الماركسية والخارجون على القانون


فؤاد النمري
2014 / 7 / 10 - 20:56     

الماركسية والخارجون على القانون

لئن كانت الماركسية دستور الطبيعة والحياة وناموسها كما كتبنا مؤخراً، وهي فعلاً كذلك حتى بموجب المحاكمة الفيزيائية، فلماذا إذاً والحالة هذه هناك ملايين الناس من الخارجين على القانون (Out-law) الذين ينكرون ويستنكرون الماركسية جملة وتفصيلا !؟
هذا هو أهم سؤال يطرحه علم الماركسية وقانون الحياة، ليس في العالم العربي فقط بل وفي العالم كله أيضاً . ولهذا تكتسي الإجابة على هذا السؤال الأحجية بالغ الأهمية حيث يتوجب على الجميع، سواء كانوا خارجين على القانون أم متمسكين به ومستندين إليه، مواجهتها وإدراكها من أجل التعرف على الحياة، حياتهم، واستكناه فحواها قبل كل شيء آخر .

لا يكتسب بحثنا هذا أية مشروعية دون الإقرار مسبقاً أن علاقات الإنتاج، أي كيف يحصّل المرء معاشه اليومي ويشارك في الإنتاج القومي، هي صاحبة الدور الأساسي والفيصل في تقرير موقف الإنسان وموقف الطبقة التي ينتمي إليها من قانون الحياة أو الماركسية، فيما إذا كان خارجاً على القانون (Out-law) أم عكس ذلك، متمسكاً به ومستنداً إليه . الطبقة التي وسيلة إنتاجها تتطفل على وسائل إنتاج الطبقات الأخرى، كالطبقة البورجوازية الدينامية والطبقة البورجوازية الوضيعة يتطفلان على إنتاج العمال والفلاحين، لا تتجاهل فقط القانون بل تذهب بعيداً في محاربته ـ وما يجدر ذكره في هذا السياق هو أن البورجوازية الوضيعة بصورة خاصة تفقد كل رشدها في إنكارها لقانون الحياة واستنكاره، وتدق النفير لحرب شعواء مجنونة على القانون وعلى القانونيين وهم البروليتاريا بالدرجة الأولى وقبل كل الآخرين، مع أن البروليتاريا وحدها هي من ينتج خبز البورجوازية وهي تعلم ذلك تمام العلم . البورجوازية الوضيعة تتفوق كثيراً على البورجوازية الدينامية في حربها على الماركسية وعلى البروليتاريا .
مما لا شك فيه هو أن هناك عوامل أخرى ذات أثر بمقدار أو بآخر على فعالية علاقات الإنتاج في تقرير موقف الشخص من القانون العام للحياة ألا وهو الماركسية بالرغم من إنتمائه الطبقي . المشروع الإشتراكي السوفياتي، مشروع لينين، وبالرغم من أن قوى البورجوازية والرجعية في الأعوام 1918 – 1921 هي التي دفعت بكل قوتها بالبلاشفة الروس إلى الشروع ببناء الإشتراكية قبل الأوان، أي مبكراً في العام 1921، إلا أن المشروع اللينيني كشف مع ذلك عن حقيقة كبرى لا يعتورها أدنى شك وهي أن الماركسية بكل قوانينها وموادها كما في القراءة اللينينية هي وحدها القانون العام للحياة، القانون الذي تتطور بموجب أحكامه الطبيعة والحياة . القوى الهائلة التي تفجر بها مشروع لينين سواء على الصعيدين المادي والثقافي في الثلاثينيات أم على صعيد القوى العسكرية في الحرب وتحطيم ألمانيا النازية المدعومة بكل موارد القارة الأوروبية المادية والبشرية في الأربعينيات، تلك القوى الهائلة بكل المقاييس جعلت مئات الملايين من شعوب العالم تعترف بأن الماركسية هي فعلاً قانون الحياة وناموسها وخاصة في أوروبا حيث كان الحزب الشيوعي الفرنسي ومثله الإيطالي يحوزان على أكثر من 30% من أصوات الناخبين في مطلع الخمسينيات، وأن يصل إذاك عدد أعضاء الحزب الشيوعي البريطاني إلى 74 ألفاً بالرغم من العمل النشط والمحموم للتروتسكيين متعاونين مع المخابرات البريطانية المعروفة بوساختها – ولوحظ بصورة صارخة هبوط العمل الشيوعي في أوروبا بعد انقلاب العسكر بالتعاون مع عصابة خروشتشوف في الحزب على الإشتراكية في العام 1953 حال رحيل أو الأحرى ترحيل ستالين، فكان أن تضاءلت شعلة الثورة الإشتراكية وهبطت قواها فارفضّ من حولها الناس وما زاد الطين بلةً هو أن المرتدين عن الاشتراكية جعلوا عنوان ارتدادهم هو الإشتراكية أيضاً مستهدفين بذلك تخلي الشعوب الكادحة عن الاشتراكية .
الشعبية الطاغية للإشتراكية السوفياتية منذ معركة ستالينغراد في العام 1942 وتعاظمها حتى العام 1952 حين أكد ستالين بأن النظام الإمبريالي سينهار في وقت قريب، تلك الشعبية الطاغية كانت تدل دون شك على أن ثمة عوامل أخرى تؤثر في فعالية علاقات الإنتاج كفيصل في تقرير موقف الإنسان تجاه قانون الطبيعة والحياة . البحث العلمي والموضوعي في هذا الشأن لا بد أن يتوقف أمام ثلاثة عوامل ذات أثر إضافي ملموس في تقرير موقف الإنسان من القانون العام للطبيعة والحياة، من الماركسية، وهذه العوامل الثلاث الأبرز هي التالية ..

العامل الأول وهو تعقيد النظرية الماركسية وصعوبة فهمها والإحاطة بها حيث هي قانون حياة البشرية بكل تعقيداتها المتسق مع قانون الطبيعة . حياة الإنسان لا بد أن تكون حيلتها الوحيدة للبقاء في صراعها الأبدي مع الطبيعة معقدة ومحكومة بقانون صعب ومعقد، وعليه تشكلت الماركسية على مثل هذه الصعوبة والتعقيد . وليس أدل على ذلك من أن الأممية الثانية التي أسسها فردريك إنجلز عام 1889 وضمت جميع الأحزاب الاشتراكية الأوروبية في البلدان الرأسمالية المتقدمة يقودها كبار المفكرين الاجمتاعيين والإقتصاديين والفلاسفة في أوروبا، تلك المنظمة التاريخية العالمية وبمختلف مكوناتها وما ضمت من مفكرين وعلماء وأهل اختصاص وفلاسفة، لم تنتج غير ماركسي واحد وحيد هو الروسي فلاديمير إيلتش لينين المعروف بعبقريته الفريدة والذي كان عليه أن يخوض مجابهة فكرية صعبة وطويلة ضد الأممية بكل زعاماتها بدءاً من العام 1902 ولم تنتهِ قبل العام 1916 حين أعلنت تلك الأممية إفلاسها . لينين وحده، من بين مشاهير الأممية الثانية، إمتلك قدرة خارقة في قراءة ماركس وهي القراءة التي نعرفها اليوم عن طريق ستالين حصراً . يجابهنا اليوم كثيرون من أدعياء الماركسية يعلنون بصفاقة تنضح غباءً أنهم في معرض تطوير الماركسية وتحديثها وأحياناً تبيئتها (من البيئة) كتعريبها مثلاً لتلائم المجتمعات العربية . إن من يدعي بمثل هذه الدعاوى السخيفة فهو إنما يقدم دليلاً قاطعاً على أنه لم يدخل إطلاقاً دائرة الماركسية ولم يمتلك علومها الأولية . لعلي الماركسي الوحيد حتى اليوم في هذا العالم الذي يقول بانهيار النظام الرأسمالي قبل أربعين عاماً من غير الإنتقال إلى الإشتراكية، وأن التناقض الرئيس الذي يلعب اليوم على المسرح الدولي ليس هو التناقض بين العمال والرأسماليين بل بين العمال والبورجوازية الوضيعة منتجي الخدمات، وأن السوق الرأسمالية بكافة ميكانزماتها تهرّأت، وأن النقد تهرّأ وفسد ولم يعد معاملا رئيساً في مجرى الإنتاج الرأسمالي، أقول كل هذا الذي لم يقل به ماركس، بل يبدو ظاهرياً عكس ما قاله ماركس، أقوله إعتماداً على ماركس وعلى ما قال به ماركس دون أن أجد أي حاجة لأن أضيف حرفاً إلى ما قال ماركس .
قال فردريك إنجلز الرفيق الروحي والفكري النبيل لماركس في مرثاته على قبر ماركس .. لئن إكتشف دارون منهج التطور البيولوجي للأحياء فقد إكتشف ماركس منهج التطور السوسولوجي للمجتمعات . الإشكال الذي نتعثر به دائماً هو قصور بعضهم في التحليل وإدراك ميكانزمات التطور في مجتمعاتهم لا يجدون غطاء له سوى أن يعيدوا القصور إلى المنهج الماركسي ويطالبون تبعاً لذلك بتطوير وتجديث المنهج الماركسي أو حتى بتبيئته !

العامل الثاني وهو عدم قراءة التاريخ السوفياتي قراءة موضوعية دقيقة . ما أكثر المحطات التي تغيب عن تاريخ السوفيات الذي يقرؤه أدعياء الماركسية والمرتدين عن الشيوعية وكذلك أعداؤها .
المحطة الأولى هي انتفاضة أكتوبر 1917 وليس ثورة أكتوبر 1917 ، هكذا درج قادة البلاشفة على وصفها ما بين أكتوبر 1917 ومارس 1921 حين قرر المؤتمر العام العاشر للحزب إقامة الإشتراكية في بلد واحد هو الإتحاد السوفياتي المترامي الأطراف . منذ ذلك القرار فقط أخذ البلاشفة يصفون انتفاضة أكتوبر بثورة أكتوبر الاشتراكية . في أكتوبر 1917 قام البلاشفة بانتفاضة لإسقاط حكومة الإشتنراكيين الثوريين ـ وهؤلاء هم حزب بورجوازي ـ برئاسة كيرانسكي التي تقاعست عن تنفيذ برنامج الثورة البورجوازية في فبراير1917 والتي هي حكومتها . العديد من الأحزاب البورجوازية طالبت البلاشفة باعتبارهم أكبر الأحزاب آنذاك بإسقاط حكومة كيرانسكي من أجل إيقاف الحرب وقد باتت جيوش ألمانيا القيصرية على أبواب موسكو وبطرسبورغ بعد احتلالها لأوكرانيا وبلروسيا، وبتنفيذ برنامج الإصلاح الزراعي، ثم دعوة الجمعية التأسيسية لصياغة دستور الجمهورية بعد الإطاحة بالقيصرية . حكومة لينين، التي رفضت جميع الأحزاب البورجوازية المشاركة فيها، قامت في الساعات الأولى لقيامها بإعلان مرسوم السلام وخروج روسيا من الحرب ومرسوم تأميم الأرض توطئة لتوزيعها على صغار الفلاحين، وبعد أسابيع قليلة دعت إلى انتخابات تشريعية . انتفاضة أكتوبر جاءت من أجل بناء الثورة البورجوازية وهو ما كانت الأممية الثانية قد طالبت الاشتراكيين الماركسيين الروس به في مؤتمرها في بازل 1912 بحكم ضعف وهشاشة البورجوازية الروسية . وهكذا وقعت مهمة إنجاز الثورة البورجوازية على أكتاف البلاشفة .
المحطة الثانية هي الحرب الأهلية . لقد رفضت البورجوازية الروسية أن يقود البلاشفة مرحلة بناء الثورة البورجوازية فاتخذت من توقيع معاهدة صلح برست لوتوفسك الجائرة مع ألمانيا حجة لإعلان حرب إبادة على الشيوعيين في مارس آذار 1918 ، وقد شجعها على ذلك إمتناع تروتسكي وزير خارجية البلاشفة عن توقيع تلك المعاهدة . خلال عام كامل استطاع البلاشفة وقد إلتف حولهم العمال والفلاحون الفقراء من سحق قوى البورجوازية والرجعية في روسيا والتي لم تستسلم قبل أن تدعو أربع عشرة دولة لإرسال جيوشها من أجل إبادة الشيوعيين . تسعة عشر جيشاً تعود لجميع الدول الرأسمالية وأذنابها سحقها الشيوعيون وألحقوا بها هزائم نكراء . في منتصف مارس آذار 1921 لم يعد هناك في روسيا طبقة بورجوازية دينامية نامية تبني إقتصاداً بورجوازيا رأسمالياً وهو ما استوجب من البروليتاريا بمعاضدة الفلاحين الصغار شق طريق الاشتراكية رغم معارضة تروتسكي على رأس مجموعة من الفوضويين .
المحطة الثالثة وهي " الخطة الإقتصادية الجديدة " (New Economy Plan) . أوصى لينين عام 1922 باعتماد التعاون مع المؤسسات الرأسمالية الأجنبية بعد أن روّعه سوء إدارة المدراء الشيوعيين لمؤسسات الإنتاج المختلفة . وفي تقديمه لهذه الخطة التي تعتبر خطوة للخلف حذر لينين بقوة كوادر الحزب من الركون طويلا على هذه السياسة الاقتصادية الجديدة وأهاب بالمدراء السوفييت أن يتعلموا إدارة مؤسسات الإنتاج من المدراء الرأسماليين بأقصر وقت ممكن وإلا سيشكل ذلك خطراً حقيقياً على الثورة . الذين يسيئون قراءة تاريخ السوفيات بتخابث أم بغيره يعيبون على ستالين أنه بدأ بالإستغناء عن سياسة النيب مبكراً في العام 1926، بعد أن عاد الإقتصاد في الإتحاد السوفياتي إلى مستواه في روسيا القيصرية في العام 1913 قبل الحرب . قصر النظر لدى هؤلاء القوم يثير الشفقة بدل السخرية، فهم لم يروا انفجار التنمية الهائل خلال السنوات العشر التالية 1928 – 1938 الذي كان وسيبقى موضع عجب العالم .
في العام 1936 حين كان الشعب في الولايات المتحدة لا يجد ما يسد به رمقه بغير الإصطفاف في طوابير الشوربة الطويلة، كتبت الصحافة الأميركية آنذاك عن رغد العيش في الاتحاد السوفياتي .
(يتبع)