التنمية في الخليج في مواجهة الثقافة الاستهلاكية


عقيل صالح
2014 / 6 / 1 - 00:42     

( قراءة نقدية لورقة د. باقر النجار في ندوة الكويت حول خطة التنمية الثقافية)

يطرح الدكتور باقر النجار(*) في ورقته ( الثقافة الاستهلاكية واثرها على التنمية الثقافية) المقدمة الى ندوة الكويت حول خطة التنمية الثقافية (1) قضايا مهمة تستدعي منا التوقف عندها والنظر اليها بعين ناقدة.

يقف الدكتور باقر النجار مذهولاً أمام المجتمع الخليجي وتطوراته المطردة, وخصوصاً في مسألة الإستهلاك, فهو في النهاية ينتمي إلى الجيل القديم , وحتماً يتذكر أيام ما قبل الصدمة النفطية الأولى في السبعينيات, أو ما قبل صعود شريحة النوفوريش في المجتمع البحريني. هذا الذهول, الذي هو في الأساس أساس أطروحة الدكتور كلها, قد أعطى بعضاً من القراءات غير واضحة ازاء معالم التشكيل "الإستهلاكي" للمجتمعات الخليجية.

أهم ما تطرق إليه الباحث هو مفهوم المول/ المجمع التجاري في الخليج, وموقعه الاجتماعي وأسبابه الاقتصادية, وكذلك حول الهستيريا الجماعية ( إذ يصح القول) في مناسبة شهر رمضان وعيدي الفطر والأضحى, وبالإضافة إلى الرياضة والشعائر الدينية وتحويلهما من أمور معنوية إلى ماديات إقتصادية يجري من ورائها الربح والخسارة.

يبدأ د.النجار بإعطاء القارئ إطلالة حول النظام العالمي السائد, محاولا أن يقوم بتأويل المجتمعات الخليجية وفقاً للمتغيرات الكونية الآنية. التغيرات الداخلية التي تشهدها المناطق الخليجية, هي حصراً, وليدة التناقضات والتغيرات الكونية التي تتبلور. ومن هنا ينطلق فكر د.النجار حول الاستهلاكية بشكل صحيح, حيث لا يمكن للاستهلاكية كظاهرة اجتماعية (فينومينا اجتماعية) ان تتكون أو تتأسس من دون الأساس الكوني لهذا النمط الاقتصادي المعين.

لكنه يدرج هذه العملية الكونية تحت مسمى ((الرأسمالية الحديثة)), وهذا الخطاب – يجب أن نعترف- أقوى من خطابات يساريي واشتراكيي العرب الذين سكبوا حبرهم في الحديث عن الإمبريالية والرأسمالية الإحتكارية. إلا أن هذا الخطاب,, يتضمن بعض التناقضات الاقتصادية والتي قد تشوه المفاهيم المتعلقة بالثقافة التي يتمحور موضوعه عليها ككل.

فمن جانب, يتحدث د.النجار عن الرأسمالية الحديثة, وحتماً يعنيها بمعنى أنها وليدة مشاريع ثاتشر و ريغان الاقتصادية في الثمانينات وأحلامهم النيوليبرالية, ومن الجانب الآخر, يتحدث عن ارتفاع الاستهلاكية العالمية التي هي : (( سمة لصيقة بالاقتصادات الرأسمالية الحديثة ))(2) , في شرحه لبلورة النظام الاقتصادي العالم الحالي نقيضين, الإستهلاك امام الإنتاج, أيّ, النظام الاستهلاكي والنظام الرأسمالي الإنتاجي. إلا أن لا يمكن لصق المفهومين, مثلما لا يمكن خلط الدهن بالماء, فالإستهلاك هو ضد الانتاج, فكيف يكون نظاما واحدا (بتعدد أسمائه) يتكون من نظامين نقيضين قاتلين لجسمه التأسيسي وأن يتعايش هذين التناقضين في حالة وئام وليس في حالة تنافر ؟

فالبوح بكل بداهة بأن الاستهلاكية هي سمة لصيقة بالاقتصاد الرأسمالي, قد يشير إلى خلل في الاستقرار على مفهوم واحد للمنظومة الكونية, بالرغم من قرب نظرة الكاتب للنظام العالمي الآني, إلا أن الإنطلاق من نظرة غير صحيحة اقتصاديا قد يؤثر على النظرة التحليلية حول الثقافة في الخليج.

النظام الإستهلاكي الذي يتحدث عنه الكاتب, هو في الحقيقة, النقيض الأساسي للنظام الرأسمالي, الذي يعتقد الكاتب بوئام الأثنين, فمنذ السبيعنات, خصوصاً بعد احلال معاهدة بريتون وودز (Bretton Woods) (3) ما بعد صدمة نيكسون وبعد عقد مؤتمر جمايكا (1976) (4), الذي سبب في فصل ما بين النقد والذهب مما قد أدى إلى فقدان قيمة عملة الدولار التي أصبحت كونية تحت صفة ( العملة الملك). فقدان العملة لقيمتها المستندة على سلعة الذهب, هو حدث كاف لدحض وجود النظام الرأسمالي, خصوصاً من السبعينيات, بذلك, الإقرار بالنظام الاستهلاكي غير الانتاجي في القطب الغربي من العالم (5).

وفقاً لأغلب الاحصائيات الاقتصادية المتعلقة بالولايات المتحدة الامريكية, وبريطانيا, وفرنسا ( الدول الرأسمالية الكلاسيكية) فأن نسبة الإنتاج تقلص فيها إلى أقل من 19%, بينما زاد معدل الاستهلاك إلى أكثر من 80%, وهذا الإستهلاك مصدره إنتاج الدول الإنتاجية الآسيوية (وعلى رأسها الصين) بعد نموها إنتاجياً.

الإستهلاك سواء كان في الخليج أو في أي مكان آخر, هو نتاج لعملية تغيرية اقتصادية عالمية التي تتطور منذ الربع الأخير من القرن الماضي, ولا يمكن للإستهلاك أن يكون فعالاً في الدول الريعية المعتمدة على النفط بشكل أساسي, من دون تكوين عالمي مساند لوجوده.

هذه الظاهرة العالمية, ساهمت بشكل كبير وبشكل أساسي في تكوين ما يسمى بدول الرفاه (Welfare States), القائمة على الاستهلاك الخدماتي الضخم, كما يحدث مثلاً في الولايات المتحدة أو الدول الأوروبية بمجملها, وكذلك الخليجية. فبالرغم من أن القطاع الإنتاجي لدول الخليج قطاع فعال, مثل السعودية أو البحرين, إلا أن هذه القطاعات متمثلة فيما يسمى بالصناعات الاستخراجية والتحويلية. وهذه القطاعات الآن تتعايش مع الإرتفاع المطرد للقطاع الخدماتي, وهذه القطاعات مع الاستخراج العالي للمواد الخام اصبح مهدداً بالإنقراض, ولهذا تلجأ معظم دول الخليج في التنوع اقتصادياً. أفضل مثال سيكون الامارات المتحدة والسعودية, حيث تمارس هاتين الدولتين نوعاً من التحفيز الكبير للقطاعات السياحية, فدبي أصبحت تستقطب أغلب دول العالم لإقامة إستثمارات فيها, وأصبحت تستقطب السواح من العالم أجمعه, كذلك يمكننا أن نرى نفس الشيء في السعودية, حيث السياحة الدينية وحدها تشكل دخلا سنويا ضخما.

لكن كان دائماً يشدد كلاسيكيو الاقتصاد ( آدم سميث, ديفد ريكاردو, وكارل ماركس) بلا قيمة القطاع الخدماتي, وخصوصاً أنه يخلو من أي قيمة تبادلية (Exchange Value). في مثل الوقت, أن النظام الكوني هو ما سمح لهذا النمط من المجتمع ان يتأسس, وثقافة الاستهلاك هي السائدة الآن في العالم الغربي, وكذلك في الخليج.

هذه التغيرات الاقتصادية في العالم, قد حتمت على دول الخليج ان تنتهج نهج الرفاه الاجتماعي, وهذا الرفاه الاجتماعي, مع بداياته في السبعينات, قد جعل من الاستهلاك أمراً جماعياً متكاملاً. لهذا يبتعد د.النجار عن التفسير الطبقي لهذه الظاهرة بل يؤولها تحت مسمى الذاتي : (( كما انه لا يمثل الحالة الطبقية للفرد او ان يكون معبرا عن حالة التمايز الطبقي بين الافراد, بل هو فعل ذو وظائف اجتماعية معبر عن الذات واحتلال الرتبة الاجتماعية او عن الرغبة في الحصول على القوة المتمثلة في فعل اقتناء كل ما غلا ثمنه وصعب الوصول والحصول عليه)), إلا أن لا يجب تؤويل الذاتوية بمفهومها المجرد, أيّ, التأويل من دون المحتوى الاقتصادي, وخصوصاً أن د. النجار كان يتحدث عن الاقتصاد في هذه الفقرة.

إتساع الطبقة الوسطى في العالم, واستيلاء هذه الطبقة على نمط الانتاج العالمي, هو ما يجعل د. النجار أن ينظر إلى هذه الظاهرة بشكل شمولي, حيث فسرها بالشكل غير الطبقي, بينما هي في لب الطبقية, حيث الذاتوية هي صفة اساسية للطبقة الوسطى, وعندما تختلف شرائح الطبقة الوسطى في اسلوب شرائها لا يعني أنها لا تنتمي إلى الطبقة ذاتها. فمن مشكلات الكثير من المفكرين, هو أنهم ينظرون إلى التصنيفات الطبقية في المجتمع على اساس الدخل : الدخل العالي, والدخل المتوسط, والدخل القليل, فمن له دخلاً عالياً يسمى تاجر أو بورجوازي, ومن دخله متوسطاً هو من الطبقة الوسطى, ومن يصل دخله إلى الحضيض يسمى عامل أو فقير. التصنيف الطبقي للمجتمع يجب أن يتم بالعلاقة مع اسلوب الانتاج وليس الدخل. وفقاً لذلك, الطبقة الوسطى تتضمن عدة شرائح (غنية ومتوسطة وفقيرة) وامتداد هذه الطبقة هو امتداد ذاتها واسلوب معاشها.

فمفهوم لاطبقية الانفاق وتقديم الذاتوية عليها ينم على خلل في فهم الارتباط ما بين الذاتوية والطبقات التي تحوز على هذه الصفات المعينة.

يجدر بنا أن نتوقف عند نقطة مهمة ذكرها د.النجار المتعلقة بكوننة نظام الحياة ونظام الانتاج كالتالي : (( قد لا أذهب بعيداً مع الناحبين والباكين على اصالة ثقافتنا أما طوفان التغيير القادم من الغرب او متبنيا الاعتقاد القائل بأن الثقافة الاستهلاكية هي الوجه الآخر لعملية الأمركة)) .

هذه الفقرة تجعلنا نتوقف عند شيئين مهمين :

النظرة السائدة للنظام العالمي
نظرة د.باقر النجار للنظام العالمي

النظرة السائدة, لنقل المتعلقة بالجماعات اليسارية, والاشتراكية, والشيوعية غير المتمكنة من الفكر الماركسي الحقيقي, وغيرها من التيارات القومية, تقول بأن التناقض الرئيس للرأسمالية لا يزال موجوداً, أيّ, التناقض ما بين البورجوازية والطبقة العاملة (البروليتاريا), أو التناقض ما بين الغرب والشرق, سواء كان ما بين المتربولات والتخوم – لدى اليساريين والاشتراكيين – أو ما بين القومية الغربية والقومية العربية لدى قوميي العرب. هذه النظرة مؤدلجة لم يقترب منها د.النجار بل نبذها كما رأينا في الفقرة المقتبسة, وهذه خطوة ممتازة في تعزيز الفكر الجدلي الموضوعي.

في المقابل, يرفض د.النجار عملية كوننة النظام الاقتصادي والثقافي لدى المركز المهيمن, وهو الولايات المتحدة الامريكية, سوى اعتبرناه مركزاً رأسمالياً كما يعتقد د.النجار, أو مركزاً استهلاكياً كما نعتقد نحن, في حين قال الكاتب في مقدمته بأن النظام القائم هو نتاج للرأسمالية الحديثة, بمعنى أنها نتاج لتغيير كبير في مركز عالمي قوي. هذه التناقضات نجد لها حلاً عندما يقول د. النجار بأن هناك فرقاً ما بين عملية كوننة الاقتصاد وما بين عرقلة هذه العملية في التخوم العربية. في حين, أن لا يوجد مركزاً مهيمناً, لا سيما الولايات المتحدة مع قوة عملتها, من دون هيمنة ثقافية, أو " مركزية ثقافية معينة", حسب غرامشي, وبورديو, وإدوارد سعيد. لكننا نجد في موقع آخر يقر الكاتب بوجود عملية كوننة نمط انتاجي ولكن من دون مركز معين.

من خلال هذا, اخذ د.النجار يتحدث, بتفصيل شيق وعميق, حول دخول الاشكال الاستهلاكية في انظمتنا الخليجية والعربية, فاطلق على ظواهر كثيرة اسماء مناسبة مثل ((حمى شراء العطور والفساتين والاحذية)) او ((حمى اقامة المهرجانات والحفلات الغنائية)).

كل هذه المواضيع المطروحة كانت تمهيداً لطرح موضوع ((العولمة)) والثقافة في الخليج العربي. وكان هذا تمهيداً ممتازاً لطرح موضوع العمالة الأجنبية في الخليج العربي وربطها بموضوع الإستهلاك المتزايد في الخليج. وكل ما يلي حول المرأة والغاء نظام الكفالة كنتاج لعملية العولمة ككل.

يواصل الكاتب في الحديث عن عملية العولمة, ويتوقف عند مسألة لم تطرأ في بالي, على الاقل, وهي مسألة المجمعات التجارية ( أو المولات Malls) وأهميتها الرمزية الثقافية في المجتمع.
يشرح الكاتب كيف ان وجود المولات قد غير من التبضع الخليجي التقليدي, الذي كان ذكورياً بشكل اساسي, والذي كان مقسماً إلى أسواق نسائية وأسواق رجالية, حيث سطوة المولات قد هدمت الاختلاف الجنسي بين الذكر والأنثى, واصبحا يجتمعان في مثل المكان ويتبضعان مثل الاشياء.

لعل ما غفل الكاتب ذكره عندما تحدث عن استهداف المولات للعوائل, هو استهداف المولات لعوائل الطبقة الوسطى, التي لديها وقت فراغ كبير, خصوصاً الشرائح المتوسطة والعليا منها, والتي تود ان تقضيى وقتاً مع العائلة. فللعائلة الطبقة الوسطاوية ميزة وهي الإنفاق المفرط. تجد العائلة نفسها في وسط مكان ضخم, يتضمن فيه وسائل الراحة ( المطاعم, الألعاب الترفيهية, السينما) وكذلك سلع العالم كلها متواجدة في مكان واحد.

وما يجدر الاشارة اليه هو ان كل هذه السلع, التي يعتبرونها عالمية ولها وزنها العالمي, صُنعت في الصين او الدول الاسيوية الاخرى, فشركة مثل أبل (Apple) تتنمي علامتها التجارية إلى الولايات المتحدة بينما تصنع هذه السلعة في الصين. مسألة مكان صناعة السلعة لا تشغل بال المشتري, سواء كان عالماً بصناعتها غير الغربية أو العكس, ما يهمه بشكل أساسي هو الماركة- العلامة التجارية (The Brand) حيث تكتسب صفة رمزية كبيرة في وسط المجتمع. قديماً, كان مكان الصناعة هو الأساس, فمثلاً لتصنيف العود وجودته يتم تصنيفه من حيث مصدره " مثل العود الكمبودي". إلا أن اليوم, بسبب سطوة الاستهلاك, أصبح مكان الانتاج غير مهماً بقدر أهمية الماركة عالمياً.

نجد أن أغلب المنتجات تم صناعتها في الدول الاسيوية, فالأحذية او الملابس التي يتباهى بها الناس بأنها سلعاً إيطالية أو أمريكية, هي ليست سوى سلعاً اسيوياً, صنعتها يد عاملة اسيوية والماركة مملوكة اجنبياً.

العولمة, هي عملية إنتقال الرأسماليين بعد الانهيار النقدي في السبعينات إلى مراكز انتاجية اسيوية التي اسسها الغرب خوفاً من اجتياح المد الشيوعي إليها, خصوصاً بعد سياسات دينغهساو بينغ في الثمانينات التي رحبت بهذا الانتقال تحت مسمى سياسة الباب المفتوح (Open Door Policy ). هذا الانتقال قد جعل من الدول الاسيوية مركزاً انتاجياً رئيسياً ( الإنتاج اليدوي), في المقابل, جعل من الغرب مراكزاً استهلاكية ومرتعاً للإنتاج الفكري وحسب.

في المقابل, اصبح الغرب, بفعل دوره التاريخي, ودوره الاقتصادي الآني في سيادة عملته "الدولار", مركزاً ثقافياً, بالضرورة ينقل ثقافته إلى التخوم. وثقافة الاستهلاك تعزز مفهوم الماركة, أيّ الانتاج الذهني, ولا تعير اهتماماً للانتاج الجسدي الذي يختزن القيمة الحقيقية للسلعة.

فتكوين المولات, تعليلاً على كلام الكاتب, قد عزز أهمية رمزية الماركات, وولد نوع من التباري في اقتنائها, وهذه صفة طبقة وسطاوية بحتة. فهذه الماركات قد اكتسبت قوة رمزية تحدث عنها ماركس في كتابه رأس المال تحت مفهوم (( صنمية السلع)) (Commodity Fetishism) , حيث تكتسب هذه السلع قوة اشبه بخارقة في المجتمع يغطي حقيقة انتاج السلع فيها.

قد علل بورديو هذه المسألة لاحقاً عندما تحدث عن الرأسمال الرمزي (Symbolic Capital) وأهمية الرموز في التكوين الاجتماعي, ويمكننا رؤية قوة الرمزيات في المجمعات التجارية حيث تستقطب عدداً كبيراً من الناس واصبح ارتياد هذه المولات اشبه بعملية بديهية يجب القيام بها.

هذا يبين أن المجتمع, أثناء عمليته الإنتاجية, لا يقوم بإنتاج مادي وحسب, بل يقوم, بموازاة الإنتاج المادي, إنتاج غير مادي, حيث يبرر وجود الظروف المعينة لهذا الانتاج وتشكيلاته الاجتماعية الضرورية له ويعقلنها, ففي مقابل العملية الإنتاجية المادية السلعية, عملية إعادة إنتاج الظروف الانتاجية.

من خلال ذلك, تكتسب الماركات قوة رمزية هائلة في مجتمعات الرفاهية, لأنها تختزن رمزاً في باطنها, ويجب أن تكون هذه السلعة جديرة بإن تكون ماركة معروفة وقوية يريدها الجميع, وليس العكس الطبيعي. هذا ما يعزز النزعة الإستهلاكية, خصوصاً مع توسع الطبقات الاستهلاكية, حيث الماركة تصبح أهم من السلعة, والماركة نفسها هي التي تحدد أهمية السلعة في الاسواق التجارية عامة.

هذه العملية تتمثل بالشكل اللاواعي, حيث المجتمع لا ينتبه إلى ان هذه العملية دخيلة وغير طبيعية, فهو ملتحم وفقاً لهذا الواقع, ولأن الدولة نفسها تستخدم قوتها في عقلنة هذه العملية, ولأن العالم بأسره, وفقاً للتمركز الثقافي للقوى الاستهلاكية, تعقلن وتبرر هذه العملية يوماً بعد يوم, تتضح هذه العملية لدى المجتمع بأنها عملية طبيعية وبديهية.

أهم ما توقفنا عنده في مسألة سلعنة الدين هو حديث الكاتب عنه كما أنه أمراً غريباً, أيّ, كأنه يتسائل لِم تحول الدين إلى اقتصاد وربح وخسارة ؟ فيقول إزاء ذلك : (( لم يعد اداء فريضة الحج مقتصرا على جانبها الشعائري الطقوسي والدعواتي )) بينما فريضة الحج، منذ أيام الجاهلية، كانت عملية تتضمن جوانب اقتصادية اكثر من دينية. والدليل هو حفاظ القوى الاسلامية تاريخياً على سيرورة فريضة الحج، لأنها تشكل قوة اقتصادية أكثر من دينية أو ثقافية.

اداء فريضة الحج كانت دائماً قراراً فردياً, إلا ان اثناء اداء هذه الفريضة, تاريخياً حتى الآن, كانت جميع السلع متوفرة دئماً في هذا اللقاء الحضاري الكبير. وتضخم الامر في وقتنا الحاضر وأصبح أكبر مما عليه, فالخدمات الفندقية والإقامة قد توسعت بازدياد بسبب تضخم عدد المسلمين الذين يقدمون لفريضة الحج, وكذلك المراكز التجارية ( مثل ابن داود) التي تتضمن مختلف السلع في سوبرماركت داخل مجمع تجاري كبير ليس بعيداً عن الفنادق. وفوق ذلك, الاسواق الشعبية التي تعرض سلعا غير موجودة في بعض الدول التي يقدم منها الحجاج. بالرغم ذلك كله, إلا أن عملية سلعنة الدين والشعائر الدينية كان قديماً ومنذ ايام الحكم الاسلامي التوسعي.

في مثل الوقت, أستهجن احتجاج د. كلثم جبر الكواري على هذه النقطة الصحيحة التي قدمها د.النجار حول سلعنة الشعائر الدينية التي لم ترضِ بهذا الموضوع حيث لا يمت صلة بموضوع التنمية الثقافية.

في الحقيقة, هذا الموضوع المطروح من قبل د.النجار هو في صلب موضوع التنمية الثقافية, لأن هو يعلم تماماً أن لا يمكن وجود تنمية ثقافية من دون تنمية انتاجية صناعية, وبذلك, فإن الاعتماد على الدخل من ناحية الشعائر الدينية يزيد من ثقافة الاستهلاك ويحد من ثقافة الانتاج. كيف يمكن لأي ثقافة أن تتأسس بشكل قوي من دون أساس انتاجي قوي ؟!.

سواء كان مصدر الدخل هو الدين, أم السياحة الفندقية, أو حتى الدعارة, فهذا لا يهم في محورها الاجتماعي – الطبقي, حيث كل هذه المداخيل لا تنتمي إلى الأساليب الانتاجية الصناعية التي تجعل من التنمية أمراً واقعياً ؟.

أما في ختام ورقة الكاتب, فلم اجد حلا مناسبا لأزمة الاستهلاك, فبالرغم أن علماء الاجتماع ليس واجبهم دوماً أن يقدموا حلولاً فورية, إلا أن كان الحل يجب أن لا ينحصر في عقلنة مشتريات الناس كما طالب د. النجار, حيث لا يمكن, بأمر سماوي أن يقوم الشعب (بإقتناع كامل) في الحد من استهلاكه.

في أغلب الدول التي أرادت تسريع العملية الانتاجية, مثل الاتحاد السوفيتي أو مصر الناصرية أو الصين الشعبية , جرى فيها تحويلات اجتماعية هائلة تتضمن عملية بروبغاندا عالية عمليات اجبارية للعمل الانتاجي الصناعي لبناء الاشتراكية, فكم من الصينيين او السوفيتيين رفضوا هذه العملية التحويلية الانتاجية بسبب موقعهم الطبقي الذي يرفض بناء الاشتراكية؟. فخطط كتلك كانت تتطلب ادارة فوقية, أيّ, تشريع من فوق الهرم, وليس بالاقناع وحده, والاقناع هنا يأخذ شكل البروبغاندا, فمثلاً في الاتحاد السوفيتي كانت مكينة البروبغاندا على عمل دائم من اجل تعزيز مفهوم الانتاج, وربما تجربة مصر الناصرية جديرة بالحديث عنها, حيث مرت ببروبغاندا خاص وفريد من نوعه خصوصاً مع الأغاني الوطنية والأفلام الوطنية, فالشعب المصري عندما يسمع هذه الكلمات من العندليب لن يرفض له الطلب :

(( للأفراح والرفاهية حنمد طريق عالنيل
اسمه في الاشتراكية التصنيع الثقيل
بس نضاعف انتاجنا أضعاف أضعاف أضعاف
وندبر مهما احتجنا ونحارب الاسراف
وبقرش الادخار نتحدى الاستعمار
ونقيم جدار جبار يحمي حياة العاملين
آدي نقطة بنقطة جميع الخطة .. )) (6)

فعملية الحد من الاستهلاك لا يمكن ان تتم، كما طرح د. النجار بعقلنة المشتريات. هناك مسألة غفل عنها الكاتب، ، وهي قوة عصر الاستهلاك، بمعنى قوة غوايته للناس اقتصادياً، فالطبقة الوسطى المتوسعة تجد ما تريده في السوق، ايّ تجد ما يتفاعل معه سايكولوجيتها، هذه الطبقة تبحث عن تحقيق الذات، والسوق الاستهلاكي يقدم تحقيق الذات من خلال الماركات - التي نقول عنها انها وسيلة لتحقيق تسويق السلعة وليست قيمة السلعة ككل. فالماركة امر غير مادي يعمل في خدمة سلعة مادية. ولكن، في ظل الروح الاستهلاكية، تكتسب الماركات قوة ((تخيلية)) هائلة لدى المشتري. جودة السلعة ومكانها اصبح لا يهم لدى عقل المشتري، بل تهمه الماركة بشكل اساسي، هذا لا ينفي طبعاً ان قيمة السلعة في الحقيقة تقاس من خلال عدد الساعات المبذولة لإنتاجها، إلا أن عقل المشتري لا يعر هذه الحقيقة اي اهمية بل التركيز الاساسي هو تحقيق الذات من خلال هذه الماركات التي يمتكلها الجميع، والتي تعطي (( بشكل متخيل كذلك)) اهمية برستيجية اجتماعياً.

قد يعترض د. النجار على هذا الكلام بحجة ان الجميع اصبح، بفعل التسهيلات، يمتلك هذه السلع التي تمثلها هذه الماركات. بالرغم ان الجميع اصبح بمقدوره ان يمتلك هذه السلع، إلا انهم يأتون من مثل الطبقة، بمختلف شرائحها، لشراء هذه السلع.
وهنا يلعب دور اللاوعي في الاعتقاد البديهي ان من المهم شراء هذه السلعة او الاخرى، فمثلاً الاعتقاد البديهي في المجتمع الخليجي في امتلاك إما ((سامسونج - Samsung)) او (( أبل - Apple )) للهواتف الذكية، إمتلاك ((نوكيا - Nokia)) (على سبيل المثال) يعتبر امرا متخلفاً، بينما هذه الثلاث الشركات تقدم سلعا تقوم بمثل الوظيفة، وهي الاتصال، وكذلك الولوج الى برامج التواصل الاجتماعي، ولكن المجتمع عامة لا يرى في ((نوكيا)) ما يرى في (( أبل )) و((سامسونج)) فهذا الفرد يسير وراء الرغبة غير الواعية في الامتلاك نوع معين من الهواتف الذكية. لا احد مثلاً يضع في الاعتبار مكان الصناعة المادية التي تتيح للسوفتوير ان يكون امرا عملياً، بل يُعتقد في الكثير من الاحايين ان هذه الهواتف مصنوعة في الغرب، بينما في الحقيقية تمت صناعتها في الشرق.

ويمكننا ان نقارب هذه المسألة بمقاربة عولمية، حيث هذا النظام الذي اسس من العالم شقين : الاستهلاكي الغربي والانتاجي الشرقي، او ما بين الانتاج اليدوي الشرقي والانتاج المعرفي الغربي، قد جعل، بفعل المركزية الثقافية الغربية، من ثقافة الاستهلاك ان تتحدد وفقاً لتحقيق الذات من خلال ماركات معينة لها برستيج معين (إجتماعياً)، فهذا المشهور او ذاك يمتلك هذا الهاتف او هذا الحاسوب، فيصبح امتلاك مثل السلعة امراً تعبيرياً ذاتوياً يعود إلى ثقافة الطبقة الوسطى.
هذه العملية الجمعية الاجتماعية التي تجعل من الاستهلاك ثقافة لم يعرها د. النجار اهتماماً واسعاً رغم اهميتها.

فالثقافة الاستهلاكية هي ليست العائق الأول على التنمية، بل الاقتصاد الاستهلاكي ككل هو العائق الأكبر على التنمية في العالم كله، فالعالم محكوم بعلاقة انتاجية كونية شاذة عن الطبيعة، ويستحيل على الدول الصغيرة ان تخرج خارج هذه العلاقة بمشروع تنموي مستقل عن هذا النطاق الكوني، وهذا ينطبق على دول الخليج كذلك.

======================

الهوامش :
(*) د. باقر النجار : كاتب من البحرين, حاصل على شهادة الدكتوراه في علم إجتماع من جامعة درهم في بريطانيا (1983), ويعمل حالياً استاذا لعلم الاجتماع في جامعة البحرين.
(1) ندوة عقدت بدولة الكويت في مايو 2008 تضمنت عدة باحثين في الشؤون الاجتماعية.
(2) د.باقر النجار, الثقافة الإستهلاكية وأثرها على التنمية الثقافية. ونشير ان جميع الاقتباسات الاخرى هي من مثل المصدر.
(3) معاهدة بريتون وودز : معاهدة عقدت بعد الحرب العالمية الثانية أسست نظاما نقديا جديدا قائم على قاعدة الصرف بالدولار الذهبي, مما حول الدولار إلى عملة إحتياط عالمية.
(4) صدمة نيكسون 1971 تسببت بإنهيار بريتون وودز ومؤتمر جمايكا قد أكد على ذلك في 1976.
(5) لمعاينة وجهة نظرنا حول هذه المسألة بشكل أكبر يمكن العودة لمقالتيّ : ((حول الرأسمال المعولم)) و((من الرأسمالية إلى الاستهلاكية)) المنشورة في الحوار المتمدن تحت أسم (عقيل صالح)
(6) من أغنية يا أهلا بالمعارك, غناء : عبدالحليم حافظ, كلمات : صلاح جاهين , ألحان : كمال الطويل