الماركسية والخارجون على القانون (تابع 2)


فؤاد النمري
2014 / 7 / 20 - 10:57     

لئن كانت المؤامرة العالمية التي استهدفت طمس الدور الرئيسي بل الوحيد للإتحاد السوفياتي في تحطيم النازية، والتي يشارك فيها الكثيرون من شيوعيي البورجوازية الوضيعة، تستحوذ تلك المؤامرة على الإستهجان الشديد، فإن تجاهل الإنقلاب على الثورة الإشتراكية العالمية في مركزها موسكو الذي وقع في خمسينيات القرن الماضي من قبل شيوعيي البورجوازية الوضيعة (جنرالات الجيش وعصابة خروشتشوف) قبل أعداء الإشتراكية الكلاسيكيين فحقيق بالإستهجان الأشد .
ارتبطت الإشتراكية السوفياتية باسم ستالين وهو ارتباط حقيقي كان يعلمه العالم كله والسوفيات بشكل خاص . وعليه فإن العصابة الثلاثية في المكتب السياسي للحزب الشيوعي، لافرنتي بيريا وجيورجي مالنكوف ونيكيتا خروشتشوف، الذين دسوا السم في شراب ستالين أثناء عشائهم معه في بيته بالإضافة إلى نيقولاي بولغانين في مساء 28 فبراير شباط 1953 هي من أنزل ضربة قاضية بالنظام الاشتراكي، علمت ذلك أم لم تعلم، خاصة وأن تلك العصابة لم تستطع أن تقوم مقام ستالين وتحتفظ بكل السلطة للحزب دون استحواذها من قبل الجيش وقد غدا أقوى من الحزب نتيجةً للحرب . الشبهات حول دور هؤلاء الثلاثة في وضع حد لحياة ستالين والتي عبر عنها فياتشسلاف مولوتوف، وهو أقدم البلاشفة في الحزب، ومديرة المنزل وابن ستالين الجنرال فاسيلي، لم تتأكد آنذاك بالرغم من أن هؤلاء الثلاثة الخونة المتواطئين لم يبادروا إلى إسعاف ستالين في اليوم الأول من مرضه وقد اعترف بيريا، وزير أمن الدولة، لمولوتوف أنه عمد إلى عدم إسعاف ستالين .
كانت السلطة قد وقعت "رسمياً" بعد ستالين بقبضة الثلاثة المتآمرين على حياة ستالين ولو آلت لمولوتوف وكان الرجل الثاني في الحزب منذ العام 1929 وحتى العام 1951 حين أبعده ستالين عن مركز القيادة بسبب ميول زوجته الصهيونية والحكم عليها بالسجن مرتين 1941 و 1951 بنفس التهمة . ولما لم يبادر مولوتوف إلى الإنفصال عنها قرر ستالين إبعاده وهاجمه في مؤتمر الحزب التاسع عشر 1952 كيلا يتم انتخابه إلى المكتب السياسي للحزب إذ لا يجوز لقائد في الحزب أن يكون زوجاً لخائن للحزب وكانت زوجة مولوتوف عضواً بارزاً في الحزب ـ عبر ستالين عن رغبته في ألا يعاد إنتخاب معظم أعضاء المكتب السياسي غير أن المؤتمر أعاد إنتخابهم جيعاً ومنهم مولوتوف لكن ستالين أعفاه من وزارة الخارجية وأبعده عن القيادة ـ كان ذلك الخطأ القاتل الذي اقترفه ستالين . فلو احتفظ مولوتوف رفيق لينين ومؤسس البرافدا في مركزه الثاني بعد ستالين في الحزب لما تجرأ هؤلاء الثلاثة في التآمر على حياة ستالين ولتغير إذّاك مسار التاريخ على الأرجح .
في يناير 1952 تم اكتشاف مجموعة من الأطباء اليهود المتعاملين مع الكرملين يتآمرون على حياة كبار رجال الدولة والحزب وقد كشفت عنهم الطبيبة المتخصصة بالراديولوجي ليديا تيماشوك التي أجيزت لهذا بأعظم وسام في الدولة وهو وسام لينين . لاحظ ستالين بمجرى التحقيقات أن بيريا لا يقوم بوظيفته كما يجب وكانت التحقيقات المستمرة ستنتهي إلى كشف دور بيريا في تدبير تلك المؤامرة على حياة قادة الدولة والحزب . فكان أن قرر بيريا أن يتغدى بستالين قبل أن يتعشى ستالين به فحمل السم في جيبه مقتنصاً فرصة العشاء الأخير مع ستالين . ولعلي أجتهد هنا لأقول أن ستالين رتب ذلك العشاء وحدد المدعوين الأربعة إلية عله يستقصي بعض خيوط المؤامرة . كان ستالين يوظف كل أشيائه في حماية الدولة وهو ما أوصاه لينين به . ما يدعونا للوقوف عند كل هذه الظنون هو خواتيم تلك القضية الخطبرة التي غيرت مسار التاريخ على ما أرى . بعد رحيل ستالين مباشرة تقرر إنهاء القضية كقضية باطلة وإخراج جميع المتهمين من السجن وسحب الجائزة من الطبيبة وطردها من العمل ومحاكمة رئيس التحقيقات وإعدامه وما إلى ذلك من إجراءات مشبوهة .
نحن هنا لا نريد أن نذوّت التاريخ حتى وإن كانت بعض المسائل الصغيرة والتافهة تتسبب أحياناً بانعطافات ولو مؤقتة في المسار العام للتاريخ وهو ما حدا بلجنة من المتخصصين الروس والأمريكان لأن تتشكل بعد نصف قرن من رحيل ستالين للبحث في أسباب رحيله المفاجئ وكان تقريرها النهائي هو أن ستالين مات مسموماً بسم الجرذان (Warfarine) وهو ما يؤكد أن لافرنتي بيريا هو من دس السم في شراب ستالين في ذلك العشاء القاتل الذي غيّر في مجرى التاريخ .

أن يتجاهل المؤرخون والمحللون الاستراتيجيون مثل هذا الحدث الذي غيّر في مسار التاريخ فأمر قد يجد بعضهم العذر له بالإدعاء أن الجريمة لم يتوقف السوفيات عندها ولم يتم التحقيق فيها آنذاك وبدا رحيل ستالين أمراً طبيعياً .
قد يكون صعباً رفض مثل هذا الإدعاء، لكن كيف يمكن تفسير تجاهل اجتماع ثمانية أعضاء فقط من المكتب السياسي للحزب، كان ستالين قد طعن في أهليتهم ودعا إلى استبدالهم، بعد ساعات قليلة من موت ستالين ليقرروا إلغاء عضوية 16 عضواً جديداً انتخبهم المؤتمر العام للحزب التاسع عشر في نوفبمر 1952 أعضاء في الكتب السياسي ؟ كيف يمكن لعضو أن يلغي عضوية نديد له ناهيك بالطبع عن أن المكتب السياسي ينتخبه مؤتمر الحزب كي ينفذ قرارات المؤتمر لا ليلغيها ؟ قرارات المؤتر العام لا يلغيها إلا المؤتمر العام التالي . هل توقف أحد من المؤرخين والمحللين الاستراتيجيين عند هذا الخرق الفاضح للقانون والنظام في الحزب خاصة وأن جسد ستالين لم يدفن ولم يبرد بعد ؟ ألا يعلم هؤلاء المؤرخون والمحللون أن ثمة 16 عضواً جديداً في المكتب السياسي لا يجوز لأحد إلغاءهم ؟ هم يعلمون بالطبع وقد نشرت أسماء الأعضاء الجدد في الجرائد المحلية . ما تجاهل هذا الخرق للقانون في بلاد لا تخترق فيها القوانين سوى رغبة جامحة لدى هؤلاء المؤرخين والمحللين في نزع صفحة الاشتراكية من سجل تاريخ البشرية، ولا عجب فهم بحكم عملهم من طبقة البورجوازية الوضيعة .

مثل مؤتمر ميونخ سبتمبر 1938 تحالفا بين أكبر امبراطوريتين امبرياليتين، بريطانيا ممثلة برئيس وزرائها تشيمبرلن وفرنسا مثلة برئيسها ديدرو، وألمانيا النازية ممثلة بهتلر وإيطاليا الفاشية ممثلة بموسوليني . كان الدمغة الصارخة لذلك التحالف هو العداء للشيوعية ودفع نمر النازية لافتراس الدولة الاشتراكية التي تقض مضاجع الإمبرياليين وهي الاتحاد السوفياتي . كان على ستالين تعطيل مثل ذلك التحالف ومخططه الإجرامي فعمل على التحالف مع الرأسماليين ضد النازية، وبعد أن رفضت كل من بريطانيا وفرنسا والولايات المتحدة مثل هذا التحالف اضطر ستالين إلى الإتفاق مع هتلر على عدم الإعتداء وقد وقع الجانبان اتفاقية مولوتوف – رابنتروب في 23 أوغست 1939 . ولما سمحت لريطانيا وفرنسل في مؤتمر ميونخ لهتلر بالتهام النمسا ومنطقة السوديت من تشيكوسلوفايا سمح ستالين لهتلر بالتهام بولندا لكنه رفض التعاون معه لاحتلال بريطانيا وتقاسمها ومستعمراتها بين الطرفين وهو ما أغضب هتلر .
كان ستالين يعتقد أن اتفاقية عدم الإعتداء لن تُنتهك قبل يناير 1942 وعلية ترتب على الحزب أن يعطل سياسة الصراع الطبقي في الداخل من أجل أن تخوض شعوب الاتحاد السوفياتي معركة الدفاع الوطني ضد الهتلرية بصفوف متراصة. واستمر تعطيل الصراع الطبقي طيل الحرب وفترة إعادة الإعار أي منذ العام 1938 حين انعقاد المؤتمر العام الثامن عشر للحزب الشيوعي وحتى العام 1952 حين انعقاد المؤتر العام التاسع عشر، أي أربعة عشر عاماً متصلة وهو فترة طويلة لا تقوى أي ثورة على عبورها إلا بقيادة واعية وحدّية مثل قيادة ستالين . عانى الاتحاد السوفياتي كثيراً من الحرب وكان من الطبيعي أن تلحق الخسائر الكبرى بالطبقة صاحبة السلطة وهي البروليتاريا . مقتضيات الحرب وإنتاج الأعمال الحربية إقتضت تنمية الطبقة البورجوازية الوضيعة على حساب البروليتاريا خاصة وأن الدولة اضطرت إلى تجنيد 15.5 مليون جندياً أضيفت قوتهم إلى قوة البورجوازية الوضيعة . السياسة التي إعتمدها ستالين لهذا الخصوص مستهدفا تعديل ميزان القوى الطبقية والعودة لما كان قبل الحرب تمثلت في اتجاهين .. الأول وقد أعلن عنه في ندوة البحث في القضايا الاقتصادية التي عقدت في أكتوبر 1951 وهو المحو البطيء لطبقة الفلاحين عن طريق تحويل الإقتصاد الوطني إلى الصناعات الخفيفة وهو سرعان ما ينعكس في تحسين أحوال طبقة البروليتاريا كمّاً ونوعاً ؛ وأما الثاني فيتمثل في تفتيت القوى العسكرية وتشتيت شملها من خلال خفض الإنفاق الحربي وهو ما كان قد مارسه ستالين حال انتهاء الحرب وأقوى مثال على ذلك هو تعيين بطل الحرب حامل وسام لينين أربع مرات مارشال الاتحاد السوفياتي جورجي جوكوف في وظيفة إدارية ثانوية بعيداً عن موسكو . كان لستالين رأي في العسكرة يفيد أن العسكرة هي بالمطلق نشاط ضد الاشتراكية وهذا أمر لا مراء فيه بعيداً عن الظروف المحيطة بالثورة الاشتراكية . لقد غالى ستالين في معارضته للعسكرة ولعل ذلك كان من الأسباب الرئيسة التي قوضت بالنهاية المشروع اللينيني والاشتراكية السوفياتية . في أواسط ثلاثينيات القرن الماضي وبعد نجاح خطة التنمية الأولى ثم الثانية أخذت قيادة الجيش تطالب بمزيد من الإنفاق على العسكرية وكان ستالين يرفض رفضاً قاطعاً تخصيص أية أموال إضافية للعسكرة وهو ما دفع بقيادة الجيش إلى حبك مؤامرة لانقلاب عسكري على الدولة وعلى الحزب في العام 1937 وهو ما انتهى إلى إعدام عشرات الضباط الكبار من ذوي الكفاءات العسكرية منهم مارشال الاتحاد السوفياتي، بطل الحرب الأهلية، ميخائيل توخاتشيفسكي، وطرد مئات الضباط الأكفاء من الخدمة العسكرية وهو ما انعكس في ضعف قدرات الجيش الأحمر في بداية مواجهاته الأولى للغزو النازي . وما زاد في ذلك الضعف هو موقف ستالين من إنتاج الأسلحة خلال السنتين السابقتين للحرب ويتلخص ذلك في إنتاج الأسلحة بهدوء بطيء ودون أن يسترعي ذلك إنتباه الألمان . مغالاة ستالين في معارضة العسكرة بعيداً عن التقييم الدقيق للأعداء المحيطين كان من الأسباب الرئيسة في انهيار الاتحاد السوفياتي . ثمة حكاية تقول أن ستالين عاقب نفسه على تلك الأخطاء فطرد نفسه من قيادة الحزب والدولة ولم يعد بصعوبة عن ذلك القرار بعد ثلاثة أيام من انفجار الحرب إلا بعد أن هدد رفاقه في القيادة أنهم سيخسرون الحرب بغير قيادته وكانوا على حق . أنا أصدق هذه الحكاية لأن أحداً من بني البشر لا يأخذ مثل ذلك القرار القاسي بحق الذات غير ستالين مفخرة الإنسانية .

(يتبع)