراء أثناء الثورة، المجد لثورة أكتوبر التي حررت النساء!