خلاصة الرأسمالية


محمد عادل زكى
2014 / 6 / 15 - 15:19     

ما الحياة؟ وما الهدف منها؟ عالم اليوم، وحده، هو القادر على الإجابة؛ يُجيب: لا أعرف!! وكيف يعرف بعد أن صار عبر خمسمائة عام من الانحطاط لا يعرف سوى الهذيان؛ بعدما أصر على الانتحار الجماعى،لقد صمت فينا صوت الحياة... وغفل بداخلنا ضمير الإنسان حتى كاد الإنسان أن ينسى أنه إنسان بعد أن فقد عبقرية مشيته المستقيمة حين ألف السجود للطغاه فزحف على بطنه من الفاقه والجوع...أو تحول إلى حشرة كافكا... إن حشرة كافكا هى التجسيد الرائع لعالم يترنح إنسانه بعد أن صارت الحياة بلا معنى وبلا هدف، وبلا مشروع حضارى لمستقبل أمن.
كيف يعرف عالمنا اليوم معنى الحياة والهدف منها وقد مهد له دانتى حين فصل تاريخياً، وبمنطق أرسطو المقدس بين الحـياة والدين، وإختزل له ديكارت الإنسان إلى ألة مفكرة؛ المشاعر... الأحاسيس... العواطف... كلها صارت عمليات عقلية تخضع مع التطور التكنولوجى إلى القياس الدقيق على أحدث أجهزة بيل جيتس، ويمكن حسابها طبقاً لسعر الصرف العالمى.
كيف يعرف عالمنا اليوم معنى الحياة والهدف منها وقد أعلن له نيتشه أن الناس هم الذين أقاموا الخير والشر فابتدعوهما وما إكتشفوهما ولا أنزلا عليهما من السماء...إبتداءً من اللامعنى صار الإلحاد إبداعاً... والدين أسطورة... والرسل مرتزقة... حتى الإلحاد صار مسخاً... ابتداءً من اللامعنى لعن فاوست كل شىء صالح على الأرض واتبع مارجريت... ابتداءً من اللامعنى واللاهدف أمسى الانسلاخ عن حضارة الإنسان حداثة، وهجر التراث الإنسانى المشترك تجديداً، أما وحدة المعرفة الإنسانية فقد باتت عتها.
كيف يعرف عالمنا اليوم معنى الحياة والهدف منها، وقد همس له حلاق أشبيليه"إن للذهب قدرة على تفتيح مدارك الإنسان".... كم هى عبارة مهذبة مقارنة بما صاح به كولومبس فى جاميكا:" الذهب شىء مدهش. من يملكه يملك كل شىء، من يملكه يملك كل ما يرغب فيه، بل بالذهب يستطيع المرء أن يدخل الارواح إلى الجنة".
ابتداءً من اللامعنى صار الهوس العقلى مرحاً فى موسيقى "الهارد روك" و"الميتال" و"التكنو" و"الفانكى"، ولقد أمسى الخواء تجريباً، وتدمير المعنى واللون إنطباعية، وإهدار الشكل والأبعاد تكعيباً، والاختزال والتسطيح أسموه تجريداً. ومع اللامعنى تجرعنا مر تراث الدين الوضعى.. التراث الذى جرد النصوص الخلاقة من قوتها المتسائلة عن معنى حياتنا والهدف منها، حتى صرنا لا نميز بين وقت الفراغ وبين الوقت الفارغ، لأن تجريد تلك النصوص من قوتها تلك إنما تم فى نفس اللحظة التى تحولت فيها من أيقونة إلى وثن... من نقطة بداية إلى خط نهاية العابر له مرتد.
ولنتقدم خطوة فكرية إبعد كى نتعرف آنياً على عالمنا الحقيقى، بالتعرف على معالمه الرئيسية التى تكشف عن إتفاق جماعى عالمى... ولكن على الإنتحار... إن هذا الكوكب بمن فيه يتجه مسرعاً صوب الأعماق، أعماق الانحطاط...إنها سكرة الموت. موت عصر، وميلاد عصر. فهل من الضرورى أن نسحق تحت عجلة حتميته؟
ومن كان لا يروق له قولى فلينظر إلى: الخواء فى الفن، وإلى الاضمحلال فى الأخلاق، وإلى الهمجية فى الاقتصاد، وإلى القمع فى السياسة، وإلى التجارة بالدين،.... فلينظر إلى التحلل فى الرغبة الجماعية... وإلى النهضة فى الفردية والأنانية... فلينظر إلى الأحادية فى المعرفة، وإلى الثيوقراطية فى الإيمان، وإلى الهوس فى الدين، وإلى الصنمية فى الرآى... فلينظر إلى إدعاء إمتلاك الحقيقة الاجتماعية، ورفض الآخر من باب أنه آخر، فلينظر إلى الحروب... إلى الإبادة... إلى طمس حضارات، وإزالة ثقافات من على خريطة العالم.
حقاً هذا هو العالم الذى أفرزه عالم الخمسمائة عام الماضية، أنه العالم، الذى شرع يرنم ترانيم هلاكه على مذبح الإله الأبطش: الرأسمالية، بقيادة كاهن معبدها: إقتصاد السوق، وفى هستيريا جماعية أطلق خدام المذبح (المرصع بالدولار) بخور الجنائز بعد أن تُليت عليه إصحاحات من كتاب الانحطاط فى معابد "وول ستريت" وفروعها فى طوكيو وبرلين وباريس... ها هى الآلهة اليونانية العائدة فى صيغة هندية، تعود من جديد. إله السوق. إله الرأسمالية. إله الإمبريالية، الثلاثة فى واحد(أمين) إنهم فى إله واحد نهم متعطش إلى مزيد من دماء الشعوب التى إختلطت بأوراق (النقد) فى خزائن (صندوق) الموت الحامل لعرش أسياد العالم ومفسديه، محركى الفتن فيه وجلاديه. طليعة الانحطاط(أمريكا) وخدام معابدها.
الجات...البنك الدولى... صندوق النقد، ثلاثة عناصر فى مركب عضوى واحد. سام... يسرى ببطء ويتغلغل بلا هوادة فى كُل خلية من خلايا اقتصاد عالمنا ولا يغادرها إلا وهى فى دمائها غارقة... إنه المركب الذى يتجرعه زعافاً كُل من آمن بعقيدة الوحدانية. وحدانية السوق الكريم! الموزع بالعدل! وإتبع الكاهن الأعظم: اقتصاد السوق الواحد الأحد!
أزمة المديونية... أزمة الطاقة... أزمة النقد، تلك هى قرابين المذبح الدولارى، وأضحية العيد الرأسمالى، المسمى بالأزمة الدورية.
البطالة... الجوع... الفقر... الكساد... الإفلاس، تلك هى آلهة الفتك العوالى الساكنة فى سماء عالم دنس"اليد". يد الإنسان، التى بفضلها إنفصل عن مملكة الحيوان... تلك هى النتائج الحتمية لعبادة صنم التداول ليقرب إلى الأرباح زلفى، بعد الإطاحة بالنصوص المقدسة الحقيقية التى جاء فيها: أن الأرباح لا تلدها عذراء؛ فهى تتكون فى مجال الإنتاج بتفاعل قوة العمل مع وسائل الإنتاج، وأن الثمن هو المظهر النقدى للقيمة، ولايفترض أن يكون تعبيراً صادقاً عنها، إن الأزمة فى بعد كبير من أبعادها تكمن فى القطيعة بين القيمة والثمن على المستوى الأول، وتتبدى فى الثمن نفسه فى المستوى الأول مكرر. هى إذاً النتائج الطبيعية لمسخ عِلم الاقتصاد السياسى. إنها نتائج أولية لسيادة ثقافة واحدة، وهيمنة حضارة وحيدة ليس بإمكانهما سوى صناعة نعشاً... يلفظ العالم بداخله أنفاسه الأخيرة.
التخلف...التنمية، مفردان لا يجوز فهمهما إلا مِن خلال شروح كهنة المؤسسات الدولية للإبادة الإنسانية، فلقد سطر فى كتاب الانحطاط أن التخلف هو أن تحيا عاصياً لرب السوق، مارقاً عن شريعته المدونة فى ملاحق الجات المقدسة. التنمية هى محبته والفناء فيه... التخلف هو الفرار من الهلاك، أما أن تهرول نحوه فتلك هى التنمية... التنمية التى تمتلىء أحشائها بالمزيد من ضحايا البطالة والجوع والفقر والمرض.
حقاً، 500 عام من الإنحطاط قاد المخبولون فيها العميان على ظهر كوكب ينتحر...
وإنى لآمل أن نعى أن درس الحاضر فى ضوء الماضى لفائدة المستقبل، إنما يعنى الفهم الناقد الواعى بحركة التاريخ البطيئة والعظيمة، التى كونت فى رحمها الحاضر بجميع تفاصيله، وتركت لنا تشكيل المستقبل، نعم تشكيل المستقبل، بل الاختيار بين الموت والحياة... إما الموت انتحاراً جماعياً على ظهر كوكب يعتصره نظام عالمى لا يعرف العدالة أو الرحمة، وإما الحياة بدفع عجلات التاريخ نحو مستقبل لديه مشروع حضاري وإنساني يستلهم وجوده من تراث البشرية المشترك. حقاً إما الطموح إلى أكثر من الوجود. وإما الصلاة لئلا يأتى المخرب شتاءً بعدما قاد المخبولون العميان. هلا طمحنا إلى أكثر من وجودنا؟ فلنطمح إلى أكثر من الوجود... فلنطمح إلى أكثر من الوجود... فلنطمح إلى أكثر من الوجود.