التاريخ العام للرأسمالية


محمد عادل زكى
2014 / 7 / 5 - 02:12     

التاريخ العام للرأسمالية
(1)
ونعنى بالعالم الحديث، المجتمعات التى تكونت فى رحم العالم الوسيط، وتميزت بهيمنة قانون حركة الرأسمال واخضاعه مجمل النشاط الاقتصادى فى المجتمع لقانون حركة واحد هو (ن -- و أ + ق ع -- س --نَ) ويمكننا أن نحدد العالم الحديث زمنياً بالفترة الممتدة من القرن الخامس عشر حتى الأن. وتاريخ أوروبا الحديث المتزامن مع هيمنة الرأسمال، هو تاريخ دموى حافل بحروب المجازر وحملات الإبادة؛ فهو تاريخ استعمارى نهبوى بحت. وسوف نتخذ من أمريكا اللاتينية حقلاً للتحليل؛ لأنها تمثل حقيقة النموذج الأمثل لأعمال السلب والنهب والإبادة التى قامت بها أوروبا الاستعمارية فى فجر تاريخها الحديث.
(2)
عادةً ما يجرى تقسيم تاريخ أمريكا اللاتينية إلى أربع مراحل: المرحلة الأولى(1492– 1542) وهى مرحلة الغزو والاستعمار. المرحلة الثانية (1542–1810) وهى مرحلة المستعمرات. المرحلة الثالثة (1810– 1824) وهى مرحلة الكفاح من أجل الاستقلال السياسى. المرحلة الرابعة (1824وحتى الآن) وهى مرحلة الحياة السياسية المستقلة(1). ومن الواضح أن التقسيم على هذا النحو هو تقسيم سياسى بالدرجة الأولى؛ ولأن ما ننشغل به هو إعادة النظر فى تاريخ الرأسمال؛ فسوف نعتنق تقسيماً مختلفاً نسبياً، إذ سنقسم، ضمناً، تاريخ أمريكا اللاتينية إلى مرحلتين: الأولى: مرحلة ما قبل هيمنة الرأسمال. والثانية: مرحلة هيمنة الرأسمال. ولتكوين الوعى بملامـــح المرحلة التاريخية التى شهدت مولد التــــاريخ الأوروبى الحـديث، على جماجم ملايين البشر، وتبلور عصر النهضة، بإبادة قارة واستعباد الأخرى؛ فيتعين أن نتزود بالأتى(2) :
1- الوعى بالعدوانية المباشرة للرأسمال الأوروبى الاستعمارى (الإسبانى والبرتغالى فى مرحلة أولى) على مجتمعات الاقتصاد المعاشى (بكل خصــوصيته، وحضارته المدهشـــة: الإنكا، والأزتك) فى أمـــريكا اللاتينية. فحينما وصل الغزاة لم يكن السكان الأصليون، ومنذ آلاف السنين، يعرفون لا الملكية الفردية للأرض ولا ملكية العقارات بوجه عام، إلا أن لديهم مفهوم واضح للملكية الجماعية للأراضى. فقرار الإنتاج يُتخذ بشكل جماعى، وتوزيع المنتَج، حتى ما كان نتيجة القنص والصيد، يتم بشكل جماعى. والنقود، والأرباح، والرأسمال، أمور غير مفهومة على الإطلاق! فالتبادل، مع ندرته، كان يتم عن طريق المقايضة. والذهب، إله الأوروبى، لم يكن يستخدم سوى فى بعض الحلى وبعض الأدوات والمصنوعات البسيطة. ولم يرق هذا المعدن حتى إلى منزلة وسيط التبادل لدى المايا أو الإنكا أو الأزتك. أو غيرهم فى أرجاء امريكا اللاتينية، قبل مجىء المستعمر الذى يعبد هذا المعدن. أما هؤلاء الغزاة، عبدة الذهب، فهم قادمون من مجتمع التجارة، والأرباح، والمضاربة، والتبادل النقدى المعمم، ولكنهم، مع الغزو، لم ينقلوا التنظيم الاجتماعى والاقتصادى الآخذ فى التشكل فى بلادهم الأوروبية وباقى أرجاء العالم الحديث، أى لم ينقلوا نمط الإنتاج الرأسمالى الناشىء؛ إنما نقلوا جميع نظم الاستغلال الهمجية البالية(3)، إذ نشأ الإقطــاع بكل قسوة العبـــودية فى المستعمرات، فى نفس الوقت الذى تحلل فيه الإقطاع فى العالم الوسيط، وانزوت فيه العبودية فى الأعمال المنزلية، وبعض الأجزاء اليسيرة المتفرقة من العالم المعاصر!
ويجب أن يكون واضحاً أن من المؤكد تاريخياً أن أوروبا لم تكن أكثر تطوراً أو تقدماً من الحضارات الأخرى فى عام 1500، بل كانت أوروبا الأشد تخلفاً والأكثر بلادة. إن الاستعمار النهبوى هو الوحيد القادر على تفسير نهضة أوروبا.
وبفضل الموقع الجغرافى الذى احتلته القارة الأوروبية، تمكنت سفن الغزاة، عبدة الذهب، من بلوغ العالم الجديد. ولكن، كى تفرغ شحنات البارود فى قلوب السكان الآمنين، وتملأ بدلاً منه الذهب.
وفى المستعمرة؛ فبحصول الصراع الجدلى بين رغبة الغزاة المحمومة فى الأرض الشاسعة، والذهب، ومجابهة السكان الأصليين(4)، الذى كان فى الأصل مالكاً لشروط تجديد إنتاجه، تبدأ العملية التاريخية (الدامجة) للأجزاء المستعمرة فى الكل الرأسمالى الناشىء. تزامنت هذه العملية مع ضخ المزيد من
قوة العمل (المستورَدة، المقتَنَصة) من خلال تجارة سَيطر عليها آنذاك التاج الإسبانى والتاج البرتغالى، وتبعهما فى ذلك في ما بعد باقى القوى الاستعمارية الأوروبية. بصفة خاصة فرنسا وإنجلترا وهولندا. يتعين هنا الوعى بمجموعة من الأحداث الجوهرية، ففى الفترة 1688- 1815 اشتبكت فرنسا وإنجلترا فى سبع حروب، كان من أهم أسبابها على الإطلاق، التنافس فى المستعمرات، وفرض السيادة والهيمنة على البحار، وكانت كلما نشبت حرب بين دولتين فى أوربا، امتد لهيبها إلى ما وراء البحار، واشتعلت نيران الحرب كذلك فى المستعمرات. ومن جهة أخرى، عندما ورث الإمبراطور شارل الخامس، عرش الإمبراطورية الهولندية فى أوائل القرن السادس عشر، نُظمت الإدارة وتحسنت الأحوال الداخلية، كما أن إتسعت الحركة التجارية، لكن عندما ظهرت حركة الإصلاح الدينى، اعتنق كثير من سكان الشمال مذهب كالفن، فقسا شارل فى معاملتهم، وأحرق عدداً كبيراً منهم، ولما خلفه إبنه فيليب الثانى، واصل سياسة الاضطهاد بعنف، مما أدى إلى إندلاع الثورات ضد الحكم الإسبانى(حتى بلغت حدود المستعمرات). واستمر الصراع بين الفريقين طوال النصف الثانى من القرن السادس عشر وأوائل القرن السابع عشر؛ حتى انتهى الأمر باستقلال هولندا.
ما إن استقلت هولندا، حتى صارت من أقوى دول أوروبا فى البحر، وأوسعها تجارة، ولا سيما فى الشرق. وقد ساعدها فى ذلك ازدياد قوتها البحرية خلال حرب الاستقلال، وسطوها على السفن الإسبانية، وكذلك الاستيلاء على بعض المستعمرات الإسبانية التى آلت لها من البرتغال بعد إخضاعها وضمها إليها. هذا إلى جانب ضعف قوة البرتغال بعد فقدانها لاستقلالها، وكذلك اضمحلال قوة إسبانيا البحرية، بعد انهزام أسطولها العظيم المعروف بـ"الآرمادا" الذى لا يقهر أمام الأسطول الإنجليزى فى عام 1588، مما شجع السفن الهولندية على معارضة تجارة أسبانيا فى البحار، بل وإنتصار أسطولها على الأسطول الإسبانى فى عام 1607عند مضيق جبل طارق.(5)
2- الوعى بالهمجية والقسوة والبشاعة التى اقترنت بالحقبة الإستعمارية وفجر الرأسمالية المشرق! فعلى سبيل المثال كان عدد سكان المكسيك فى عام 1519 نحو 25 مليون نسمة، انخفض هذا العدد إلى مليون وتسعمائة ألف مع حلول عام 1579! وكى يبلغ ذروة انخفاضه مع عام 1629 حين يبلغ مجموع سكان المكسيك نحو مليون نسمة! أى أن عملية الإبادة التى تمت فى مئة وعشرة سنة قضت على 24 مليون مكسيكى تقريباً! وفى منطقة الكاريبى، على سبيل المثال أيضاً، انخفض عدد السكان من 5.850 مليون نسمة فى العام 1492 إلى نحو 1.960 مليون نسمة فى العام 1825(6). كتب ماركس: "ان اكتشاف مناجم الذهب والفضة فى أمريكا، واقتلاع سكانها الأصليين من مواطنهم واستعبادهم ودفنهم أحياء فى المناجم، وبدايات غزو ونهب الهند الشرقية، وتحويل أفريقيا إلى ساحة محمية لصيد ذوى البشرة السوداء، إن ذلك كله يميز فجر عهد الإنتاج الرأسمالى، وإن هذه العمليات الرغيدة هى العناصر الرئيسية للتراكم الأولى". (7)

يتعين إذاً البحث فى دور الغزو الاستعمارى الأوروبى (الإسبانى والبرتغالى تحديداً، فى مرحلة أولى) فى دَمج الاقتصادات المستعمَرة ذات الاكتفاء الذاتى، أى الإنتاج خارج فكرة التداول النقدى، فى اقتصاداتها المستعمِرة كأحد الأجزاء التابعة. فلقد ظل الإسبان، عقب استقرارهم فى جُزر الهند الغربية، يُرسلون البُعوث الاستعمارية لاستكشاف شواطىء أمريكا الوسطى، حينما سمعوا عن بلاد فى الغرب، يكثر فيها الذهب، والفضة بكميات لا تُحصى؛ فعَهدوا إلى حملة صغيرة بقيادة كورتيز لغزو هذه البلاد، المكسيك حالياً، التى كانت موطن قبائل ذات كُنوز هائلة وحضارة رائعة وديانات وفنون راقية. إنها حضارة الأزتك، التى أُبِيدَت ومُسحت مِن على خريطة العالم. وحينما سمع الإسبان عن بيرو، وهى موطن قبائل أخرى ذات كنوز وحضارة لا تَقل فى روعتها عن الأزتك؛ إنها حضارة الإنكا؛ أعدوا حملة بقيادة بيزارو للاستيلاء عليها، وتَحكى المراجع المختلفة فى هذا الشأن أن أهل تلك البلاد أهل سلام وسلم وسكينة، يَملكون مِن الذهب مالم يَخطر على بال أوروبى واحد؛ حتى أن مَلِك الإنكا، أتاهوالبا، افتدى نفسه لما أُسر، كما يُروى، بملء الحجرة التى كان فيها ذهباً، فأخذه بيزارو، ثم قتله! وذلك فى عام1533(8).
3- الوعى بالكيفية التى تم من خلالها فرض الزراعة الأحادية على أغنى أراضى قارة أمريكا اللاتينية وأخصبها وأوفرها إنتاجاً: البرازيل، وباربادوس، وجزر سوتابنتو، وترينداد وتوباجو، وكوبا، وبورتوريكو، والدومينيكان، وهاييتى، الأمر الذى كَون، تاريخياً، بلداناً كالإكوادور، على سبيل المثال، يَتوقف مصير سُكانِها على تقلبات الأسعار العالمية للبن أوالكاكاو، أو الموز!
هنا يجب الوعى أيضاً بالكيفية التى تمت مِن خلالها عملية تعميق هذا الشكل مِن الزراعة مِن خلال هيكلة اقتصادات بُلدان القارة على نحو يَخدم، بإخلاص، اقتصادات الأجزاء الاستعمارية؛ بجعل بلدان القارة مورداً دائماً للمواد الأولية، الحال الذى أفضى، بعد استنزاف التربة، إلى استيراد المواد الغذائية؛ فالأرض آلت ألا تُنتِج سوى المحصول الواحد(9)، المحصول الاستعمارى: سكر، كاكاو، مطاط، بن، قطن؛ وهو الأمر الذى تزامن مع نشوء المزرعة الاستعمارية (اللاتيفونديات) وتبلور الطبقات الاجتماعية المكونة تاريخياً فى ركاب الرأسمال الأجنبى(الإسبانى والبرتغالى والإنجليزى والفرنسى والهولنــــدى، ثم الأمـريكى كأمتداد للهيمنــة الإستعـماريــة) ومـــن هنا نشأت أرستقراطية السكر، وأوليجارشية الكاكاو، كما ظهر أثرياء الغابة (المطاط) وأباطرة البن. سوف تنهض هذه الطبقات، في ما بعد، بتأدية دور البطولة المطلقة من خلال الأرباح التى تجنيها بفعل القانون الموضوعى للقيمة، فى تدعيم بنية الخضوع والهيمنة، وتكريس عوامل التخلف التاريخى لدول القارة، فتلك الطبقات التى تربّت فى كنف المستعمِر وتلقت تعليماً استعمارياً راقياً(10) لا توجه (ولا يمكن على هذا النحو أن توجه) هذه الأرباح إلى الحقول الاستثمارية الوطنية، بل يُعاد ضخها فى نفس العروق... إلى الخارج!
4- الوعى بدور متطلبات عملية دمج الأجزاء المستعمَرة فى الاقتصادات المستعمِرة، كأحد الأجزاء التابعة، فى قلب الميزان الديموجرافى فى معظم أجزاء القارة(11) وهو الأمر الذى يتعين معـــه الوعى بطبيعة نمط الإنتاج الذى استخدمته الاقتصادات المستعمرة فى سبيل إنهاك الاقتصادات المستعمِرة وتصفيتها مادياً، وسلبها لشروط تجديد إنتاجها، ونمط الإنتاج الذى استخدمته القوى الاستعمارية إنما يحتاج (لتمحوره حول السخرة والعبودية) إلى قوة عمل وفيرة، أكثر من وسائل الإنتاج (مواد العمل وأدوات العمل) ولذا سيكون من الضرورى أن تقوم قوى الاستعمار الأوروبى بضخ نحو 8 مليون عبد (إنسان) أفريقى إلى مناطق البرازيل وغرب الانديز وجيانا فى الفترة من 1550 وحتى 1850 بعد أن قضى الاستعمار على السكان الأصليين! تركز هذا الضخ فى معظم جزر الكاريبى ومناطق زراعة القصب ومناجم الذهب ومزارع البن. الأمر الذى أفضى إلى تكون طبقة (الكريوليس) والتى ستنهض بدور هام فى سبيل ترسيخ الهيمنة الاستعمارية حتى بعد تحولها شطر القارة الأفريقية ابتداءً من النصف الثانى من القرن الثامن عشر، فلقد كرس الاستقلال فى بداية القرن التاسع عشر تحويل السلطة إلى أيدى الملاك العقاريين والبورجوازية الكمبرادورية. عقب ذلك استمر التحويل وتدعيمه على امتداد القرن إزاء تكثيف التبادلات مع المتروبول الجديد، بريطانيا العظمى.
5- الوعى بالكيفية التاريخية التى بمقتضاها أمست القارة اللاتينية للأوروبيين عالماً جديداً بما تحمله الكلمة من معنى؛ إذ تبين سجلات الأشخاص المرخص لهم بالذهاب إلى الهند الغربية أسماء وحرف كثير من أصحاب الحرف والصناع المهرة، ونستطيع أن نستخلص من تحليل هذه السجلات، وما تضمنته من حرف ومهن، الأحوال المعقدة التى كانت تتزايد فى المجتمعات المدنية الآخذة فى التطور ليس فى الأجزاء المستعمرة فحسب إنما فى الأجزاء المستعمرة كذلك. ومن الذين رخص لهم بعبور الأطلنطى فى الفترة من عام 1509 حتى عام 1517: مزارع، وبغال، وتاجر، ومحترف فلاحة بساتين، وصيدلى، وأربعة من صانعى الأحذية، وصانع ألات قاطعة، وسباكاً، وفاحص معادن، ونجار، وحلاق، وحفار، وحائك ملابس، ونقاش، وحداد، وصانع أحذية، وصانع جوارب، وصانع عربات، وصانع فضيات، وصيرفى، وصانع شموع، وصانع معدن، وخياط، وجراح خلع أسنان، وراعى غنم، وزارع فاكهة، وثمانية بنائين، وخراطون، وخزفيون، وصانعو الصهاريج، والمطرزون، وحدادو الأقفال، والخبازون، وصانعو الأحذية (12).
6- من المهم أن نعلم أن الغزاة، عبدة الذهب، قد نهبوا، من بوليفيا وبيرو والمكسيك والهند الغربية والبرازيل وتشيلى، فى الفترة الممتدة من 1545 حتى 1800 نحو15173.1مليار مارك من الفضة، ونحو4572 مليار مارك من الذهب. وتكمن أهمية معرفة هذه الجرائم فى فهم الكيفية التى تحققت من خلالها عملية هيمنة قوانين حركة الرأسمال. فقد استقبلت أوروبا ثروات، هى بالأساس أدوات دفع، غير مسبوقة تاريخياً. الأمر الذى انعكس على الوظائف التى تؤديها النقود فى الحياة اليومية فى داخل الأجزاء المستعمِرة، فقد زادت كمية النقود فى نفس الوقت الذى نشطت فيه التجارة عبر بحار ومحيطات العالم الحديث، وتمكنت أوروبا من الوصول إلى مراكز التجارة البعيدة شرقاً وغرباً. فى الوقت نفسه، الذى بدأ فيه التراكم الرأسمالى، بدأت الاكتشافات المعرفية والمخترعات العلمية، وأصبحت النقود تلعب دوراً تعدى الاكتناز إلى الرأسمال. إنما الرأسمال الذى يستخدم من أجل الإنتاج. وهو الأمر الذى تطلب البحث عن قوى الإنتاج الأخرى. فالرأسمال موجود بكثافة عالية، وأدوات العمل يجرى اختراع المزيد منها وتطويرها بوتيرة متسارعة. يتبقى مواد العمل أى المواد الخام. حينئذ تكون المستعمرات المورد الرئيسى لهذه المواد مثل السكر والقطن والمطاط والبن والموز... إلخ.
يجب إذا الوعى بطبيعة التراكم الرأسمالى على الصعيد العالمى(13) وحقيقة التكون التاريخى لاقتصاد المبادلة النقدية المعممة فى أوروبا فى القرن الخامس عشر، هذا التكون التاريخى الذى تم من خلال التواطؤ بين الرأسمال التجارى (عقب تبلوره الطبقى والاجتماعى) والسلطة المعبرة عن فكرة الدولة القومية الساعية إلى تحطيم الاصطفائية التى نهض عليها نمط الإنتاج الاقطاعى، والمتجهة نحو الإنسلاخ من الجسد اللاتينى(14) وذلك حتى آواخر القرن السابع عشر، ثم توسع الرأسمال الصناعى حتى أوائل القرن الثامن عشر، والذى تزامن مع هيمنة نمط الإنتاج الرأسمالى فى طريقه إلى خلق الســـوق العالمية وتدويل الإنتـــاج من خلال أنماط مختلفة للتقســـيم الدولى للعمـــل والتغلغل فى هياكل المجتمعات المتخلفة؛ مشكلا بذلك أجزاء للاقتصاد الدولى بمستويات مختلفة من التطور. فأضحى هناك الأجزاء المتقدمة من الاقتصاد الرأسمالى الدولى كما أمست كذلك أجزاء متخلفة من الاقتصاد الرأسمالى الدولى.
7- الكيفية التاريخية التى تبلور من خلالها التاريخ النقدى "للهيمنة" الأمريكية فى القرن التاسع عشر، بعد سلسلة متصلة من العلاقات الجدلية بين القوى الأوربية(15) المتصارعة(هولندا، إنجلترا، فرنسا، روسيا، النمسا، المانيا، إيطاليا، بروسيا، الدولة العثمانية) وانتهاءً بالحرب العالمية الأولى التى خرج منها الاقتصاد الأوروبى حطاماً، بينما خرجت الولايات المتحدة الامريكية كأغنى وأقوى دولة رأسمالية فى العالم، يزيد مجموع أرصدتها الذهبية عن مجموع الأرصدة الذهبية التى تملكها روسيا وفرنسا والمانيا وبريطانيا، وكأن الحرب لم تفعل شيئاً سوى تحريك التراكم، أى نقل ثروات أمريكا اللاتينية من أوروبا إلى الولايات المتحدة. هنا ينبغى أن نعى الظروف التاريخية التى سادت فى القرن التاسع عشر، والتى تمكن الذهب من خلالها من إرساء الأثمان المعبر عنها بعملات وطنية مختلفة نظير سلع تم إنتاجها فى أماكن متفرقة من العالم وفى ظل ظروف إنتاجية مختلفة.
لم يكن من الممكن للذهب أن يؤدى هذه الوظيفة إلا إبتداءً من تداوله كنقود فى داخل الاقتصاد الرأسمالى القومى الأكثر تطوراً والذى كان فى سبيله للسيطرة على الجزء الأكبر من المعاملات الدولية: الاقتصاد البريطانى. وتمكن قاعدة الذهب الدولية بدورها الرأسمال البريطانى من تأكيد هيمنته داخل الاقتصاد العالمى، وهى هيمنة استمدها من تفوق الإنتاجية النسبية للعمل عمقاً ومدى، وبفضل هذه الهيمنة يصبح الاسترلينى، العملة الوطنية البريطانية، سيد العملات دولياً، ويمكن أن يحل محل الذهب لعملات بلدان أخرى تخضع لهيمنة الرأسمال البريطانى .
وهكذا تحل هيمنة رأسمال أحد البلدان على الصعيد الدولى محل سلطة الدولة على الصعيد القومى، وتمكن هذه الهيمنة عملة الرأسمال المهيمن من القيام فى المعاملات الدولية دور النقود الدولية، سواء كانت هذه العملة تستند إلى الذهب أو لا تستند، وإن يكن من الضرورى أن تبدأ فترة سيطرتها التاريخية، بحكم تاريخية النقود، بالاستناد إلى الذهب. ويكون من الطبيعى عند إنتقال الهيمنة من رأســــمال قومى إلى رأســـمال قومى آخر أن ترث عملة المهيمن الجديد وظيفة النقـود الدولية حالة بذلك محل عملة الرأسمال الذى فقد هيمنته على الاقتصاد الرأسمالى الدولى. وذلك هو ما حدث فى فترة الحربين العالميتين عندما فقد الرأسمال البريطانى هيمنته على الاقتصاد الدولى (تاركاً الاقتصاد الدولى كى يُقسَم عدة كتل نقدية)؛ فقد ظهر الرأسمال الأمريكى كى يفرض هيمنته، ولكى تأتى الحرب العالمية الثانية لتؤكد الهيمنة الجديدة التى تفرض جميع تبعاتها فى الفترة التالية للحرب(16).
8- كما يَتعين التقدم خطوة إلى الأمام، تاريخياً ومِن ثم منهجياً، بالبحث الواعى فى دور الشركات الأجنبية العملاقة، دولية النشاط، ورساميلها القومية فى تعميق التخلف والتبعية فى أجزاء القارة المختلفة كمورِد رئيسى للمواد الأولية، من دون أى مشاركة مِن هذه الأجزاء فى عملية التجارة فى أى مرحلة مِن مراحلها (الإنتاج، التسويق(17)، التوزيع، التخزين،...)، مع الحفاظ دائماً على إثارة القلق فى أسواق تلك المنتجات، حفاظاً على التحكم فى أسعارها العالمية وإمكانية التلاعب بها. وتُعتبر شركات النفط العالمية الكبرى مِن أقدم الشركات دولية النشاط فى هذا الشأن.