حقوق الإنسان بين هيغل و ماركس(2)


شوكت جميل
2014 / 5 / 25 - 21:30     

إستكمالاً لحديثنا الفائت عن العلاقة التفاعلية بين حقوق الإنسان و مؤسسة الدولة من منظاري المنهج الجدلي لهيغل و المنهج الجدلي لماركس،و نظرة كلٍ منهما إلى مفهوم الدولة،ومن ثم انعكاس هذه النظرة على رؤيتهما و تقييمها لحقوق الإنسان.
أما جدل "هيغل" فيرى أن التاريخ والواقع المادي و الدولة لهي تجليات للوعي و الحقيقة المطلقة،و ليس واقعنا الموضوعي المتغير أكثر من صورة من صور تحقق العقل"أو روح العالم" في سيرورته"ليعي ذاته،أو أن التاريخ الإنساني هو تجلٍ لما يسميه بـ "الفكرة الأزلية"،فيما يقلب جدل ماركس هذا الهرم الهيغلي رأساً على عقب،أو عقباً على رأس،فيجعل (جدلية هيغل ترفع رأسها فتقف على رجليها،بعد أن كانت تقف على رأسها)كما يقول انجلز..أو بعبارة ماركس نفسه:(...إذْ يعتقد هيغل أن حركة الفكر التي يجسده باسم الفكرة هي مبدعة "demiurge"الواقع،الذي ليس سوى الصورة الظاهرية للفكرة.أما أنا فاعتقد،على العكس،أن حركة الفكر ليست سوى انعكاس حركة الواقع،و قد انتقلت إلى ذهن الإنسان)(1)..لذا ترى الماركسية أن الحياة الروحية و الأفكار و المؤسسات ما هي إلا أبنيةً فوقية"Super structure"و انعكاسٍ للواقع المادي و الاجتماعي الذي يلتحم معه الإنسان.

و لمّا كانت "الدولة" من مفردات واقعنا الموضوعي،كان من الطبيعي أن تختلف وجهتا النظر الهيغلية و الماركسية في فهمها،و في فهم حقوق الإنسان المرتبطة بها.فبينما يرأى هيغل"الدولة"تجسيداً للحق المطلق لروح العالم،أو"صورة حقيقة العقل"،يراها ماركس تجسيداً و ثمرةً للمجتمع في مرحلة معينه من النمو،كانعكاسٍ لظروف اجتماعية و اقتصادية مادية،قائمة بالأصل على علاقات الإنتاج،أو منظمة للسيطرة الطبقية_كما قدمنا_و يقول لينين:(الدولة هي ثمرة التعارضات الطبقية المتناحرة و مظهرها)(2)........فماذا عن حقوق الإنسان في الناحيتين؟

أما هيغل وقد اعتبر أن الدولة هي تعبير عن إرادة المطلق ذاته،فقد نظر إلى علاقة الفرد بالدولة في هذا الإطار كعلاقة بين الإنسان و وكيل المطلق_أي الدولة_،إذْ يقول هيغل:(ليس قوام الدولة على وثيقة أو شرط يربط الفرد بالكل،و الكل بالفرد،و لا بصورة تبادلية،يربط الفرد بالحكومة،كما أن الإرادة الكلية ليست إرادة آحاد الناس(أو الفرد)،إنها الإرادة الشاملة بشكل مطلق،و هي التي تفرض نفسها على الأفراد في ذاتها و من أجل ذاتها)....و بطبيعة الحال فإن النظر إلى الدولة كتجسيدٍ للعقل الكلي،أفضى إلى النظر إلى الدولة كوصيةٍ على الأفراد القاصرين إزائها جميعاً،و ينبغي عليهم و الحال كذلك ،أن ينظروا إلى ما يرونه من حرياتٍ لأنفسهم وما يقدرونه من حقوقٍ كضربٍ من النزق و العشوائية،و ليس لهم أن يتمتعوا بأية حقوق غير تلك التي تسمح لهم بها الدولة.و الحق، لا ترى هذه النظرة الهيغلية الإنسان إلا" باعتباره مواطناً في الدولة"(3)،و ليس ثمة قيود أو استحقاقات مفروضة عليها من أي ناحية كانت ،إزاء مواطنيها،و إيجازاً :لا وجود لمفهوم حقوق الإنسان_ قائماً بذاته _في هذه الرؤية،إنما روح العالم المتجلية في الدولة وحدها التي تتمتع بحق لا نهائي:إنها الحق ذاته ،كما يقول هيغل.

و على الرغم من كل ما سبق،لا يحق لنا بأي حالٍ من الأحوال أن نرمي "هيغل"باتخاذه موقفاً سلبياً تجاه حقوق الإنسان أو وضع نفسه موضع العداوة معها؛كل ما في الأمر أنه لا يراها قائمةً بذاتها في المطلق،إنما هي مشدودة بوثاق،لا مهرب منه إلى السيلان أو المسار التاريخي الواقعي الذي يحقق فيه "الحق" ذاته بإرادته،و ليس لإنسانٍ أن يطلب من الحقوق غير ما تسمح به الدولة في تطورها،و قد اهتدي إلى هذه الفكرة بدراسته المارثونية للتاريخ التي عكف عليها ،فكان الحر الوحيد هو الديكتاتور المستبد في النظم الشرقية القديمة_و ربما الحديثة!_ثم شملت الحرية ما كان يطلق عليه"المواطنين"في النظم اليونانية و الرومانية،و لم يكن لقب مواطن آنذاك يطلق سوى على فئة محدودة من الأفراد،و درس "هيغل"ما كان من ثورة الإصلاح الديني،و من بعدها الثورة الفرنسية و التي كان غايتها جعل جميع الأفراد أحراراً متساويين،فخلص أن مسار التاريخ يسير إلى الديمقراطية و الحرية الكاملة،بيد أنه لم يردها إلى أسبابها الموضوعية،و بدا الأمر ليس أكثر من "رغبةٍ"للحق المطلق لروح العالم"في التجلي و وعي ذاته..أو على الأقل هذا ما فهمته،و لأصدقكم القول،لطالما وجدت العسر كل العسر في فهم "هيغل"!

و إن كان لنا أن نقول شيئاً على هذه الرؤية،قلنا أن هذه الرؤية برغم جدليتها الرائعة،و التي أنزلت الميتافيزيقا عن عرشها السامي إلى عملية تاريخية مادية،يتجلي فيها الوعي الكلي باستمرار في التأريخ الإنساني المادي،إلا إنها لم تبرح أن تكون جدليةً روحيةً صرفة،و إن شئت الصدق،فللمعترض على هيغل كل الحق أن يسجل اعتراضه:لست أعلم على وجه الدقة ماذا يقصد بروح العالم!و ماذا يقصد بالفكرة الأزلية!و لماذا تتجلى في الواقع المادي لتعي نفسها؟!..ثم أنه بعد ذلك كله،لا تمدنا بشيء من المعرفة أو القوانين الموضوعية التي تحكم تطور مثل هذه الدولة..فإذا نظرنا للمسألة نظرة العلم،و الذي لا يستجلب فرضيات من خارج واقعه المادي لتفسير أية ظاهرة،أو كما يعرف انجلز النظرة المادية الماركسية:(تعني النظرة المادية للعالم النظرة إلى الطبيعة كما هي،بدون أي إضافة خارجية)،أقول لو نظرنا للمسألة نظرة العلم المادية،لبدت لنا هذه الرؤية الهيغلية رؤية صوفيةً غامضةً كل الغموض،و مجمل القول أن هذه الرؤية لا تعزو الدولةَ و حقوق الإنسان إلى الواقع الموضوعي و تفاعلاته و إنما ترده إلى الغيب.

فإذا رغبنا في إجابة "أكثر علمية "وجدناها في الجدل المادي الماركسي،فالنزعة المادية التاريخية هي الأكثر قدرة على الإجابة على مسألة أصل الدولة و علل ظهورها،و ردها إلى الواقع الموضوعي الذي نعيشه،دونما الحاجة إلى فرضيات خارج عالمنا المادي_كالوعي الكلي أو روح العالم_و هذا هو سبيل وروح العلم....و سنتكلم المرة القادمة عن حقوق الإنسان و الدولة في ضوء الجدل المادي لماركس.
...يتبع
.........................
ا(1)ماركس رأس المال،الكتاب الأول،ج1،ص29.المطبوعات الاجتماعية باريس 1948
(2)لينين:الدولة و الثورة ص12
(3)حقوق الإنسان من سقراط إلى ماركس،ساليفان ماتون،ترجمة/محمد الهلالي