الماركسية و فلسفة اللغة (فالنتين فولوشينوف)


فالنتين فولوشينوف
2014 / 7 / 27 - 12:00     

فالنتين نيكولوفيتش فولوشينوف*

اكتسبت المسائل المتعلقة بفلسفة اللغة أهمية متنامية واستثنائية في الفكر الماركسي. نستطيع القول أنه و من بين مجالات التقدم العلمي المختلفة، فإن المنهج الماركسي يرتكز الى حد بعيد على حلول هذه المسائل و لايمكنه الاستمرار و التطور دون توفير القاعدة اللازمة لعمليات الاستكشاف ووضع الحلول لها.

في هذا المقام نشير الى أن المبادئ الأساسية للنظرية الماركسية كايديولوجيا تقوم على دراسة المعارف العلمية ، و الأدبية، و الدين وعلم الأخلاق و هذه المجالات جميعا مرتبطة بشكل وثيق بمسائل فاسفة اللغة.

إن أي منتج ايديولوجي ليس جزءا من الحقيقة الطبيعية أو الاجتماعية فحسب، فهو يمتلك خواص مادية كأي جسم، أو وسيلة انتاج أو منتج بمعنى أنه قابل للاستهلاك، لكنه أيضا يتميز عن هذه الظواهر بأنه يعكس مستوى آخر من الحقيقة خارج عن ذاته. فكل ما هو أيديولوجي له معنى، يتمثل بأوصاف بحقائق خارجة عن ذاته، بكلمات أخرى كل ما هو ايديولوجي له دلالة و بدون الدلالات لا توجد ايديولوجيا. أما الجسم المادي فيساوي ذاته (السيارة = سيارة، الصخرة = صخرة)[1] لذلك فهو لا يمثل أي شيء سوى طبيعته المادية وفي هذه الحالة لا توجد أيديولوجيا.

لكن أي جسم مادي يمكن استيعابه (استقباله) على شكل صورة، و هنا يغادر هذا الجسم طبيعته المادية الجامدة و يتجسد على شكل دلالة فنية أو رمزية تصبح مرتبطة به و متضمنة فيه و في هذه الحالة يتحول هذا الجسم المادي الى منتج ايدلوجي لقد تحول الجسم المادي الى دلالة دون أن يفقد شيئا من كونه مادة جامدة، لكن هذا الجسم المادي سيعكس أو يمثل –الى حد ما- حقيقة أخرى خارجة عن ذاته.

وينطبق المثال نفسه على أدوات الانتاج. إن أي أداة خالية من أي معنى بذاتها، هي ليست سوى وسيلة لتنفيذ مهمة أو عدة مهام في سياق عملية الانتاج، أي أنها تقوم بالدور الذي صممت لأجله دون أن تحمل أو تمثل معنى أو حقيقة أخرى. ووسيلة الانتاج – الأداة- يمكن تحويلها إلى دلالة إيديولوجية كما هو الحال في المنجل و المطرقة اللذين تحولا الى رمز للاتحاد السوفيتي، كما أصبحت أية صورة لهاتين الأداتين معا تحمل معنى ايديولوجيا صرفا. يمكناستخدام أية أداة إنتاج بنفس الطريقة فتتحول إلى رمز ايديولوجي، و هذا الاستخدام مستمر منذ اخترع الإنسان الأدوات، فكثيرا ما نجد رسومات و تصاميم على الأدوات المكتشفة من مرحلة ما قبل التاريخ. رغم معاملتها كدلالة إلا أن الأداة لن تصبح يوما دلالة بذاتها و لكن بالأفكار المتكونة حولها.

من الممكن – أيضا – تعديل أية أداة بشكل فني بحيث يتناغم هذا التعديل مع وظيفتها في العملية الانتاجية لكنه في الوقت نفسه يكتسب بعدا دلاليا مستقلا مما يخلق نوعا من الالتحام بين الأداة و دلالتها. لكن علينا أن نتننبه هنا أنه و رغم هذا الالتحام يبقى هناك خط للفصل بين المفهومين؛ فالأداة نفسها لا تصبح دلالة و بنفس الوقت لا تتحول الدلالة الى وسيلة انتاج.

و المبدأ نفسه يمكننا تطبيقه على أية بضاعة فيتم تحويلها الى رمز ايديولوجي، فعلى سبيل المثال الخبز و النبيذ اللذين تحولا الى رمز ديني في طقس المناولة المسيحي، مرة أخرى علينا أن نؤكد على الفصل المفاهيمي، فالخبز يبقى بضاعة يتم تداولها واستهلاكها. و كذلك النبيذ لكنهما معا داخل الكنيسة يتحولان إلى دلالة دينية مسيحية و يمكن صناعة الخبز بشكل معين فيتحول الى رمز ديني يهودي.

نستطيع القول أن عالم الدلالات هو عالم مستقل الى جانب عالم الظواهر الطبيعية و الأدوات و التقنيات و عمليات التبادل والاستهلاك.

الدلالات إذن أشياء مادية، و كما أسلفنا فإن أي عنصر طبيعي أو تقني أو استهلاكي يمكن أن يصبح ذو دلالة، و يكتسب خلال عملية التحول معنى يتجاوز خصوصيته المادية. ببساطة الدلالة غير موجودة كجزء من الواقع لكنها تعكس واقعا أو حقيقة أخرى. و هذه الدلالة قد تعكس الواقع بشكل مشوه أو مجزوء أو من وجهة نظر أو موقف معينين. كل دلالة معرضة لتقييم ايديولوجي (سواء أكانت جيدة أوخطأ، أو صحيحة، عادلة، جيدة...) و يتوافق أفق الايديولوجيا مع أفق الدلالة بحيث يساوي أحدهما الآخر ففي كل مرة تظهر احداهما تظهر الأخرى أيضا. كل ماهو ايديولوجي له قيمة رمزية (سيميائية).

(إذا رايت المطرقة و المنجل فإنك تعلم أن الشيوعيين موجودون، و إذا رأيت لافتة للحزب الشيوعي فإنك ستبحث عن المطرقة و المنجل. كذلك الحال إذا رأيت صورة لغيفارا أو سمعت أحدا يهتف باسمه فإنك تتوقع أن يكون هذا الشخص ماركسيا ثوريا (المترجم)

ضمن هذا الأفق – الكرة الإيديولوجية – يمكن أن تظهر اختلافات جذرية، فهذا مجال للصور الجمالية (الفنية) و الرموز الدينية و المعادلات العلمية و الأحكام القضائية… كل حقل من حقول الايديولوجيا لديه رؤيته الخاصة للواقع و الحقيقة لذلك يعكس كل مجال الحقيقة على طريقته و ضمن رؤيته لها. حتى لو بدى لنا أن لكل حقل دور مستقل ضمن الوحدة الاجتماعية لكن هناك سمة رمزية (سيميائية) تضم كل الظاهرة الايديولوجية تحت نفس التعريف.

لا تشكل الدلالة الايديولوجية انعكاسا أو ظلا للحقيقة فحسب لكنها تكون بذاتها جزءا من تلك الحقيقة. لذلك فإن كل ظاهرة تخدم كدلالة ايديولوجية تتضمن تجسيدا ماديا لحقيقة معينة، سواء من خلال الصوت أو الشكل أو اللون أو حركة الجسد أو التشبيه. (نشيد العمال=الحركة العمالية، اللون الأحمر = الحزب الشيوعي، غصن الزيتون = السلام، القبضة المشدودة = الفكر الراديكالي (المترجم)

في هذا السياق علينا أن ندرك أن الواقع الذي تعكسه الدلالة هي حقيقة موضوعية و لا يمكن فهمها إلا من خلال دراستها باسلوب موضوعي متماسك يراعي أحادية الدلالة في سياقها الإيديولوجي.

تأتي الإيديولوجيا الفلسفة المثالية للحضارة و دراسات علم النفس الحضاري في منطقة الوعي. فالايديولوجيا كما يؤكدون هي حقيقة واعدة، أما الدلالة فليست سوى الغلاف الخارجي الذي يخدم بشكل كوسيلة لإدراك التأثير الداخلي الذي هو الفهم.

لا بد من الإشارة هنا إلى أن كل من المثالية و النفسية تغفلان حقيقة أن الفهم نفسهيبرز من خلال مجموعة من العلامات الرمزية (مثلا؛ الحوار الداخلي) حيث تتم المزاوجة (الملائمة) بين الدلالات عندما يبرز الوعي ويصبح حقيقة ماثلة من خلال المعاني التي تجسدها الدلالة. إن فهم دلالة ما هو عبارة عن عملية مقارنة هذه الدلالة بالدلالات الأخرى المعروفة، بعبارة أخرى عملية الفهم هي استعياب الدلالة ضمن منظومة من الدلالات.

هذه السلسلة من الإبداع الإيديولوجي للدلالات و فهمها ثم الانتقال الى دلالات أخرى ثم دلالات جديدة ليست سوى عملية متسقة و مستمرة: تنتقل من رابط ذو طبيعة رمزية (سيمائية) الى رابط آخر في عملية متصلة غير منقطعة. أي انقطاع في هذ السلسلة يغرقها في حيزها الداخلي، و هو حيز لا مادي و غير دلالي.

تتمدد هذه السلسلة الايديولوجية من وعي فرد الى وعي فرد آخر فتربط بينهما. و في سياق هذا التفاعل بين وعي و آخر تظهر الدلالات. فالوعي لا يصبح وعيا إلا إذا امتلأ بمحتوى ايديولوجي (رمزي) و هذا لا يتم إلا من خلال التفاعل الاجتماعي.
على الرغم من الاختلاف المنهجي الكبير بينهما إلا أن الفلسفة المثالية و الدراسات الحضارية النفسية تقعان في الخطأ المبدأي نفسه بوضع الايديولوجيا ضمن الوعي. هذا التموضع يحول دراسة الايديولوجيا الى دراسة للوعي و قوانينه. هذا الخطأ ليس مرده – فقط – الخلط المنهجي في العلاقات التي مجالات المعرفة، لكن – أيضا – الخلط الكبير في الواقع المدروس نفسه. الابداع الايديولوجي – حقيقة مادية و اجتماعية – يتم حشره في إطار الوعي الفردي. و بذلك يحرم هذا الوعي من أي دعم يمكن أن يقدمه الواقع. و تتحدد خيارات الوعي ما بين الكل و العدم.

بالنسبة للمثالية هو الكل: الوعي موجود في مكان فوق الوجود و هو ما يحدد هذا الوجود. في الحقيقة هذه السيادة الكونية هي أقنوم مثالي يعبر باختصار عن الروابط بين الأشكال و الأقسام العامة للابداع الإيديولوجي.

بالنسبة للوضعية النفسية، العكس هو الصحيح، و الوعي لا يعد شيئا: هو مجرد خليط من المصادفات و ردات الفعل النفسية و التي بمعجزة ما نتج عنها مجموعة متماسكة من الإبداعات الإيديولوجية.

إن النسق الاجتماعي الموضوعي للابداع الايديولوجي متى أسيء فهمه و تم التعامل معه على أنه مطابق أو مماثل لقوانين الوعي الفردي، فإن هذا النسق يفقد وجوده في الواقع ويغادر إما الى الأعلى باتجاه سماء فوق وجودية تمثلها الفلسفة المثالية أو باتجاه الأسفل نحو خبايا و لقى ما قبل مجتمعية مرتبطة بالتنظيم النفسي الأحيائي ما قبل المجتمعي.

و هكذا فإن الإيديولوجي لا يمكن تفسيره من خلال مرجعيات فوق أو تحت بشرية (إنسانية) Supra pr Subhuman.ذات جذور حيوانية. فالمكان الحقيقي للإيديولوجيا يقع في العالم المادي للدلالات التي أبدعها الإنسان. أما خصوصية الإيديولوجيا فتكمن في تموضعها بين الأفراد المنظمين و في كونها وسيلة التواصل بينهم.


لا يمكن أن تظهر الدلالات إلا في الحيز ما بين الأفراد، و لا يمكن أن ندعو هذا الحيز "طبيعيا" بالمعنى الحرفي للكلمة: فالدلالات لا تظهر بين أي فردين عاقلين لا على التعيين، بل هي محصورة بالأفراد المنظمين اجتماعيا و المشكلين لمجموعة (وحدة اجتماعية). في هذه الحالة – حصرا – تتمكن الوساطة الدلالية من أخذ مكان بينهم. لا بد هنا من التأكيد على أن الوعي الفردي غير قادر على توضيح أي شيء، بل على العكس يحتاج هذا الوعي نفسه الى توضيح و تعريف تقوم به الإيديولوجيا من خلال أفضليتها في الوساطة الاجتماعية. فالوعي الفردي عبارة عن حقيقة ايديولوجية – اجتماعية هذا مايجب أن ندركه و ندرك جميع عواقبه قبل أن نتمكن من خلق علم نفس موضوعي أو دراسة موضوعية للايديولوجيا.

لقد خلقت مشكلة تعريف الوعي معظم الصعوبات و الارتباك الكبير الذي تواجهه المواضيع المتعلقة بعلم النفس و بدراسة الايديولوجيا. على العموم يمكننا القول أن الوعي شكل "الملجأ الجهل" لكل بناء فلسفي. في هذا الملجأ يتم تخبئة و تخزين كل المشاكل العالقة و كل المخلفات الفلسفية غير القابلة للتفسير أو الاختزال الموضوعيان. و هكذا بدلا من الخروج بتعريف موضوعي للوعي استعمل المفكرون الوعي لتقديم تعريفات ذاتية لمسائل موضوعية مما يثير المزيد من الجدل و عدم الفهم.

إن التعريف الموضوعي الممكن و الوحيد للوعي هو تعريف اجتماعي. فالوعي لا يمكن اشتقاقه من الطبيعة بشكل مباشر و هو ما تحاول فعله المادية الميكانيكية و النفسية الوضعية الحديثة (بتفرعاتها البيولوجية، و السلوكية، و نظريات رد الفعل). بناء على ما سبق فالايديولوجيا لا يمكن اشتقاقها من الوعي كما تعتقد الفلسفات المثالية و النفسية الايجابية. الوعي يتشكل و يأخذ كينونته المادية من مجموع الدلالات التي تم اشتقاقها من قبل المجموعات المنظمة من خلال التفاعل الاجتماعي، يتغذى الوعي الفردي على الدلالات؛ و من خلالها يتنامى هذا الوعي و يعكس منطقه و قوانينه.

إن منطق الوعي هو نفسه منطق العلاقات الإيديولوجية المتولدة عن التفاعل الاجتماعي الرمزي (السيميائي) بين أفراد مجموعة اجتماعية. إذا حرمنا الوعي من محتواه الرمزي (السميائي) و الايديولوجي فلن يتبقى من هذا الوعي شيئا.. الوعي مبني على الصور و الكلمات و الاشارات ذات المغزى و إن نظرنا الى الوعي خارج هذا السياق فلا يوجد شيء إلا مادة فيزيائية جامدة بلا معنى.

كل ما قيل سابقا يؤدي الى الاستنتاج المنهجي التالي:
إن دراسة الايديولوجيات لا تعتمد بأي شكل من الأشكال على علم النفس و يجب ألا تستند إليه"

وكما سنرى بتفصيل أكبر في فصل قادم فان العكس هو الصحيح: علم النفس الموضوعي يجب أن يستند على الايديولوجيات. إن حقيقة أي ظاهرة ايديولوجية هي نفسها الحقيقة الموضوعية لأي دلالة اجتماعية، و قوانينها هي نفس قوانين التواصل الرمزي (السيميائي) التي تتكون نتيجة تراكم القوانين الاقتصادية و الاجتماعية. الايديولجيا هي البنية الفوقية التي تقع مباشرة فوق القاعدة الاقتصادية، و الوعي الفردي ليس الاطار الذي يضم البنية الفوقية للايديولوجيا، بل يمكن وصفه بأنه بناء صغير مستأجر في صرح اجتماعي كبير يضم كل الدلالات الايديولوجية.

من خلال عرضنا الأولي فصلنا الظاهرة الإيديولجية عن الوعي الشخصي إلا أننا عدنا و ربطناهما بشكل صميم بشروط و أشكال التواصل الاجتماعي. إن المعنى الحقيقي لأي دلالة يتقرر بالكامل من خلال هذه الأشكال من التواصل، بل إن وجود الدلالة نفسها ليس سوى التظاهر المادي لهذا التواصل و هو ما ينطبق على طبيع الدلالات الايديولوجية. (عندما تسير في مظاهرة و تجد شخصا يلوح بعلم أحمر تدرك أن هذا الشخص اشتراكي، فالايديولوجيا تحولت الى شكل مادي من خلال اللون الأحمر)[المترجم].

تعتبر اللغة المجال الأبرز الذي تحتل فيه نوعية الرمز، و التواصل الاجتماعي المستمر و الشامل دورا مقررا بحده. فالكلمة ليست سوى ظاهرة ايديولوجية يتم استيعابها بالكامل داخل وظيفتها كدلالة. فالكلمة و الحالة هذه لا تنفصل عن وظيفتها كدلالة و لايمكن استنباط أي شيء منها بعيدا عن هذه الوظيفة، مما يجعل الكلمة أكثر وسائل الاتصال الاجتماعي نقاء و حساسية.

يظهر ماسبق قوة الكلمة كظاهرة ايديولوجية و تميزها الاستثنائي في البنية الرمزية، و بالتالي تبرير إعطاء الكلمة الأولوية عند دراسة الايديولوجيات. تظهر البنية المادية للكلمة الاسس العامة و التواصل الرمزي (السيميائي) للايديولوجيات. ليس هذا فحسب، فالكلمة إضافة الى نقائها و حساسيتها و أهميتها فإنها أكثر الدلالات حيادية.

تتخصص كل المواد الرمزية في حقل من حقول الابداع الايديولوجي، و في كل حقل تمتلك كل ايديولوجيا مادتها التي تصنع منها العلامات و الدلائل المرتبطة بها و التي لا تنطبق على الحقول الأخرى. في هذا السياق يتم انتاج الدلالة لتؤدي وظيفة ايديولوجية فتصبح العلاقة بين الدلالة و وظيفتها غير قابلة للفصم. أما الكلمة فهي محايد و يمكن استخدامها لأداء أي وظيفة ايديولوجية و هي قادرة على حمل المعاني الايديولوجية المختلفة و أحيانا المتناقضة بغض النظر سواء كانت خلفيتها علمية أم جمالية أم اخلاقية أم دينية.

(لنختار كلمة مثل القبضة و نقرأ النص التالي:
تعتبر القبضة رمزاً للمقاومة والسلام وهي أحد الاستخدامات الرمزية لليد مثلها مثل اشارة النصر، والقبضة المدفوعة الى الأمام ، واليدين المضمومتين . . لقد تم استخدام صور القبضة ، بشكل أو بآخر ، في أنواع كثيرة من الفنون المرتبطة بالسياسة ، بما في ذلك الثورات الفرنسية و السوفيتية الحزب الشيوعي الأمريكي ، حزب الفهود السود للدفاع عن النفس ( الدفاع الذاتي ) ، وفي جميع هذه الحالات كانت القبضة بمثابة ايقونة فنية .لقد كانت القبضة دائماً جزءاً من تركيبة فنية فهي تحمل اداة ، أو رمز ، أو جزءاً من طرف أو مركب بشري ما ، أو تقوم باداء حركة ( سحق أو ضغط ) اعتباراً من العام 1968 قام فنانو اليسار الجديد بتغيير هذا الاستخدام بشكل كلي واستعملوا القبضة بشكل مختلف تماماً. هذه" القبضة " الجديدة ظهرت بشكل بسيط لكنه مرتبط مع فهم شعبي متعلق بالثورة والتنظيمات شبه العسكرية ، لقد كان من السهل اعادة انتاج هذه القبضة على أي مستوى وتعديلها ( خطوط طويلة للقبضات ، قبضات بشكل أشعة الشمس ) . ظهرت قبضة جديدة في ملصق ( بوستر ) في منطقة خليج سان فرانسيسكو للفنان فرانك سيشوركا ضمن الفعاليات " اسبوع أوقفو التجنيد " في 14 كانون الثاني 1968 ، للاحتجاج على اعتقال أفراد "10 اوكلاند سفن " ( مجموعة مناهضة للحرب في فيتنام كانت تنظم اسابيعا من المظاهرات والفعاليات لايقاف تجنيد الأمريكيين للحرب في فيتنام وقد تم اعتقال افرادها من قبل الحكومة الأمريكية )، وقد استلهم فكرة هذا الملصق من ملصق سابق لاسبوع " أوقفوا التجنيد " صدر بتاريخ 17/10/1967 والذي استعمل القبضة الممتلئة المحتجة ، أما الملصق الجديد فقد استعمل القبضة لوحدها، هذهالقبضة (هذه النسخة منها ) تم تبنيها من قبل " الحركة " وظهرت في ملصقات كثيرة متعلقة بالطلبة ، ومناهضي الحرب ، والنساء والنشاطات السياسية الأخرى داخل الولايات المتحدة الأمريكية .

لقد ظهرت هذه القبضة بشكل متزامن ( تقريباً ) في جمعية " طلبه من أجل الديمقراطية " والتي استعملتها في منشور ظهر في شيكاغو في سياق الاحتجاجات على مؤتمر الحزب الديمقراطي ، كما ظهرت القبضة مرة أخرى في احتجاجات طلاب جامعة هارفارد عام 1969 وقد تم تعقب التصميم والذي بيّن ان المصمم كان طالب كلية التصميم " هارفي هاكر " .

بعد السبعينيات تراجع استعمال القبضة، لكنه استمر كايقونة للحركات الثورية من خلال ظهوره المتكرر فقد ظهر في العام 2000 في منشور "حركة النساء يستعدن الليل" ( حركة نسائية مناهضة للاغتصاب و العنف المرتبط بالجنس) و كذلك في العام 2004 في شعار حركة "الأرض أولا" (حركة بيئية راديكالية ظهرت في جنوب الولايات المتحدة الأميركية عام 1979 و منها انتشرت في أكثر من عشرين دولة في العالم) و ظهر على غلاف أسطوانة للمنظمة الموسيقية التقدمية غير الربحية "محور العدالة".

سوف تستخدم القبضة لاحقا من قبل تنظيمات مرتبطة بالرأسمالية و التمويل الأجنبي و تعمل على تخريب مجتمعاتها كما هو حال منظمة أوتبور الصربية و منظمة 6 ابريل المصرية)[المترجم].

اضافة الى ما سبق، تلك المنطقة الواسعة من التواصل الايديولوجي التي لا يمكن ربطها بميدان ايديولوجي واحد، نتحدث هنا عن التواصل بين البشر أو السلوك البشري. هذا النوع من التواصل شديد الغنى و الأهمية؛ فهو من ناحية مرتبط بشكل مباشر بعملية الانتاج ومن ناحية أخرى يكون على تماس مع كل الايديولوجيات باختلاف تخصصاتها و توجهاتها. عندما نصل الى هذه النقطة نكون قد أدركنا بأن الكلمة هي اللبنة المادية الأولى للتواصل السلوكي و ما يتعارف عليه بأنه اللغة المحكية بكل أشكالها تقع هنا في منطقة السلوك الايديولوجي.

للكلمة أيضا خاصية أخرى تجعلها الوسيط الأساسي للوعي الفردي، فالكلمة منتوج فردي بحت ينتجه الفرد نفسه دون اللجوء الى أية معدات أو أدوات من خارج الجسم. إن ادراكنا لهذه الحقيقة يوضح لنا دور الكلمة كأداة للتعبير عن الحياة الداخلية (الحوار الداخلي) للوعي.

في الواقع لم يكن للوعي أن يتطور لو لم تكن تحت تصرفه أشياء مادية مرنة يمكن التعبير عنها بوسائل جسدية، و الكلمة واحدة من أهم هذه الأشياء. فالكلمة متاحة كدلالة على التوظيف الداخلي للعبارات التي سيتم استعمالها في التعبير الخارجي. لهذا السبب أصبح الوعي البشري من حيث أنه "كلمة داخلية" أو (دلالة داخلية) واحدا من أهم المسائل (المشكلات) في فلسفة اللغة.

لقد حاولنا منذ بداية هذا البحث التأكيد على أن مشكلة الوعي لا يمكن مقاربتها من خلال العودة الى الاستعمال التقليدي لمفاهيم كاللغة و الكلمة التي تم تصنيفها بعيدا عن سياقها الاجتماعي من قبل علماء فلسفة اللغة و اللسانيات. لابد من تحليل عميق و حاد لموقع الكلمة كدلالة اجتماعية قبل فهم وظيفتها كوسيط للوعي.

بسبب هذا الدور الحصري للكلمة كوسيط للوعي أصبحت الكلمة عنصرا أساسيا يرافق كل ابداع ايديولوجي سواء من خلال وصفه أو التعليق على كل فعل ايديولوجي. إن عملية فهم أي ظاهرة ايديولوجية مهما كان نوعها (صورة، قطعة موسيقية، طقس ديني، أو أي سلوك بشري) غير ممكنة بدون حوار داخلي. فكل تظاهرات الابداع الايديولوجي – الدلالات غير اللفظية – غارفة في أو غير قابلة للفصل عن أو متعلقة بعنصر من عناصر التعبير.

إن ما سبق لايعني أن الكلمة قادرة على إزاحة أية دلالة ايديولوجية و الحلول مكانها، فالكثير من الدلالات الايديولوجية غير قابلة للاستبدال بالكلمات. إن قطعة موسيقية أو لوحة فنية لا يمكن التعبير عن أي منهما بشكل كامل بواسطة الكلمات. كذلك لا يمكن للكلمات أن تحل مكان الطقوس الدينية، بل إنها قد تقف عاجزة أمام أي سلوك إنساني بسيط. إن إنكار هذه الحقائق يقودنا الى شكل سخيف من أشكال العقلانية أو التبسطية (التسطيحية)، لكن في الوقت الذي لايمكن فيه استبدال هذه الدلالات بالكلمات فإن الكلمات تدعمها و ترافقها بشكل صميم كما يرافق الغناء الموسيقى.

متى أعطيت الدلالة الاجتماعية معنى فإنها لا تعود منعزلة فهي جزء من "وحدة" هي وحدة "الوعي المشكل لفظيا" و هذا الوعي قادر على ايجاد طريقة للتعبير لفظيا عن هذه الدلالة، و بالتالي خلق موجات من الاستجابة اللفظية، و تشكيل نوع من الصدى حول كل دلالة ايديولوجية.
(قد لا نستطيع وصف لوحة لبيكاسو، لكن إعطاء بعض التفاصيل عن هذه اللوحة يمكن الوعي من التعامل مع هذه اللوحة و التعبير عنها بدلالة لفظية (غورنيكا) – مثلا – في كل مرة قادمة يتعرض الوعي لكلمة غورنيكا فإنه يستعيد تفاصيل اللوحة بل و قد يستعيد معها كل ما يعرفه عن بيكاسو)[المترجم]

كل انعكاس ايديولوجي لأي وجود مادي خلال عملية خلقه، وبغض النظر عن أهميته أو معناه، لابد و أن يترافق بانعكاس دلالي من خلال الكلمات كشرط أساس لا غنى عنه للظاهرة الايديولوجية. فالكلمة شرط أساسي لكل فعل يتعلق بالفهم و التفسير.

كل مكونات الكلمة التي عرضناها – نقاؤها الرمزي، حيادها الايديولوجين انخراطها في التواصل الاجتماعي، قدرتها على تشكيل حوار داخل، و أخيرا حضورها الالزامي المرافق لكل ظاهرة كفعل وعي – كل هذه المكونات تجعلها العامل الأساسي في دراسة الايديولوجيات. لابد من دراسة كل قوانين الانعكاس الايديولوجي للوجود سواء كان على شكل دلالات أو وعي من خلال البنية المادية للكلمة. و هنا لابد من الى أن الطريقة الوحيدة لخلق مواءمة بين المنهجية الاجتماعية للماركسية و البنية الإيديولوجية بتفاصيلها لايمك تحقيقه الابالعمل على تغيير قواعد فلسفة اللغة لتصبح "فلسفة الدلالة الايديولوجية" ثم تعديل و ابتكار هذه القواعد من خلال الماركسية نفسها.

* فالانتين فولوشينوف: 1895-1936 فيلسوف لغوي، سوفييتي، وأحد واضعي اسس نظرية الأدب السوفييتي، ومطور للنظرية الماركسية في الأيديولوجيا.

ترجمه الى العربية: عماد خالد الحطبة