من ماركس إلى قانون فى القيمة


محمد عادل زكى
2014 / 5 / 12 - 11:38     

نقد قانون القيمة
وقانون القيمة هو القانون الذى يحكم الربح كما يحدد الشروط الموضوعية لتجديد الإنتاج الاجتماعى. ولن يكون من الممكن لأى شكل من هذه الأشكال التى يتخذها الرأسمال القيام بمهامه فى الدوران، ومن ثم تجديد الإنتاج السلعى أو الخدمى، إلا ابتداءً من الربح، فهو عصب النشاط الاقتصادى فى النظام الرأسمالى بوجه عام أياً ما كان شكل التنظيم السياسى أو الاجتماعى. كما أن الرأسمالى، بطبيعة تكونه التاريخى، لا يشغله بحال أو بآخر إشباع الحاجات الاجتماعية؛ إنما كل ما يهمه هو الربح، فأياً ما كان شكل الرأسمال الذى يقوم بالدوران فينبغى أن يقترن هذا الدوران بالربح. ولا يمكن تحليل الدورات أو البحث فى جدلية تجديد الإنتاج الاجتماعى إلا ابتداءً من:
- الوعى بالصيغة العامة لحركة النظام الرأسمالى(ن --- و أ + ق ع --- س --- نَ). الصيغة التى تمكنت، عبر التطور التاريخى، من اخضاع جميع أشكال الرأسمال، ومجمل النشاط الاقتصادى فى المجتمع لقانون حركة واحد.
- فهم قانون القيمة، إنما فهماً ناقداً لوثنية الفكر وصنمية الرأى أياً كان مصدرهما.
ولذلك سوف ننشغل فى هذا الفصل بإعادة تحليل الصيغة العامة لحركة النظام الرأسمالى، التى أخضعت لها جميع أشكال الرأسمال(ن --- س --- نَ) و(ن --- ن --- نَ)، ابتداءً من افتراض تمفصلها حول قانون القيمة؛ إنما بوعى بإمكانية ظهور أى شكل من أشكال الرأسمال: التجارى والصناعى والمالى:
- فى أى قطاع من قطاعات الهيكل. إذ يمكننا مثلاً أن نرى فى القطاع الصناعى أو الزراعى أو الخدمى، رأسمالاً صناعياً إلى جواره رأسمالاً تجارياً يتوسط فى تبادل السلع المنتَجة فى هذا القطاع الصناعى، ورأسمالاً مالياً يمول المشروع ويوفر له العملات المحلية أو الأجنبية اللازمة، أو يُضارب على أسهمه المتداولة.
- مصاحباً لشكل أو آخر من أشكال الرأسمال. إذ يمكننا أن نجد الرأسمالى الصناعى يُنتج السلع ويحتكر تسويقها وبيعها من خلال شركات تابعة يتخذ رأسمالها شكل الرأسمال التجارى، ويكون للرأسمال المالى كذلك الدور الحاسم فى التمويل أيضاً أو المضاربة على السندات أو الأسهم المتداولة فى البورصات وأسواق المال على الصعيد المحلى أو العالمى.
يتعين أخيراً:
- الأخذ فى الاعتبار أن الأشكال الثلاثة للرأسمال والتى تحكمها الصيغة (ن --- و أ + ق ع --- س --- نَ) لم تكن لتخضع لهذه الصيغة العام إلا مع التنظيم الاقتصادى الرأسمالى. فقبل الرأسمالية، بعبارة أدق قبل هيمنة قانون حركة الرأسمال المتمثل فى الصيغة العامة (ن --- و أ + ق ع --- س --- نَ) كانت الأشكال الثلاثة موجودة، ولم تزل موجودة، كما سنرى بالتفصيل، ولكنها لم تكن تخضع لقانون حركة واحد؛ فقد كان لكل شكل قانونه الخاص به الذى يحكم حركته على الصعيد الاجتماعى، دون أن يكون ثمة ميل عام لإمكانية خضوع الأشكال المختلفة للرأسمال لقانون حركة واحد يعتمد على تركز الرأسمال والتوسع النسبى فى استخدام قوة العمل.
(2)
فلنفترض الأن أن المجتمع فى لحظة تاريخية معينة، وفى إطار ظروف اجتماعية محددة، يدخل العملية الإنتاجية على صعيد "الكُل" الاقتصادى بــ 30 مليار وحدة من النقد (بالمعنى الواسع للنقود، بوصفها المظهر النقدى للقيمة) موزعة بين القطاعات الإنتاجية الثلاثة التى يتركب منها الهيكل الاقتصادى (الزراعة، والصناعة، والتجارة) بواقـع 10 مليارات وحدة لكل قطاع ويتم توزيع هذه المليارات العشرة على النحو التالى: 3 مليارات وحدة لشراء أدوات العمل، كالماكينات والآلات والمعدات، و3 مليارات وحدة لشراء مواد العمل، مثل المواد الآولية والمواد الخام والمواد المساعدة، و4 مليار وحدة لشراء قوة العمل، وهكذا الأمر فى كُل قطاع من قطاعات الهيكل، فسيكون لدينا الأتى:
القطاع الزراعى: 3 أدوات العمل + 3 مواد العمل + 4 قوة العمل = 10 مليار
القطاع الصناعى: 3 أ ع + 3 م ع + 4 ق ع = 10 مليار
القطاع التجارى: 3 أ ع + 3 م ع + 4 ق ع = 10 مليار
ولكن، لدينا هنا مشكلة. لقد بدأ المجتمع بـ 30 مليار وحدة، وفى نهاية الفترة لم يزل لدينا نفس الـ 30 مليار وحدة! فالمجتمع هنا لم يستفد من العملية الإنتاجية على الإطلاق، فلم يحقق أى قطاع من قطاعات الرأسمال أى ربح، ومن ثم تجديد الإنتاج يعد بلا فائدة، بل وربما خسر المجتمع طاقة إنتاجية وأهدر ثروة اجتماعية وموارد قومية مهمة، واقصى ما أمكن اجتماعياً تحقيقه فى المثل أعلاه هو تداول الـ 30 مليار وحدة بين أعضاء المجتمع منتجين ومستهلكين، بائعين ومشترين!
فمجموع الأجور ومقداره 12 مليار وحدة سوف تذهب إلى القطاعات الثلاثة مرة أخرى فى صورة تدفقات نقدية من قِبل العاملين فى هذه القطاعات نتيجة عمليات الشراء للسلع والخدمات التى تنتجها هذه القطاعات الثلاثة.
كما سيقوم رأسماليو القطاع الصناعى بالشراء من بعضهم البعض للسلع الإنتاجية التى يستخدمونها فى الإنتاج مثل المعدات والآلات، والسلع الوسيطة مثل المواد الأولية والمواد المساعدة، فى مرحلة أولى، ثم يشترون فى مرحلة ثانية السلع الأخرى التى يورّدها لهم رأسماليو القطاع التجارى وتكون لازمة لعملية التصنيع، وفى المرحلة الثالثة نراهم يسددون الفائدة لرأسماليىّ القطاع المالى عن النقود التى اقترضوها منهم.
ولن يخرج رأسماليو القطاع المالى عن الدائرة، إذ سوف يدفعون الأجور، ويعيدون ضخ النقود التى حصلوا عليها من رأسماليىّ القطاع الصناعى، ورأسماليىّ القطاع التجارى، إلى نفس الدائرة مرة أخرى.
الج تمع إذاً لم يستفد أى شىء، كما ذكرنا. بل مثل هذه الطريقة قد تؤدى إلى إفقاره وليس نموه؛ فعدد السكان يتزايد وكمية السلع والخدمات والنقود والرأسمال واحدة! ولا يتم تحقيق أرباح! ومن ثم فلا فائدة ترتجى من وراء تجديد الإنتاج الاجتماعى! وكما افترضنا أن المثل يخص اقتصاد مجتمع ما، فيمكننا أن نفترض أن المثل يصدق على العالم بأسره. فهو يبدأ السنة الإنتاجية بعدد معين من وحدات الرأسمال، وفى نهاية السنة يجد بين يديه نفس العدد من الوحدات! فلا تجديد إنتاج، ولا أرباح، ... إلخ، فكيف يمكن أن يتم حل هذه المشكلة على صعيد المجتمعات المحلية أو على الصعيد العالمى؟
أولاً، وقبل أن نقترح طريقة للإجابة، يتعين أن نتفق على أن الحل الذى يقول: أن المنتجين يبيعون السلعة بأغلى مما كلفهم إنتاجه(2)، يعد حل خرافى وغير علمى على وجه الإطلاق؛ لأن الربح بهذا الشكل، أى بيع المنتَج بأغلى مما تكلف، يعنى، فى نهاية المطاف، أن هؤلاء الذين ربحوا اليوم، سوف يخسرون غداً! إذ سوف يفعل آخرون نفس الأمر، أى البيع بأغلى مما كلفهم الإنتاج، من أجل استرداد ما سلبه منهم الأولون، وهكذا. إذ سوف تظل كمية النقود المتداولة 30 مليار وحدة، وكل طرف من أطراف المجتمع، طبقة. فئة. مؤسسة. هيئة. سوف يكون عليه أن ينتزع ما سبق أن إنتزعه منه أخرون؛ بأن يبيع، سلعته، أو خدمته هو أيضا بأغلى مما كلفه إنتاجه. إذاً ما العمل؟ كيف يُنقذ المجتمع، المحلى أو العالمى، نفسه؟ كيف يزيد السلع؟ ومن ثم: كيف يزيد كمية النقود المتداولة اجتماعياً على أساس إنتاجى حقيقى؟
على ما يبدو أنه يتعين من أجل تقديم طريقة للإجابة أن نعيد صياغة المثل كى يكون على النحو التالى: نفترض أن المجتمع يدخل العملية الإنتاجية بــ 30 مليار وحدة من النقد موزعة بين القطاعات الإنتاجية الثلاثة التى يتركب منها الهيكل الاقتصادى، بواقـع 10 مليارات وحدة لكل قطاع ويتم توزيع هذه المليارات العشرة هكذا: 3 مليارات وحدة لشراء أدوات العمل، و3 مليارات وحدة لشراء مواد العمل، و4 مليار وحدة لشراء قوة العمل، وهكذا الأمر فى كُل قطاع من قطاعات الهيكل. وحينما يفكر الرأسمالى فسيجد أنه لا يستطيع أن يغيّر فى قيمة الألات أو المواد. فهو يشتريها ويدفع بها إلى حقل الإنتاج دون أن تغيّر من قيمتها. إذ ستخرج الألات والمعدات والمواد، محاسبياً، بنفس القيمة التى دخلت بها فى نهاية العملية الإنتاجية دون أن تغيّر قيمتها (رأسمال ذو قيمة ثابتة). فماذا يفعل الرأسمالى؟
الواقع أنه لا يوجد أمام الرأسمالى سوى النظر إلى هذه السلعة التى يبيعها الشغيلة وهى قوة العمل، فهى السلعة الوحيدة القادرة على تغيير قيمتها (رأسمال ذو قيمة متغيرة) فيدفع لها أجراً معيناً ويتلقى منها عملاً يفوق هذا الأجر. أى أن الرأسمالى، فى مثلنا، سوف يدفع لقوة العمل 4 مليار وحدة ويتلقى مقابل هذه الـ 4 مليار وحدة عملاً يساوى 8 مليارات وحدة؛ أى أن الرأسمال يستأثر بـ 4 مليار وحدة قيمة زائدة.
لقد تم حل المشكلة إذاً، وصار بالإمكان تحقيق أرباح. ومن ثم أمكن للمجتمع تجديد إنتاجه من السلع والخدمات، من خلال العمل الإنسانى. إذ لدينا الأن ما يلى:
القطاع الزراعى: 3 أدوات العمل + 3 مواد العمل + 4 قوة العمل + 4 قيمة زائدة = 14 مليار
القطاع الصناعى: 3 أ ع + 3 م ع + 4 ق ع + 4 ق ز = 14 مليار
قطاع الخدمات: 3 أ ع + 3 م ع + 4 ق ع + 4 ق ز = 14 مليار
ووفقاً لمثلنا أعلاه فلقد زادت القيمة اجتماعياً، أى أن المجتمع بدأ بـ 30 مليار وحدة، وفى نهاية الفترة الإنتاجية صار لديه 42 مليار وحدة. أى أن المجتمع حقق 12 مليارات وحدة كفائض، ولقد قرر الاقتصاد السياسى صراحةً وبوضوح أنها نِتاج العمل الإنسانى(3). ولكن الذى يجب أن ننشغل به، نحن أبناء الأجزاء المتخلفة من النظام الرأسمالى العالمى المعاصر، هو ما الإتجاه الذى سوف تسلكه هذه الوحدات التى زادت على الصعيد الاجتماعى. أى: أين ستذهب الـ 12 مليار وحدة الزائدة التى حققها العمل الاجتماعى؟ هل يُعاد ضخها فى مسام نفس المجتمع المنتِج لها؟ أم تتسرب إلى خارج المجتمع من أجل شراء السلع والخدمات التى تُنتج فى الأجزاء المتقدمة من النظام الرأسمالى العالمى، وتتوقف عليها عملية تجديد الإنتاج الاجتماعى فى الأجزاء المتخلفة؟
قبل أن نفترض أن القيمة الزائدة يُعاد ضخها أو أنها تتسرب إلى الخارج، يتعين أن نتعرف أولاً على كيفية توزيع هذه الزيادة بداخل المجتمع المنتِج لها. فبعد أن تُباع السلعة سوف يتم توزيع حصيلة البيع على هيئة دخول للمشاركين فى العملية الإنتاجية، سوف يتم التوزيع إلى ربح (أى ثمن المخاطرة)، وريع (أى ثمن التخلى عن منفعة الأرض)، وفائدة (أى ثمن التخلى عن السيولة النقدية). إذ سوف يحصل الرأسماليون على الربح، والملاك العقاريون على الريع، والرأسماليون الماليون على الفائدة التى أقرضوها للرأسماليين الصناعيين. نحن هنا نفترض أن الأرض مستأجَرة، والرأسمال مقترَض. أما إذ لم تكن الأرض هكذا، أو الرأسمال كذلك، فسوف تذهب القيمة الزائدة بالتمام والكمال إلى الرأسمالى. ولكن، أين الأجر؟ هل نقصد أن منتجى القيمة الزائدة لا يشاركون بسهم فيها حين توزيعها؟ نعم نقصد ذلك تماماً، ولكن ما نقصده على هذا النحو لم يتضح إلا يد ماركس. فقد كان الكلاسيك يرون أن القيمة التى يضيفها العمل إلى الناتج تنحل إلى أجور وقيمة زائدة، ومن ثم يحصل العمال على الأجور والرأسماليون على الربح. بيد أن ماركس أوضح أن القيمة الزائدة لا يُعاد توزيعها على هيئة أجور وربح، إنما تذهب برمتها إلى الرأسمالى، إذ يُنتج العامل معادل قيمة قوة عمله ولا يشارك بحال أو بآخر فى القيمة الزائدة التى يستحوذ عليها الرأسمالى(4). اللهم إلا إذ ما أراد الرأسمالى زيادة عدد الشغيلة لديه واستخدم جزء من القيمة الزائدة المتحققة فى فترة إنتاجية سابقة من أجل إضافة عدد أكثر من العمال. وهذا كما نعرف لا يحدث كل يوم، بل الذى يحدث كل ساعة هو تقليص عدد هؤلاء العمال! ومع ذلك يكون من المتعين الانشغال بتحليل العلاقة الجدلية بين الربح والأجر، فى الحالة التى يحدث فيها تغير فى قيمة قوة العمل أو القيمة الزائدة بفعل التغير فى الإنتاجية أو التغير فى التركيب العضوى للرأسمال.
(3)
حسناً، علمنا إذاً أن القيمة الزائدة المنتَجة اجتماعياً تذهب إلى الرأسمالى. فما هو إتجاهها بعد ذلك؟من أجل تقديم طريقة إجابة، تتضمن إجابة، يتعين أن يكون لدينا الوعى بخمس ملاحظات جوهرية على النحو التالى:
(1) ان نظرية القيمة هى نظرية تنتمى إلى النظريات الكمية فى النقود(5)، والنظرية بشكلها الحالى لا يمكن اعتبارها قادرة على تفسير أى شىء سوى أن الرأسمالى يدفع جنيهاً ويأخذ بدلاً منه عملاً يساوى 2، أو3، ... إلخ. ولا تقول لنا النظرية على هذا النحو غير ذلك! ولذلك كان من اليسير على الكثير، من أرباع المثقفين، نسف نظرية القيمة من أساسها بمجرد إشارتهم إلى مشاركة العمال للرأسمالى فى الأرباح السنوية! كما كان من اليسير عليهم أيضاً إعلان انتصارهم المدوى على هؤلاء الذين يعجزون عن الرد على السؤال الأتى: ولماذا تفترضون أن الرأسمالى يجنى ربحه بالإقتطاع من الأجور والمرتبات، ولا تفترضون، لأن هذا الواقع! أن الرأسمالى يجنى أرباحه ببيع إنتاجه بأغلى مما كلفه إنتاجه؟
(2) إن القيمة التى زادت (ونُشير إليها إختصاراً بالقيمة الزائدة) ليس حقل إنتاجها المصنع فحسب، كما تقول كراسات التعميم والموجزات الأولية، وإنما هى موجودة فى النظام الرأسمالى بأكمله، ليس فى حقل الصناعة فقط، وإنما كذلك فى باقى القطاعات التى يتركب منها الهيكل الاقتصادى، أى فى قطاع الخدمات، وفى الزراعة أيضاً، فلا فارق بين إنتاج القيمة الزائدة فى مصنع لإنتاج الحديد والصلب، وبين إنتاجها فى مكتب للمحاسبة يعمل فيه عشرات المحاسبين بأجر. فالعامل لا يُنتِج فى المصنع فقط قيمة زائدة، وإنما يُنتِج المهنى، كالطبيب، وغيره، أيضاً قيمة زائدة فى المؤسسة التى يعمل فيها بأجر، ويُقدم من خلالها الخدمة، وبالطبع فى قطاع الزراعة أيضاً يُنتِج العامل الزراعى قيمة زائدة مثل العامل فى قطاع الصناعة، وكالمهنى فى قطاع الخدمات. وتلك هى القاعدة العامة فى النظام الرأسمالى.
وعلى الرغم من أن ماركس كان يرى أن إنتاج القيمة الزائدة يتم فى حقل الإنتاج المادى، كما يتم فى حقل "الإنتاج غير المادى"، ويضرب على ذلك مثلاً، فى المجلد الأول من رأس المال:
"... وإذا ذكرنا مثالاً من خارج حقل الإنتاج المادى، لوجدنا أن المُعلم فى المدرسة يُعد عاملاً منتجاً حين ينهك نفسه أثناء العمل، من أجل إثراء مالك المدرسة، بالإضافة إلى تعليم الأولاد. أما كون مالك المدرسة قد استثمر رأسماله فى مدرسة للتعليم أم فى مصنع لإنتاج المقانق، فذلك لا يغير من الأمر شيئاً..."(6)
أى أن ماركس لديه الوعى بأن إنتاج القيمة الزائدة ليس بقاصر على حقل الإنتاج المادى، أى الرأسمال الصناعى. إلا أنه وجد صعوبة، على ما بدا لى، حينما إنتقل، فى المجلد الثالث، إلى مناقشة الربح التجارى. وبصفة خاصة حين تسائل: كيف يُنتج العمال فى قطاع التجارة قيمة زائدة؟:
"ما وضع العمال المأجورين الذين يستخدمهم الرأسمالى التجارى؟"(7)
إذ رأى ماركس أن العمال فى حقل الإنتاج غير المادى ينتجون قيمة زائدة، وإنما "بشكل غير مباشر!". إذ بفضل عملهم، كما يقول، يحصل الرأسمالى التجارى، أى قطاع الخدمات، على القيمة الزائدة المنتجة فى حقل الإنتاج الصناعى، ويقدم لذلك تفسيرين، الأول:
"أن الرأسمال الصناعى ينتج القيمة الزائدة من خلال الاستيلاء مباشرة على عمل الآخرين غير مدفوع الأجر، أما الرأسمال التجارى فانه يستولى على جزء من القيمة الزائدة عن طريق اجبار الرأسمال الصناعى على التنازل عن أحد أجزاء تلك القيمة له"(8).
وهذا التفسير غير صحيح؛ لأن الرأسمال التجارى يدخل فى حساب الرأسمال الاجتماعى الكلى، بعد أن يفقد هويته أثناء الإنتاج، فكتلة الرأسمال التجارى تنصهر فعلاً فى كتلة الرأسمال الكلى، الذى يتم تداوله اجتماعياً فى حقول الإنتاج والتبادل والتوزيع، ولا ينبغى أن يضللنا تفاوت الدورانات واختلافها من نوع إلى آخر من الرساميل. إذ ينحل الرأسمال الكلى إلى رأسمال صناعى ورأسمال تجارى ورأسمال مالى. إنما بعد أن تفقد أنواع الرساميل هذه هويتها وتدخل برمتها فى دورة الرأسمال الكلى. ومن جهة أخرى من غير المفهوم ومن غير المبرر أيضاً لماذا يتنازل الرأسمال الصناعى عن أرباحه؟ وكيف يجبر الرأسمالى التجارى صديقنا الرأسمالى الصناعى على هذا التنازل الدموى عن جزء من أرباحه؟ كان أولى بماركس حينما وجد قيمة زائدة تنتج فى قطاع الخدمات أن يقول ان القيمة الزائدة هنا انتجت طبقاً لنص نفس صيغة القانون (ن --- و أ + ق ع --- س --- نَ)، دون أن يصور لنا معركة زائفة بين الرأسماليين.
التفسير الثانى، الذى يقدمه ماركس:
"أن العامل فى قطاع الخدمات لا يخلق قيمة زائدة مباشرة، بل يساعد فى تقليص تكاليف تحقيق القيمة الزائدة"(9).
وهذا التفسير، ومما يكتنفه من ارتباك، أيضاً غير صحيح؛ فالعامل، فى قطاع الخدمات، لا يقلص ولا يزيد من تكاليف تحقيق القيمة الزائدة، المنتجة فى قطاع الصناعة، وإنما يخلقها فى قطاعه هو، وفقاً لقانون الحركة (ن --- و أ + ق ع --- س --- نَ)، ولا شأن له بقيمة زائدة منتجة فى قطاع آخر؛ إلا بقدر كون ما ينتجه من قيمة زائدة هو أحد الأجزاء المتساوية من القيمة الزائدة الإجمالية على الصعيد الاجتماعى. التى تنتجها الأشكال الثلاثة التى يتخذها الرأسمال.
إننى أرى أن التفسيرين، بمثل هذا التشوش، إنما يرجع إلى الطريقة التى تعامل بها ماركس مع الرأسمال التجارى، ومن ثم الربح التجارى؛ فبعد أن حلل ماركس القوانين الموضوعية التى تحكم عمل النظام الرأسمالى، الصناعى تحديداً أى (ن --- و أ + ق ع --- س --- نَ)، وجد لزاماً عليه أن يحلل رأسمال، رأه هو، أى ماركس، له طبيعة مختلفة، وهذا غير صحيح، وهو الرأسمال التجارى (ن --- س --- نَ)، وبعد أن استبعد قدرة هذا النوع من الرأسمال على خلق القيمة الزائدة، كان عليه أن يدخله، خلسة، بنصيب فى الإنتاج الصناعى؛ ومن ثم تعود إليه قيمة زائدة، تصور ماركس انها أنتجت فى حقل الصناعة. وحتى لو كان ذلك صحيحاً من زاوية ما، وهو فى الواقع غير صحيح، فإنما أنتجت القيمة الزائدة بفعل دخول الرأسمال التجارى بنصيب فى الدورة الرأسمالية الكلية على الصعيد الاجتماعى، من جهة، وبفعل قانون الحركة (ن --- و أ + ق ع --- س --- نَ)، من جهة أخرى. أما وانها، أى القيمة الزائدة، قد خلقت فى المصنع، فهو لا يعنى على الاطلاق أن الرأسمال التجارى لم يسهم فى خلق القيمة الزائدة، بل العكس هو الصحيح. ان الارتباك يزول حين يُعاد النظر إلى الرأسمال التجارى كأحد أجزاء الرأسمال الكلى على الصعيد الاجتماعى، من جهة، وحين ننشغل بحقل الرأسمال التجارى، بوصفه السابق، ونحلل كيف تُنتَج القيمة الزائدة بداخله كحقل مستقل فى نفس الوقت، من جهة أخرى(10).
على كل حال ليس من المناسب هنا إلا أن نذكر أننا نمد، بدون إلتواء، القوانين الموضوعية التى تحكم عمل التنظيم الاقتصادى الرأسمالى الصناعى، على القطاع التجارى. وكما يمكن استخلاص قيمة زائدة من عامل الحديد والصلب، فيمكن، بالمثل ووفقاً لنفس القانون، استخلاص قيمة زائدة من الطبيب الذى يعمل فى أحد المستشفيات طبيباً مأجوراً. طالما كنا بصدد صيغة القانون (ن --- و أ + ق ع --- س --- نَ).
(3) إن إنتاج القيمة الزائدة يجب أن يُنظر إليه نظرة عِلمية، دون نعرات ثورية مغيّبة، فهو ليس رذيلة تماماً، كما يُقال، إن قيل، وإنما النظام الرأسمالى المعاصر، كشكل تاريخى من أشكال التنظيم الاجتماعى والاقتصادى، لا يُمكن أن يعمل بدونه، فهو القانون العام الحاكم لعمل الرأسمال، أياً كان الشكل الذى يتخذه (صناعى، أو تجارى، أو مالى) وأياً ما كان حقل توظيفه (الزراعة، أو الصناعة، أو التجارة).
ومن هنا يجب علينا، إن رغبنا فى مستقبل إنساني، مراجعة الخطاب الأيديولوجى غير العِلمى ضد الرأسمال. لأنه مُشوش ومُعطل، وليس بإمكانه دفع عجلات التاريخ، فأياً ما كانت شرور الرأسمالية، كشكل تاريخى لأحد أنماط الإنتاج، وهى بلا ريب بغيضة، كثيرة ظاهرة، فيجب علينا، إن أردنا الفهم؛ ومن ثم التغيير، أن نُقدّر كل حضارة تقديراً موضوعياً بعيداً عن الأهواء وإدعاء إمتلاك ناصية الحقيقة الاجتماعية، ونبحث فى الوقت ذاته عن القانون الموضوعى الحاكم لعمل النظام ككُل.
والقانون العام الذى أفترض أنه يَحكم عمل النظام الرأسمالى هو قانون القيمة؛ ومن هنا؛ ومن هنا فقط، قد نتمكن من فهم النظام بل والقضاء على شره، ومن ثم رسم المشروع الحضارى لمستقبل آمن لأجيال لم تأتْ بعد ونتحمل أمامها المسئولية التاريخية كاملة.
(4) إن العملية الإنتاجية، بالمعنى العام للإنتاج، تحتاج إلى أشياء أخرى كثيرة مثل: الأرض، والفكرة، والإدارة، والطاقة، والنقل... إلخ؛ بيد أن تلك الأمور إن كانت مهمة من زاوية ما من أجل"تسيير" العملية الإنتاجية، هى، فى نفس الوقت، ثانوية وغير مؤثرة فى عملية زيادة القيمة، إذ لا تزيد القيمة إلا بقدر دخول عنصر العمل الحى أو المختَزن(11) فى العملية الإنتاجية الذى من شأنه أن يُزيد القيمة، ولكنه سوف يزيد قيمة على السلعة الجديدة وليس القديمة، فالنقل مثلاً لا يزيد قيمة السلعة، وإنما يمكن لعملية النقل خلق قيمة فى حقل صناعة النقل نفسه.
(5) القانون الذى يعتنقه ماركس، بعد إعادة صياغته، وهو القانون الذى وضعه ريكاردو، بشأن نظرية فى القيمة التى تزيد أثناء العملية الإنتاجية، نصه كالآتى:
"إن القيمة الزائدة وقيمة قوة العمل تتغيران فى اتجاهين متعاكسين. فتغير قوة العمل المنتجة، أى ارتفاعها أو انخفاضها، يولد تغيراً معاكساً له فى قيمة قوة العمل، وتغيراً طردياً فى القيمة الزائدة. إن القيمة المنتَجة من جديد فى يوم عمل مؤلف من 12 ساعة، هى مقدار ثابت، وليكن 6 جنيهات مثلاً. إن هذا المقدار الثابت يساوى مقدار القيمة الزائدة زائداً قيمة قوة العمل، والقيمة الأخيرة يعوض عنها العامل بما يُعادلها. وبديهى أنه إذا كان هناك مقدار ثابت يتألف من حدين، فلن يزيد أحدهما دون أن ينقص الآخر. إذاً، فقيمة قوة العمل لا يمكن أن ترتفع من 3 جنيهات إلى 4 جنيهات، ما لم تنخفض القيمة الزائدة من 3 جنيهات إلى 4 جنيهات، دون أن تنخفض قيمة قوة العمل من 3 جنيهات إلى جنيهين. وبالتالى ففى ظل هذه الشروط لا يمكن أن يطرأ تبدل متزامن على مقداريهما النسبيين... إن ارتفاع إنتاجية العمل يولد هبوطاً فى قيمة قوة العمل وارتفاعاً فى القيمة الزائدة، فى حين أن انخفاض هذه الإنتاجية يولد، بالعكس، ارتفاعاً فى قيمة قوة العمل، وهبوطاً فى القيمة الزائدة" (12).
وفقاً للنص المذكور، فإن القيمة الزائدة (التى يستأثر بها الرأسمال) تتناقض مع قيمة قوة العمل (وهى القيمة التى يحصل عليها العمل المأجور) فحينما ترتفع قيمة قوة العمل لابد أن يُصاحب ذلك انخفاضاً فى القيمة الزائدة، وبالعكس. ووفقاً للنص كذلك، وفى ظل نفس الظروف، فإن إحلال الآلة من شأنه الارتفاع فى القيمة الزائدة والانخفاض فى قيمة قوة العمل، فإن هذه الإنتاجية لا يمكن زيادتها إلا من خلال فن إنتاجى جديد يُمكّن من إنتاج نفس الكمية من السلع فى عدد ساعات أقل. وحين يحل هذا الفن الإنتاجى الجديد يستصحب معه، فى جميع الأحوال، عدة فرضيات تتناقض فيما بينها على النحو التالى:
(أولاً) ارتفاع إنتاجية العمل _____ انخفاض فى قيمة قوة العمل _____ ارتفاع فى القيمة الزائدة.
(ثانياً) انخفاض إنتاجية العمل _____ ارتفاع فى قيمة قوة العمل _____ انخفاض فى القيمة الزائدة.
أولاً: ارتفاع إنتاجية العمل: والارتفاع هنا نتيجة استخدام فن إنتاجى جديد، بحيث تخرج إلى السوق الكمية المنتَجة ذاتها من السلع فى عدد ساعات أقل، وهو الأمر الذى يؤدى إلى ارتفاع فى القيمة الزائدة (التى يتحصل عليها الرأسمال)؛ إذ تم إنتاج الكمية فى عدد ساعات أقل. ومن الناحية الأخرى، ونتيجة ارتفاع القيمة الزائدة، يؤدى هذا الارتفاع فى إنتاجية العمل إلى تقليص فى قيمة قوة العمل، فلا يتحصل العامل على ما كان يحصل عليه قبل استحداث الفن الإنتاجى الجديد. وإنما أقل من ذلك. فإن افترضنا أن القيمة المنتَجة تساوى 6 جنيهات هى قيمة سلع منتَجة فى يوم عمل مكوَّن من 12 ساعة عمل، فإن الجنيهات تلك هى محل الارتفاع، ومحل الانخفاض كذلك، لأنها تعوض عن القيمة الزائدة وقيمة قوة العمل. أى إن القيمة المنتَجة تساوى "القيمة الزائدة + قيمة قوة العمل". ولأن القيمة المنتَجة ثابتة ومحددة بالجنيهات الستة المذكورة، فحين ترتفع القيمة الزائدة كى تُصبح 4 جنيهات، مثلاً، يتعين، وبصورة مباشرة، تقلص قيمة قوة العمل إلى جنيهين اثنين.
ثانياً: انخفاض إنتاجية العمل: وحينما تنخفض الإنتاجية، يحدث انخفاض مماثل فى القيمة الزائدة، وبالتالى ترتفع معدلات قيمة قوة العمل. فالرأسمال لم يعد يتحصل على ما كان يحصل عليه قبل انخفاض الإنتاجية، وإنما يحصل على دون ذلك؛ فإن افترضنا، طبقاً لنفس المثال أعلاه، ان قيمة قوة العمل قد ارتفعت من 3 جنيهات إلى 4 جنيهات نتيجة انخفاض الإنتاجية، فإن ذلك الارتفاع يستصحب الانخفاض المباشر فى القيمة الزائدة من 3 جنيهات إلى جنيهين اثنين.
هذا هو القانون الذى صاغه ريكاردو، وعدّله ماركس، وهو قانون ينتمى إلى الجدلية بامتياز. بيد أن ثمة ملاحظات بشأنه بعد أن أعاد ماركس صوغه، وتتبدّى فى الآتى:
- وفقاً للقانون، يؤدى الارتفاع فى إنتاجية العمل إلى تغيّر فى أمرين: أولهما قيمة قوة العمل، أى قيمة وسائل المعيشة التى يستهلكها العامل من أجل تجديد إنتاج نفسه. وهى بمثابة حد الكفاف، وثانيهما القيمة الزائدة، أى قوة العمل غير مدفوعة الأجر. ولكن هذا التغير لا يحدث فى إتجاه واحد، إذ حين ترتفع قيمة قوة العمل، تنخفض القيمة الزائدة، والعكس بالعكس؛ فحين تنخفض قيمة قوة العمل، يطرأ على القيمة الزائدة الارتفاع. والمحور فى هذا التغير بالارتفاع وبالانخفاض هو إنتاجية العمل التى تزيد القيمة الزائدة حين ترتفع، وتقلصها حين تنخفض. والقانون من تلك الوجهة لا يعدو أن يكون سوى أحد نماذج التغيّر الممكن حصوله فى النظام الإنتاجى الرأسمالى، من دون أن يصل إلى مرتبة التطوير الجدلى للنظام نفسه.
- ووفقاً للقانون كذلك، لا وجود لأى حديث عن باقى ساعات يوم العمل؛ فكل ما يُفترض هو أن سلعة ما كانت تُنتَج فى عدد معيّن من الساعات، فظهر فن إنتاجى جديد جعلها تُنتَج فى عدد ساعات أقل، ولكن لم نعرف مصير باقى ساعات يوم العمل. فالافتراض هو ما يلى: إن يوم عمل مكوناً من 12ساعة يُنتِج من السلع ما قيمته 6 جنيهات، فلمّا ظهر الفن الإنتاجى الجديد الذى زاد من إنتاجية العمل، جعل الـ 6 جنيهات تلك تُنَتج فى 6 ساعات. فما هو مصير باقى ساعات يوم العمل المؤلَف من 12 ساعة؟ أى ما مصير الـ 6 ساعات المتبقية من اليوم؟
الإجابة عند نمط الإنتاج الرأسمالى، إذ يقول إن الـ 6 ساعات المتبقية هى ساعات عمل غير مدفوعة الأجر، ومن ثم تُضاف إلى جانب القيمة الزائدة، فنكون أمام النسب الآتية:
12 ساعة = 6 جنيهات = 3 قيمة قوة عمل + 3 قيمة زائدة.
6 ساعة = 6 جنيهات = 3 قيمة قوة عمل + 3 قيمة زائدة + 6 قيمة زائدة إضافية نتيجة استخدام الفن الإنتاجى الجديد.
وفى حين أن الإنتاجية تنخفض، أى أن الكمية نفسها من السلع تُنتَج بكمية عمل أكثر، فسنكون أمام النسب التالية:
12 ساعة = 6 جنيهات = 3 قيمة قوة عمل + 3 قيمة زائدة.
12ساعة = 4 جنيهات = 3 قيمة قوة عمل + 1 قيمة زائدة .
وسأفترض، على غير اعتقادى، أن التغيّر النسبى بين قيمة قوة العمل والقيمة الزائدة، المؤسَس على التغيّر النسبى فى قيمة قوة العمل أمام القيمة الزائدة، هو ما يمثل الجدلية التى إنطلق منها ماركس بعد تعديله للقانون الذى وضعه ريكاردو. ولكن ما هو مدى اتساق هذا القانون مع مجمل البناء النظرى لماركس؟ وعلى وجه التحديد ما هو مدى اتساق القانون المذكور مع قانون"ميل معدل الربح إلى الانخفاض" الذى قال به ماركس وصار من ركائز البناء النظرى الماركسى؟ وبالتبع صار من المبادىء الرئيسية فى علم الاقتصاد السياسى، إذ يقف هذا القانون بالذات فى تضاد وتناقض مع القانون الريكاردى المعدّل على يد ماركس، إذ يقول هذا القانون، كما سنرى، أن: معدل الأرباح تميل إلى الانخفاض كلّما تم استحداث الفن الإنتاجى الجديد بإحلال الآلة محل عنصر العمل.
عَلِمنا حتى الأن أن استحداث الفن الإنتاجى الجديد يؤدى إلى ارتفاع فى القيمة الزائدة، فى الوقت الذى تنخفض قيمة قوة العمل. وقد إفترضنا أن هذا الفن الإنتاجى الجديد يتمثل فى إحلال الآلة، الأمر الذى كان من شأنه تسريع وتيرة الإنتاج؛ فتُنتَج نفس الكمية فى عدد ساعات أقل، ويمسى صحيحاً أيضاً القول بإنتاج كمية أكبر فى نفس عدد الساعات السابقة. ولكن ليس هذا كل ما فى الأمر؛ إذ لم يزل أمامنا نصف الطريق، وهو الذى لم يكمله ريكاردو، ومن ثم ماركس؛ فعلى الجانب الآخر، فإنه طبقاً لقانون ميل معدل الربح للانخفاض، فإن إدخال الآلة يؤدى إلى انخفاض معدل الربح (أى النسبة بين القيمة الزائدة والرأسمال الكلّى) إذ يعنى دخول الآلة تحويل المزيد من المواد الأولية والمواد المساعدة إلى منتجات، وذلك بالعدد نفسه من العمال خلال المدة الزمنية نفسها، أى ببذل عمل أقل.
ولأن الرأسمال ينقسم عند ماركس، كما بينا فى الفصل الثانى، إلى نوعين، أولهما: الرأسمال الثابت: وهو ذلك الجزء مِن وسائل الإنتاج (تحديداً وسائل العمل، والمواد الخام، والمواد المساعدة) الذى ينقل جزءً من قيمته(التبادلية) إلى الناتج، دون استهلاكه كلياً فى"عملية إنتاجية واحدةً". وثانيهما: هو الرأسمال المتغير: وهو لا ينقل فقط قيمته إلى الناتج، وإنما يَنقل إليه كذلك قيمة زائدة. وهو ما يتمثل فى قوة العمل. فالرأسمال من تلك الوجهة لا يمكنه استخلاص قيمة زائدة من الرأسمال الثابت، على حين يمكنه ذلك من الرأسمال المتغير، ومعنى دخول الآلة حدوث انخفاض فى مصدر القيمة الزائدة، الأمر الذى يستتبع انخفاض فى معدل الربح الذى هو حاصل النسبة ما بين القيمة الزائدة وبين الرأسمال الكلى.
وعلى ذلك نكون أمام قانونين متناقضين، يقول الأول بأن الآلة تزيد من القيمة الزائدة بالنسبة لقيمة قوة العمل، ويقول الثانى أن الآلة تُخفض من القيمة الزائدة لتخفيضها الرأسمال المتغير بالنسبة للرأسمال الثابت! فماذا يعنى ذلك؟
يعنى، فى تصورى، الديالكتيك. يعنى التناقض الحقيقى. المستتر؛ يعنى الجدلية فى أوضح صورها، وهو المعنى الذى لم يحققه ريكاردو، وماركس بالتبعية؛ فحين تم استحداث الفن الإنتاجى تصور ريكاردو، وماركس من بعده أن التناقض يقع بين القيمة الزائدة وبين قيمة قوة العمل، وفى الحقيقة يمكن تسمية ذلك تناقضاً، ولكنه تناقض أولى.
فحين دخل الفن الإنتاجى الجديد، حدث تغيّر فى القيمة الزائدة بالنسبة لتغير مماثل فى قيمة قوة العمل. بيد أن ذلك ليس نهاية الطريق، وإنما نصفه فقط، إذ إن الفن الإنتاجى الجديد لا يؤدى فقط إلى ارتفاع فى القيمة الزائدة بالنسبة لقيمة قوة العمل، وإنما يؤدى، وفى اللحظة نفسها، إلى انخفاض فى القيمة الزائدة بالنسبة للرأسمال الكلى. فتتحدد القيمة الزائدة (الكلية) على هذا الأساس بالتناقض بين التغير فى القيمة الزائدة (ق ز) بالنسبة لقيمة قوة العمل (ق ع) والتغير فى القيمة الزائدة بالنسبة للرأسمال الكلى (ر).
القيمة الزائدة الكلية(13) إذاً هى:"حاصل التناقض بين: الارتفاع فى القيمة الزائدة الأولية بالنسبة لقيمة قوة العمل، وبين: الانخفاض فى القيمة الزائدة الأولية بالنسبة للرأسمال الكلى".
وتلك هى "القيمة الزائدة". التى لم يصل إليها ماركس. إذ توقف عند حدود افتراض أن القيمة الزائدة دائماً تساوى100%، مكتفياً بتحديد معدل القيمة الزائدة، باعتبار هذا المعدل هو النسبة بين القيمة الزائدة إلى الرأسمال المتغير، دون أن يصل إلى القانون الذى يحدد القيمة الزائدة نفسها، والمفترض أننا نعرف معدل القيمة الزائدة من حساب القيمة الزائدة أولاً، إذ أن القيمة الزائدة هى التى تحدد المعدل، ولا يحدد المعدل القيمة الزائدة. والقانون الذى أفترضه هو ما اسميه قانون"القيمة الزائدة الكلية". أى أن القيمة الزائدة، التى أقصدها، وهى القيمة الزائدة الكلية، هى نتاج تناسب بين كتلتين:
الكتلة I: وتحتوى على التناقض ما بين القيمة الزائدة الأولية (ق ز1) وقيمة قوة العمل (ق ق ع).
الكتلة II: وتحتوى على التناقض ما بين القيمة الزائدة الأولية (ق ز1) والرأسمال الكلى (ر).
فإذ إفترضنا أن الكتلة I = (1:2)
وإفترضنا أن الكتلة II= (4:1)
فإن القيمة الزائدة الكلية (ق ز ك) = (1:2) : (4:1) = 1: 0.25 = 0.75 وحدة.
ومن ثم يكون معدل القيمة الزائدة = (ق ز1 : ق ق ع) : (ق ز1 : ر) ÷ الرأسمال المتغير(م).
ويكون معدل الربح الوسطى (حَ) = (ق ز ك) ÷ (ر).
كما يكون ثمن الإنتاج = ثمن التكلفة (ك) + (حَ).
أما قيمة السلعة فتساوى (ك) + (ق ز ك).
أى أن قانون القيمة ليس اعتباطياً، ولا يعمل فى الفراغ التخيلى، وليس فى مقدور الرأسمال، حتى فى ظل الأسواق الاحتكارية، أن يتحكم فيه كلية، وإنما هو قانون موضوعى يحكم هو حركة الرأسمال، ولا يمكن فهم هذا القانون إلا من خلال ذهنية جدلية متجاوزة للرؤى الخطية والتصورات الميكانيكية التى تتشرب بها كراسات التعميم، وموجزات التيارات المهيمنة فى حقل اليسار على وجه التحديد.
وبتلك الكيفية يكون تاجر الفاكهة (الرأسمال التجارى)، أو صانع المربى (الرأسمال الصناعى)، أو مقرض النقود (الرأسمال المالى)، قد عرفوا على أى أساس تتحدد أرباحهم.
فالرأسمالى المتاجر، وليكن ناقل البضائع مثلاً، الذى يستخدم عمال وموظفين، وسيارات، ومنشأت، ومعدات وألات، ومستندات وأوراق وأقلام وحواسب آلية ومكاتب، إنما ينتج خدمة، ومن ثم ينتج قيمة، هذه القيمة تزيد من قيمة السلعة، والعمال بالضرورة طالما أنتجوا قيمة، فهم ينتجون قيم زائدة، ومن مجموع هذه القيم الزائدة فى قطاع النقل تتحدد كتلة القيمة الزائدة، هذه القيمة حينما يتم قسمتها على مجموع الرساميل فى قطاع النقل نتحصل على الربح الوسطى. هذا الربح الوسطى يضيفه، بوعى أو بغير وعى، الرأسمالى على تكاليف الإنتاج. وهكذا الأمر بشأن الرأسمالى المالى، ومن باب أولى بشأن الرأسمالى الصناعى.
إن تحديد معدل الربح الوسطى ليس مسألة مزاجية، تخضع للقرارت الشخصية للرأسماليين، إذ أن الربح لا يتكون فى السوق، إنما يتكون فى حقل الإنتاج. وبيع السلعة أو الخدمة فى حقل التداول، أى السوق، لا ينشىء الربح، إنما فقط يكشف عنه.
يكون من المتعين علينا الأن أن نعيد معالجة ما إنتهى إليه ماركس بشأن القيمة، والقيمة الزائدة، ومعدل الربح الوسطى فى ضوء ما توصلنا إليه بشأن "القيمة الزائدة الكلية" على أساس من كونها، كما ذكرنا،"الارتفاع فى القيمة الزائدة الأولية بالنسبة لقيمة قوة العمل، وبين: الانخفاض فى القيمة الزائدة الأولية بالنسبة للرأسمال الكلى". وسوف نعتمد التقريب بالنسبة للأرقام العشرية، فنقرب 0.7 إلى 1، و10.2 إلى 10، وهكذا. وذلك لاعتبارات التبسيط. كما سنتخذ من نفس الأرقام التى اعتد بها ماركس فى نموذجه، أساساً لعرض نموذجنا وسوف يتضح مقدار الاختلاف فى النتائج وبصفة خاصة بالنسبة لمعدل الربح الوسطى.
نموذج ماركس على أساس القيمة الزائدة الأولية.

الرأسمال الثابت

الجزء المستهلك من الرأسمال الثابت
الرأسمال المتغير

القيمة الزائدة
قيمة السلعة

ثمن التكلفة

معدل الربح الوسطى

ثمن الإنتاج

إنحراف
الثمن/القيمة
80 50 20 20 90 70 22 92 + 2
70 51 30 30 111 81 22 103 - 8
60 51 40 40 131 91 22 113 - 18
85 40 15 15 70 55 22 77 + 7
95 10 5 5 20 15 22 37 + 17

النموذج المعدل على أساس "القيمة الزائدة الكلية"، كنسبة بين: "الارتفاع فى القيمة الزائدة الأولية بالنسبة لقيمة قوة العمل، والانخفاض فى القيمة الزائدة الأولية بالنسبة للرأسمال الكلى".

الرأسمال الثابت الجزء المستهلك من الرأسمال الثابت
الرأسمال المتغير
القيمة الزائدة الأولية
القيمة الزائدة الكلية
قيمة السلعة
معدل الربح الوسطى
ثمن التكلفة
ثمن الإنتاج
انحراف الثمن/ القيمة
80 50 20 20 1 71 7 70 77 +6
70 51 30 30 3 84 7 81 88 +4
60 51 40 40 2 93 7 91 98 +5
85 40 15 15 7 52 7 55 62 +10
95 10 5 5 20 35 7 15 22 -13
وأهم ما يمكن أن نؤكد عليه أن نموذجنا الذى نعتبره اعادة نظر فى نموذج ماركس، المبنى على تصورات الكلاسيك، إنما يتجاوز سوق المنافسة الكاملة إلى شرحه لكيفية تكون الأرباح ومعدلاته الوسطية فى ظل الاقتصادات الاحتكارية. فلم يعد الأمر متوقفاً على منافسة بين مشروعات متجانسة، تعتمد على حرية الدخول إلى الأسواق والخروج منها، كما لم يعد متوقفاً على مزاجية الرأسمالى فى اعتصار كمية معينة من القيمة الزائدة. إنما صار الأمر متوقفاً، فى ضوء "القيمة الزائدة الكلية" على أمرين: الأول: تحديد لكمية القيمة الزائدة، وليس معدلها فحسب كما انتهى ماركس، الثانى: الصراع الجدلى الدائم بين القيمة الزائدة الأولية بالنسبة لقيمة قوة العمل، والقيمة الزائدة الأولية بالنسبة للرأسمال الكلى.
(4)
دعونا الآن، فى ضوء ملاحظاتنا الخمس، نذهب كى نُحلل عملية تسرب القيمة؛ وإنما ابتداءً من الوعى بأن إطارنا النظرى هنا يتحدد بخطين فكريين:
- الخط الفكرى الأول: وهو الذى ينشغل باستخدام الأدوات الفكرية التى يمدنا بها الاقتصاد السياسى، على نحو ما عالجنا أعلاه، فى سبيل افتراض نظرية عامة فى ظاهرة تجديد إنتاج التخلف، والإنطلاق منها فى سبيل الفهم الناقد للصراع الاجتماعى والسياسى فى الأجزاء المتخلفة من النظام الاقتصادى الرأسمالى العالمى المعاصر. وعالمنا العربى أحد تلك الأجزاء، بتفوق! والذى أفترضه، بشأن هذه النظرية العامة، هو أن القيمة الزائدة، بمفهومها السابق تحديده، التى يُنتجها المجتمع، بفضل العمل الإنسانى، إنما تتوزع على الطبقات الاجتماعية المختلفة، وليس بالضرورة أن يتم هذا التوزيع على قدر مساهمة كل طبقة فى العملية الإنتاجية، وإنما بالضرورة وفقاً للشروط الموضوعيـة المحدِّدة لهيمنة طبقة أو طبقات معينة على طبقة أخرى أو على باقى طبقات المجتمع.
ولقد كان بالفعل صائباً الاقتصاد السياسى(14) حينما رأى هذا التوزيع بوضوح؛ وحدد أن الربح والريع والأجر، كدخول للطبقات المختلفة فى المجتمع، إنما تكون بفضل قيام قوة العمل بالإنتاج، ولكى يكشف التداول، فى مرحلة تالية، عن الدخول التى تُوزَع بين الطبقات المختلفة. فالرأسمال إنما يشترى (ق ع) قوة العمل من سوق العمل، وفى الواقع انه يشترى العامل نفسه، كما سنرى لاحقاً، ولنفترض أنه اشتراها، أى قوة العمل بـ 4 وحدات، ويشترى (م ع) مواد العمل (القطن مثلاً) بـ 3 وحدات، ويشترى (أ ع) أدوات العمل (آلة الغزل مثلاً) ولنفترض أنه إشتراها بـ 3 وحدات، ثم يترك قوة العمل(ق ع) كى تتفاعل مع مواد العمل(م ع) باستخدام أدوات العمل(أ ع) وحينما يخرج الناتج (معطف مثلاً) يكون لدى الرأسمال، قبل البيع أى قبل النزول تارة أخرى إلى السوق من أجل بيع المنتَج، ليس 10 وحدات، وإنما (حتماً) أكبر منها، يُحدد على أساس قانون القيمة الزائدة "الكلية" على نحو ما شرحنا سلفاً. فلا يمكن للرأسمال أن يُقدم على إتخاذ قرار الإنتاج إذ ما كانت المحصلة النهائية للعملية الإنتاجية مساوية للصفر؛ فهو يبدأ بـ 10 وحدات وينتهى بـ 10 وحدات؛ وهذه النهاية لا ترضى الرأسمال على الإطلاق، والرأسمال، كما ذكرنا أعلاه، لا يستطيع أن يتفاوض مع المواد، ولا مع الآلات، على مستوى الأثمان على الأقل، ولا يستطيع أن يحصل منهم على أكثر من القيمة المحددة لهم، فهو حينما اشترى مواد العمل (القطن فى مثلنا) بـ 3 وحدات يَعلم أن القطن سوف يدخل العملية الإنتاجية ويخرج منها دون أن يغيّر من قيمته (رأسمال ذو قيمة ثابتة)، وكذلك الأمر بشأن الأدوات والآلات، فهى تُستخدم فى العملية الإنتاجية بقيمتها ويُحسب معدل استهلاكها وفقاً للفنون المحاسبية المعروفة (الأمريكية فى الغالب)، أى أنها تدخل العملية الإنتاجية بقيمتها وتخرج بقيمتها (رأسمال ذو قيمة ثابتة أيضاً) ولذلك فلا مناص من أن يتفاوض مع رأسمال يُغيّر من القيمة بالزيادة أثناء العملية الإنتاجية، أى يتفاوض مع (رأسمال ذى قيمة متغيّرة) أى مع هذه السلعة العجيبة التى تطرح نفسها فى السوق، وهى قوة العمل فيعطيها ثمن استعمالها، 4 وحدات فى مثلنا، ويأخذ منها ما يساوى 8 وحدات مثلاً، لِمَ؟ كى يتمكن من دفع الريع لصاحب الأرض، ويتحصل هو نفسه على ربح للرأسمال الموظَف فى العملية الإنتاجية. وذلك بالطبع بعد أن تكون قوة العمل قد عوضت الرأسمالى عن الأجرة(15) هنا يتوقف الاقتصاد السياسى. إذ لم يُثرْ إشكالية لا تقل أهمية فى حقل التوزيع؛ وهى أين تذهب، بعد ذلك، تلك القيمة الزائدة التى تَتخذ من الربح والريع، وربما الفائدة، صوراً لها، تعكس وجودها كدخول للطبقات الاجتماعية المختلفة؟ أى أين تذهب تلك الصور التى تتخذها القيمة التى زادت بفعل الإنتاج فى الاقتصاد القومى خلال فترة زمنية معينة؟
فما هو إتجاه الريع الذى تحصل عليه مالك الأرض؟ وما هو إتجاه ربح الرأسمالى؟ أين تذهب تلك الوحدات التى هى بمثابة الزيادة التى حققها المجتمع، فى الأجزاء المتخلفة، على صعيد القيمة؟ ونحن هنا، طبعاً، نتسآل أين ذهبت تلك القيمة التى أنتجتها السواعد العربية فى وطننا العربى؟
وإن سؤالنا عن إتجاه القيمة الزائدة نظن أن له وجاهته، ليس فحسب على صعيد تعقب القيمة، وإنما أيضاً على صعيد مهم آخر وهو الذى ينشغل بشرح (مَا الذى أتى بالقيمة الزائدة التى أنتجتها سواعد الشغيلة فى الأجزاء المتخلفة، إلى خزائن رجال المال فى الأجزاء المتقدمة؟) لأن الإجابة على هذا السؤال هى التى أدت إلى "إختراع" التبادل غير المتكافىء؛ كنظرية تحاول أن تشرح (بمزيد من اللف والدوران حول نصوص ماركس ولينين) كيف أتت القيمة الزائدة التى أنتجتها سواعد الشغيلة فى كمبالا إلى الرأسماليين فى لندن؟
فى الواقع، الاقتصاد السياسى لم ينشغل بهذه الإشكالية، وهو ما سوف ننشغل نحن به، ودون لف أو دوران لا حول نصوص ماركس ولا غيره.
فى البداية نحن نحدد التخلف، بعبارة أدق تجديد إنتاج التخلف، على أساس من كونه:"عملية اجتماعية من ارتفاع معدل إنتاج القيمة الزائدة، المتناقض مع ضعف آليات إنتاجها، ومن خلال هذا التناقض ما بين الارتفاع فى معدل إنتاج القيمة الزائدة وبين ضعف آلية إنتاجها، تتبلور ظاهرة تسرب القيمة الزائدة المنتَجة داخلياً فى الأجزاء المتخلفة من الاقتصاد الرأسمالى العالمى المعاصر إلى الأجزاء المتقدمة".
وهذا التحديد لظاهرة تجديد إنتاج التخلف الاقتصادى، إنما، ووفقاً للديالكتيك، أو قانون التناقض، يُشير إلى أن الرأسمالية فى الأجزاء المتخلفة، ومنها عالمنا العربى، وعلى حين يهمها الإبقاء على معدلات إنتاج القيمة الزائدة المرتفعة، بل ورفع تلك المعدلات(لأنها سر حياتها) فهى كذلك تقع فى التناقض حين تسعى، وفى نفس الوقت، إلى تطوير قوى الإنتاج، المتخلفة بالأساس، فى تلك الأجزاء، والتى تتلقى الفنون الإنتاجية من الأجزاء المتقدمة بعد استهلاكها، ومعنى تطوير قوى الإنتاج هو إحلال الآلة؛ ويعنى إحلال الآلة (من أجل الحصول على أكبر قدر من السلع فى أقل وقت عمل، مع دفع أقل أجر) التقليص من معدلات إنتاج القيمة الزائدة. هنا يقع التناقض ما بين ارتفاع معدلات إنتاج القيمة الزائدة وضعف آليات إنتاجها. وإلى حين حل هذا التناقض تأخذ القيمة الزائدة المنتَجة داخلياً بفضل سواعد الشغيلة فى التسرب إلى خارج مسام الاقتصاد القومى كى تُغذى ليس فحسب صناعات المواد الغذائية والاستهلاكية فى الأجزاء المتقدمة، وإنما كى تغذى كذلك صناعات معقدة ومتطورة فى هذه الأجزاء المتقدمة (ولا نغفل الأجزاء التى إتخذت منها الأجزاء المتقدمة مصدراً للعمالة الرخيصة فنقلت مصانعها إليها) والتى تمد الأجزاء المتخلفة بالسلع كثيفة التكنولوجيا والرأسمال، وهى السلع التى تتوقف عليها شروط عملية تجديد الإنتاج الاجتماعى فى الأجزاء المتخلفة، وعالمنا العربى أحد هذه الأجزاء. بامتياز!
- الخط الفكرى الثانى: ويكون انشغاله بتوجيه النظر ناحية جهة أخرى بشأن القيمة لا تُرى غالباً، فلقد نظر الاقتصاد السياسى الكلاسيكى، عبر تطوره التاريخى، إلى القيمة، على أساس أن مصدرها ومقياسها ومنظمها هى أمور تتعلق بالعمل الإنسانى الحى والمختَزن/المكدس وكميته النسبية الضرورية المنفَقة فى سبيل إنتاج السلعة، وان العمل الإنسانى هو مصدر جميع أنواع الدخول الخاصة بكل طبقة من طبقات المجتمع، فبفضله يتحصل مُلاك الأراضى على الريع، والرأسمال على الربح، والعُمال على الأجر. بيد أن الاقتصاد السياسى، كما ذكرنا أعلاه، يتوقف عند هذا الحد؛ بل حينما ينشغل بتجدد الإنتاج الاجتماعى على نطاق متسع، عندما يَصل إلى قمة نُضجهِ على يد ماركس، فهو لا يَبحث تسرب القيمة الزائدة المنتَجة بداخل الاقتصاد القومى إلى خارجه، وهو ما سنفعله، وإنما يكتفى بتحليل عملية خَلق القيمة الزائدة وتداولها بين الطبقات فى المجتمع والشروط الموضوعية لسيطرة طبقة أو طبقات معينة على هذه القيمة، وأفضل ما تحقق فى تحليل تبادل أو/و تداول القيمة على الصعيد العالمى هو مساهمة ريكاردو بنظريته فى النفقات النسبية(16)، ابتداءً مـن افتراضه سهولة تحرك كل من اليد العاملة (مساواة الأجر بين فرع وآخر من فروع الاقتصاد الرأسمالى، وكذلك من بلد إلى آخر) وكذلك سهولة تحرك الرأسمال (توزيع متساو لمعدل الربح) بيد أن ما تحقق على يد ريكاردو، وما لحق نظريته من تطوير على يد ايمانويل وبتلهايم وأمين وسنتش؛ لم يتعدْ حـدود افتراض أن التبادل غير متكافىء؛ إلى ما هو أبعد وأهم وهو (تسرب) القيمة الزائدة المنتَجة فى الأجزاء المتخلفة إلى خارجها لتغذية الصناعات المختلفة فى الأجزاء المتقدمة، فالفرضية التى يقوم عليها التبادل غير المتكافىء تعتمد على فهـم التبادل على الصعيد العالمى ابتداءً من تفوق العامل فى الأجزاء المتقدمة على العامل فى الأجزاء المتخلفة؛ فما يُنتجه العامل الأوروبى فى ساعة عمل واحدة يُنتجه العامل الأفريقى فى 12 ساعة عمل، ويتعلق الأمر هنا، وفقاً للتبادل غير المتكافىء بإنتاجية العمل؛ فالفلاح الأفريقى مثلاً، طبقاً لمثال د.سمير أمين، يحصل لقاء مئة يوم عمل شاق جداً، فى السنة، على منتجات مستوردة لا تكاد تعادل قيمتها قيمة عشرين يوماً من العمل العادى يقوم به عامل أوروبى ماهر(17). ونظرية التبادل غير المتكافىء لا تقول أكثر من ذلك، ولا يمكنها أن تقول أكثر من ذلك، والأخطر أنها لا تملك أن تقول، صواباً، لماذا ذلك! أى لماذا يحصل الفلاح الأفريقى لقاء مئة يوم عمل شاق جداً، فى السنة، على منتجات مستوردة لا تكاد تعادل قيمتها قيمة عشرين يوماً من العمل العادى يقوم به عامل أوروبى ماهر؟
نحن نذهب خطوة أبعد برؤية الجانب الآخر، الأهم، من عملية التبادل على الصعيد العالمى، فما ننشغل به ليس التبادل غير المتكافىء؛ لأننا نرى أن التبادل دائماً متكافىء؛ وإنما ننشغل بظاهرة التسرب فى القيمة الزائدة؛ أى ننشغل بمحاولة تحليل جدلية تسرب القيمة الزائدة المنتَجة فى داخل الأجزاء المتخلفة إلى الأجزاء المتقدمة كى تنمى صناعاتها المتطورة والمعقدة.
فالذى يهمنا هو الذهاب أبعد من تصور التبادل على الصعيد العالمى كمجرد تبادل غير متكافىء للقيم بين أجزاء متخلفة وأجزاء متقدمة؛ إلى حيث تركيز الضوء المباشر والساطع على عملية "تسبق" هذا التبادل غير المتكافىء وهى عملية التسرب فى القيمة الزائدة.
فطبقاً لمثلنا التقليدى أنتجَ الاقتصاد القومى فى الجزء المتخلف ما مقداره 12 مليارات وحدة زائدة، وفى مرحلة أولى، من التوزيع، سوف تختص كل طبقة بنصيبها، فالعمل سيحصل على الأجر (ولكن ليس من القيمة الزائدة وإنما من قوة عمله شخصياً) والرأسمال سيحصل على الربح، وملاك الأراضى سيحصلون على الريع. والمصارف أيضاً، وربما المرابى، سوف تحصل على الفوائد. وفى مرحلة ثانية تبدأ كل طبقة فى إنفاق الوحدات الباقية بعد خصم الإدخار، فما هو الطريق الذى سوف تسلكه تلك الوحدات؟ انها سوف تتجه نحو الخارج. نحو الأجزاء المتقدمة. من أجل الحصول على منتجات استهلاكية (للطبقة العاملة، والطبقة الرأسمالية، والطبقة الريعية)، ومنتجات صناعية (للرأسمال، لتجديد الإنتاج: آلات، معدات، مواد،...) غالباً ما تتوقف عليها شروط تجديد هذا الإنتاج فى الأجزاء المتخلفة، وسوف نبرهن لاحقاً على فرضيتنا، أى التسرب فى القيمة الزائدة، حينما ننتقل إلى اختبار مجمل فرضيتنا على أرض الواقع متخذين من الاقتصاد المصرى نموذجاً لهذا الاختبار.
وقبل أن تتم، أو لا تتم، عملية التبادل تتم عملية أهم وأخطر، فى الغالب لا يتم الإهتمام بها، وهى عملية خروج/تسرب القيمة التى زادت بداخل الاقتصاد المتخلف خلال السنة إلى خارجه، وبدلاً من أن يُعاد ضخ تلك القيمة بداخل مسام الاقتصاد المتخلف الذى أنتَجها من أجل مشروعات تنموية وإنتاجية وطنية، فإنها (تخرج/تتسرب) من أجل تدعيم الصناعات المختلفة فى الاقتصاد المتقدم، فهم التسرب هنا إذاً يسبق مناقشة التبادل، بل أن المسألة برمتها (تسرب) وليس(تبادل) ولكن الوضوح فى بعض الأحيان قد يكون أكثر الأشياء خداعاً. إن المهم هو التحكم فى هذا التسرب؛ وعياً بوجوده وخطورته، ومن ثم منعه، دون اللف والدوران حول نظرية، مضلَلَة، ومن ثم مضلِلة، بسبب عدم التكافؤ فى الأجور، فعدم التكافؤ فى الأجورعلى الصعيد العالمى(18) هو الذى ضللَ، ومن ثم قاد أصحاب"التبادل غير المتكافىء" إلى إختراع هذه النظرية، لأنهم لم يستطيعوا، ربما بدوافع إنسانية، أن يُعلنوا بوضوح أن العامل هو آلة مرتدية "أفاروول". ويستغربون كيف أن حلاق فى باريس يتلقى أجراً أعلى من حلاق فى دكار. ثم يزيلون دهشتهم، بافتراض (دون تعليل دائماً) أن الأجر فى باريس أعلى، وأن القيمة تنتقل من حلاق دكار إلى حلاق باريس من خلال (تبادل غير متكافىء!) الدهشة الحقيقية تتملكنا نحن؛ حينما نرى هذا التحايل التجريبى الفج، وتزداد دهشتنا حينما نرى كيف، إلى مثل هذا الحد، أن نفقة إنتاج حلاق دكار ملتبسة بنفقة إنتاج حلاق باريس!
نحن نعتقد، على الأقل فى عصرنا الراهن، أن آلة باريس دائماً أفضل من آلة دكار، وبعبارة بسيطة نحن نعتقد أن آلة باريس (العامل الفرنسى) أغلى من آلة دكار (العامل السنغالى) ومن ثم يتعين أن لا تكون قيمتها فقط فى السوق مختلفة، وإنما أيضاً ثمنها. ولكن لمَ آلة باريس(العامل الفرنسى) أغلى من آلة دكار(العامل السنغالى)؟
لعل صحة الإجابة على هذا السؤال تتعلق بمدى صواب الوعى بطبيعة العلاقة الحقوقية (فى إطار التنظيم الرأسمالى) بين العامل والرأسمال. تلك العلاقة التى تتغلف بعلاقة حقوقية زائفة قوامها أسطورة "العقد شريعة المتعاقدين"، انها الأسطورة التى تفرض هيمنة الأقوى الذى يمتلك القدرة على إملاء شروطه على الطرف الأضعف فى العلاقة الحقوقية البورجوازية، التى تَفترض تكافؤ الإرادات المتعاقدة، فلعل من المشكوك فيه ما إنتهى إليه الاقتصاد السياسى، على يد ماركس، بعد أن أجرى تفرقة صورية بين العمل وقوة العمل، من أن العلاقة الحقوقية "المهذبة" بين الرأسمال والعامل هى علاقة بيع لقوة العمل، إذ الواقع يجاهر بأن الرأسمالى يشترى، دون مواربة، (فى بعض القطاعات) العامل بشحمه ولحمه خلال ساعات العمل (المنصوص عليها فى العقد!) فالرأسمال يمتلك، خلال ساعات العمل، العامل بما يحتوى عليه من قوة عمل خلال فترة العمل، بيد أن تسربل عملية بيع قوة العمل تلك بسربال علاقة حقوقية، زائفة فى عمومها، هو الذى جعل العملية أكثر خداعاً، وأكثر ملائمة للفكر البورجوازى الرجعى فى مجمله.
فلنعد، إنما إبتداءً من تكوين الوعى بهذه العلاقة الحقوقية الزائفة التى تُغلف علاقة الرأسمال/العمل، إلى حلاق دكار، ونظيره فى باريس. نحن نعتقد، كما ذكرنا، أن آلة/عامل باريس دائماً أفضل من آلة/عامل دكار، لأن آلة/عامل باريس تحتوى على عمل مختزن (تربية، تعليم، طعام، ملبس، مسكن،...) يفوق العمل المختزن الذى تحتويه آلة/عامل دكار. ومن ثم يتعين أن لا تكون قيمتها فقط فى السوق مختلفة، وإنما أيضاً ثمنها.
بيد أن الاقتصاد السياسى لا ينظر إلى العمل المختزن إلا بشأن الآلة! ولا يمد قوانينه إلى الآلة المرتدية جلد البشر! فهو لا يساير منطقه حين يدخل فى حساباته مأكل العامل (الخبز)، ومأكل الآلة (الطاقة) ثم يتوقف عند ذلك بشأن العامل، ولكنه يستكمل حساباته بشأن الآلة حين ينظر إليها مرة كآداة لإنتاج عمل حى(المنتَج) ومرة كآلة تحتوى على عمل مختزن. وهذا يعد تقليداً متبعاً فى حقل نظرية القيمة(19) من جهة إغفال العمل المختزن بصدد العمل، فلا ينظر الاقتصاد السياسى سوى إلى ما يحتاجه العامل كى يُنتج السلع، ويُجدد إنتاج نفسه (أى يجدد إنتاج جنسه) ولا ينظر على الإطلاق إلى نفقة إنتاجه. تلك النفقة التى جعلت منه عاملاً يمكن الدفع به إلى سوق العمل، وإن ماركس نفسه لم يساير منطقه؛ فعلى الرغم من وعيه التاريخى والموسوعى إلا انه أغفل تماماً إعتبار العامل آلة مادية، وأدخل فى حساباته، حين تعرضه للقيمة، ما يحتاج إليه العامل كى يُنتج، ولكى يُجدد إنتاج نفسه. لكنه، أى ماركس، لم يمد ما أخذه عن ريكاردو بشأن العمل المختزن إلى العامل، فلم ير سوى ما يحتاج العامل إليه كى يعيش، ولم ير كيف تكوَّن هذا العامل بالأساس!
فلقد نقل ماركس، فى رأس المال، عن تيودور الصقلى:
"... انه لا يمكن أن نصدق كيف أن تربية الصغار لا تكلفهم سوى اليسير من التعب والنفقات، فهم يطعمون هؤلاء الصغار أول غذاء بسيط يقع تحت اليد، ويعطونهم الجزء السفلى من سيقان القصب كى يأكلوه، بمقدار ما يصلح للشواء على النار، كما يقدمون لهم جذور وسيقان بعض نباتات المستنقعات، أما نيئة أو مسلوقة أو مشوية. ويسير أغلب الصغار حفاة عراة، بسبب اعتدال الهواء. لذا فإن تنشئة الصغار حتى يقوى عودهم، لا تكلف الأبوين، بوجه عام، أكثر من عشرين دراخماً. وهذا، بالدرجة الرئيسية، ما يفسر لماذ نجد سكان مصر بهذه الكثرة، ولماذا يمكن بالتالى تشييد مثل هذا العدد من الصروح العظيمة"(20).
وعلق ماركس على ذلك بقوله:
"أما فى الحقيقة فإن هذه الصروح فى مصر القديمة، لا يرجع فضلها إلى كثرة السكان بقدر ما يرجع إلى أن نسبة كبيرة من هؤلاء كانوا رهن التصرف للقيام بهذا العمل"(21).
أى أن ماركس لديه الوعى بأن العامل نفسه له نفقة إنتاج، تلك النفقة التى تجعل منه عاملاً يصلح لبيع قوة عمله فى السوق. ومع ذلك لم يستكمل ماركس منطقه. واعتد فقط بما يجب دفعه للعامل كى يعيش ويجدد إنتاج نفسه، أى يجدد إنتاج جنسه.
"ان صاحب قوة العمل سوف يموت يوماً. وبالتالى يجب على بائع قوة العمل، من أجل أن يظهر فى السوق بصورة متواصلة، كما يتطلب ذلك تحول النقد إلى رأسمال بصورة متواصلة، أن يخلّد نفسه، كما يخلّد نفسه أى فرد، أى عن طريق التكاثر. وان قوى العمل التى تذهب من السوق بسبب الموت يجب أن تبدل دائماً بنفس الكمية على الأقل من قوى العمل الجديدة. ولذا، يتضمن مجموع وسائل المعيشة الضرورية لإنتاج قوة العمل وسائل المعيشة لأولئك البدلاء، أى أطفال العمال، وبذلك يُخلد فى سوق السلع جنس مالكى السلع المتميزين هؤلاء"(22)
وكلام ماركس على هذا النحو غير صحيح، فمن جهة أولى: إذ ما افترضنا أن الأجر ينشطر إلى شطرين: الشطر الأول: كى يعيش العامل، والشطر الثانى: من أجل البدلاء. يتعين أن يكون أجر العامل متغيراً وفقاً لعدد البدلاء الذي أنجبهم! وهذا غير واقعى. ومن جهة أخرى يتعين أن نعترف بأن الطبقة العاملة، القادمة، بأسرها مدينة إلى الطبقة الرأسمالية بأسرها، قبل أن تطرح نفسها فى السوق كسلعة، لأن الطبقة الرأسمالية هى التى تكفلت بالإنفاق عليها حتى صارت جاهزة كى يُدفع بها فى سوق العمل، ولا يكون العامل (رب الأسرة) سوى وسيط، وهذا أيضاً غير واقعى. ومن جهة ثالثة: يتعين أن يكون أجر العامل الأمريكى مساو لأجر العامل المصرى، إذ ما قام الأمريكى بالعمل فى مصر، وهذا أيضاً غير واقعى، بل الأمريكى أو الأوروبى الذى يعمل فى أحد المنشأت فى مصر إنما يتلقى أجره بالعملة الأجنبية، ويكون أجره أعلى من نظيره المصرى. أى أن العمل المختزن بداخل العامل نفسه يعد ركيزة أساسية فى تحديد قيمة قوة العمل.
هكذا صارت نظرية القيمة مهددة بإلقائها خارج نطاق ما هو عِلمى لتلك الإنتقائية المفرطة التى ترتع بداخلها. إن تلك الإنتقائية، أى إغفال نفقة إنتاج العامل، أى إغفال العمل المختزن فى داخل العامل نفسه، هى التى أدت إلى هذا التشوش بصدد حلاق دكار، وحلاق باريس. إن حلاق دكار أيتها السيدات، ويا أيها السادة، لا يتكلف منذ ولادته حتى يمسك بأدوات العمل ومواده سوى كسرات خبز معدودة، وشربة ماء غير آدمية. ومسكن خرب، وتعليم إستعمارى مشوه، وكل ذلك يمكن حسابه بوحدات حسابية محددة منذ الميلاد وحتى الممات. ليس بشأن حلاق دكار فقط، وإنما أيضاً بصدد حلاق باريس، الذى يأكل ويشرب ويرتدى ويتعلم ويتدرب ويتنزه أفضل عشرات المرات عن حلاقنا السنغالى، ردىء الصنع، فى دكار. ومع ذلك لم ير الاقتصاد السياسى سوى ما يجب دفعه للعامل كى يعيش. لكى يُنتج، كى يُنجب المزيد من العمال (أن تُجدد الطبقة إنتاج نفسها) ولم ير ما الذى يجب دفعه للعامل عن العمل المكدس الذى يحتويه بداخل أعصابه وعضلاته وأنسجته وخلاياه.
وبصدد العمل الحى، والمظهر النقدى لقيمة قوة العمل، فيجب الوعى بأن التراكم الأولى للرأسمال (فى أوروبا،ثم الولايات المتحدة، كوريث تاريخى للهيمنة الاستعمارية) كان له الدور الحاسم فى ارتفاع الدخول النسبية، والمستوى العام للأثمان فى هذه الأجزاء المتقدمة من النظام الرأسمالى العالمى المعاصر.
ولنر الأن كيف يكون التبادل، وفقاً لتصورنا، متكافئاً. فطبقاً لقانون القيمة، ومن أجل إنتاج معطف فى مصر بأيدى عمالة مصرية، ومعطف آخر فى إنجلترا بأيدى عمالة إنجليزية، فسون نكون أمام الإفتراضين التاليين:
- من أجل إنتاج معطف مصرى، بأيدى مصرية (اقتصاد رأسمالى متخلف) : ساعة عمل
5 أدوات العمل + 3 مواد العمل + 2 قوة العمل (حى 1 )+(مختزن 1) + 2 قيمة زائدة = 12
- من أجل إنتاج معطف إنجليزى، بأيدى إنجليزية (اقتصاد رأسمالى متقدم) : نصف ساعة عمل
5 أدوات العمل + 3 مواد العمل + 2 قوة العمل (حى 1 )+(مختزن 1) + 2 قيمة زائدة = 12
وبغض النظر عن أن الرأسمال سوف يُسارع بالهروب(بتقنيته)ناحية مصر للإستفادة من العمالة الرخيصة، وهو ما يحدث فعلاً على الصعيد العالمى، بل يعد ذلك أداة تهديد دائمة من قبل الرأسمال للطبقة العاملة فى أوروبا بوجه خاص، فالمثال يوضح أن ساعة عمل فى إنجلترا، تعادل ساعتين عمل فى مصر، من جهة الأجر والإنتاجية.
فوفقاً للمثال أعلاه، وبافتراض أن المعطف يساوى ساعة عمل يساوى كيلو جرام من اللحم؛ فإن ساعة عمل فى إنجلترا تساوى ساعتين من العمل فى مصر، أى أن العامل الإنجليزى يستطيع أن يُبادل معطفه بكيلو من اللحم، فى حين لا يكون للعامل المصرى سوى نصف هذه الكمية لقاء ساعة عمل واحدة. ومن ثم فإن المعطف فى إنجلترا يساوى كيلو لحم. على حين أنه يساوى نصف كيلو لحم فى مصر. فالتبادل إذاً متكافىء. وعادل. ويمسى واضحاً لمَ يعمل المصرى 10 ساعات، مثل صديقنا الفلاح الأفريقى، ولا يحصل فى مقابل هذه الساعات العشر سوى على نصف أو ربع أو ثلث ما يحصل عليه واحد من العمال فى أحد الأجزاء المتقدمة من النظام الرأسمالى العالمى المعاصر. نحن نرى لذلك أن التبادل لا يكون إلا متكافئاً ابتداءً من الوعى بالعمل المختزن الذى يحتويه العمل الحى. وهذا الأمر لم يعره الاقتصاد السياسى الإهتمام الكافى.
فلنبدأ من هنا، ونؤكد على التأثير الحاسم للوعى بالتسرب كنظرية عامة فى التخلف، ومن ثم العمل على منع هذا التسرب، وذلك ربما يكفينا عناء البحث عن نظرية "عمولة" تُفسر سبب وجود قيمة منتَجة فى الأجزاء المتخلفة فى داخل الأجزاء المتقدمة؟ أى كيف وصلت هذه القيمة من الأجزاء المتخلفة إلى الأجزاء المتقدمة؟ والأمر لا يتعلق فى الواقع بتبادل غير متكافىء على الصعيد العالمى، وإنما يتعلق بنظرية عامة فى تجديد إنتاج التخلف. نظرية عامة فى (تسرب) القيمة الزائدة المنتَجة فى الأجزاء المتخلفة إلى خارجها صوب الأجزاء المتقدمة من أجل استيراد جُل السلع والخدمات التى يتوقف عليها تجديد الإنتاج الاجتماعى فى الأجزاء المتخلفة. وتلك الفرضية لا تمنعنا ابداً من رؤية العلاقات الاقتصادية على الصعيد العالمى كعلاقات بين بلدان مختلفة فيما بينها فى مستويات النمو والتطور. بين أجزاء متقدمة تعيش فى عصر ما بعد الصناعة وأجزاء أخرى متخلفة تعيش فى عصر ما قبل الصناعة!
(6)
ويمكننا أن نتخذ من الاقتصاد المصرى مثلاً نعمق من خلاله فكرتنا بشأن تسرب القيمة الزائدة المنتجة بسواعد الشغيلة الأجراء إلى خارج الاقتصاد القومى من أجل شراء السلع والخدمات التى تتوقف عليها عملية تجديد الإنتاج الاجتماعى. وما سوف ندرسه بشأن الاقتصاد المصرى إنما يمكن استخدامه منهجياً فى سبيل دراسة باقى الأجزاء المتخلفة من النظام الرأسمالى العالمى المعاصر.
لقد وضع البنك الدولى ستة معايير لمعرفة مدى اندماج دولة ما فى السوق الدولية، وبالتبع مدى اندماجها فى المنظومة الرأسمالية العالمية ككُل، وهذه المعايير هى: أولاً: نسبة التجارة السلعية إلى الناتج المحلى الإجمالى. ثانياً: نسبة التجارة السلعية إلى الناتج المحلى السلعى الإجمالى. ثالثاً: نسبة صادرات الخدمات إلى صادرات السلع. رابعاً: النمو فى التجارة الحقيقية مطروحاً منه النمو فى الناتج المحلى الإجمالى الحقيقى. خامساً: نسبة التدفقات الرأسمالية الخاصة إلى الناتج المحلى الإجمالى. سادساً: نسبة الاستثمارات الأجنبية المباشرة إلى الناتج المحلى الإجمالى. وإذ ما اتخذنا من مصر مثلاً؛ فوفقاً لهذه المعايير، بالتحديد وفقاً لأربعة منها، كما سنرى، يبدو الاقتصاد المصرى فى الفترة من عام 1990 حتى عام 2012 أقل إندماجاً فى الاقتصاد العالمى.
فبالنسبة لمعيار نسبة التجارة السلعية، فقد انخفضت هذه النسبة إلى الناتج المحلى الإجمالى من 36.8% فى 1990 إلى 22% فى 2011. وبالنسبة لمعيار التجارة السلعية إلى الناتج المحلى السلعى الإجمالى؛ فقد انخفضت أيضاً هذه النسبة من 50% إلى 46%. أما بالنسبة إلى المعيار الثالث وهو معيار نسبة صادرات الخدمات إلى صادرات السلع، فلقد أشارت الأرقام إلى تحقيق الاقتصاد المصرى نسبة أعلى من الاندماج، حيث ارتفعت النسبة من 138% فى 1990 إلى 155% فى 2011. وبالنسبة إلى النمو فى التجارة الحقيقية مطروحاً منه النمو فى الناتج المحلى الإجمالى الحقيقى، فإن هذا المعيار يعكس الفارق السلبى (-2.4%) بين حجم التجارة المصرية بالأسعار الثابتة ونمو الناتج المحلى الإجمالى الحقيقى. ويشير المعيار الخامس، وهو نسبة التدفقات الرأسمالية الخاصة، إلى ازدياد درجة اندماج الاقتصاد المصرى فى الاقتصاد العالمى، حيث ارتفعت النسبة من 6.8% فى 1990 إلى 8.6% فى 2003. وأخيراً، وهو معيار نسبة الاستثمارات الأجنبية المباشرة إلى الناتج المحلى الإجمالى. فلقد انخفضت نسبة إجمالى الاستثمار الأجنبى المباشر إلى الناتج المحلى الإجمالى من 1.70% فى العام 1990 إلى 0.47% فى العام2012.
معنى ما سبق أن الاقتصاد المصرى، وفقاً لمعايير البنك الدولى، أقل اندماجاً فى الاقتصاد العالمى، وأقل انفتاحاً على السوق الرأسمالية العالمية، على الأقل من جهة التجارة الخارجية والاستثمارات الأجنبية المباشرة! ولكن، هل هذا الوضع يعد إيجابياً أم سلبياً؟ أعتقد أن الذين يحذروننا ليلاً ونهاراً من الرأسمالية وخطورة الاندماج فى النظام الرأسمالى العالمى؛ أعتقد أنهم فى ورطة فكرية! فالبنك الدولى يقول لهم أن الاقتصاد المصرى يعد من الدول غير المندمجة فى الاقتصاد الرأسمالى العالمى؛ بل ولديه ميل تاريخى لعدم الاندماج وعدم الانفتاح على السوق الدولية، على الرغم من هذا الكم الهائل من التشريعات القانونية واللوائح والتعليمات الوزارية والمصلحية التى سنت وصدرت من أجل تشجيع الاستثمار واجتذاب المستثمرين الأجانب ورساميلهم دولية النشاط! فكيف الخروج من هذه الورطة الفكرية؟
أتصور أن السبيل هو إعادة النظر فى معايير البنك الدولى ذاتها، ابتداءً من كون البنك الدولى نفسه أحد أدوات الرأسمال الدولى، التى يستخدمها إستقداماً وإستبعاداً فى سبيل تحقيق مصلحته. ونحن من جانبنا نستبدل هذه المعايير بمعيار آخر هو معيار" مدى التبعية" أو معيار (مدى الإعتماد على الرأسمالية العالمية، من أجل تجديد الإنتاج الاجتماعى، بل ومن أجل الحياة اليومية المعيشة) وحاصل معيارنا المقترح، والذى يعتمد على قانون القيمة، هو معرفة مدى اعتماد المصريين على الرأسمالية العالمية إنتاجاً واستهلاكاً، من خلال التعرف على نسبة متوسط نصيب الفرد من الواردات السلعية، التى تلتهم القيمة الزائدة، إلى نسبة متوسط نصيب الفرد من الناتج المحلى السلعى الإجمالى، وهو معيار يقيس مدى التبعية الاقتصادية للخارج؛ بقياسه لمقدار التسرب فى القيمة الزائدة المنتجة بفضل سواعد الشغيلة الأُجراء فى الأجزاء المتخلفة من النظام الرأسمالى العالمى.
وقد توصلنا إلى أن متوسط نسبة تبعية المجتمع المصرى فى الفترة 2000-2013 مقداره 39.76%، أى أن متوسط استخدام الفرد المصرى لسلع السوق الرأسمالية العالمية، ومن ثم اعتماده عليها فى حياته اليومية، يُقدّر بأكثر من الثلث من جملة إستخدامه للسلع المختلفة؛ فأكثر من ثلث السلع التى يستخدمها المصرى فى حياته اليومية هى سلع السوق الرأسمالية العالمية. بل فى بعض سنوات الفترة المذكورة تجاوزت نسبة "التبعية" هذا المتوسط بكثير وحققت نحو 63% تقريباً فى عام 2008.
فهل صار الأن واضحاً أكثر أين إتجهت الـ 6 مليارات؟ أين إتجهت القيمة الزائدة المنتَجة بفضل سواعد الشغيلة فى مصر؟ وهل اتضح ما نعنيه بالتبعية؟
لقد إتجهت الـ 6 مليارات، فى مثلنا التقليدى، لتمويل متوسط"مدى التبعية" ونسبته (40% تقريباً) من خلال شراء السلع المنتجة فى الأجزاء المتقدمة من النظام الرأسمالى العالمى. أى أن ما يُنتجه الشغيلة فى مصر، وبالمثل باقى الشغيلة فى بلدان الأجزاء المتخلفة من النظام الرأسمالى العالمى المعاصر، إنما يذهب لتدعيم صناعات معقدة ومتطورة فى الأجزاء المتقدمة.
ومعيارنا الذى نقترحه لقياس التبعية، ابتداءً من قانون القيمة، على أساس نسبة متوسط نصيب الفرد من الواردات السلعية، التى تلتهم القيمة الزائدة، إلى نسبة متوسط نصيب الفرد من الناتج المحلى السلعى الإجمالى، من أجل قياس مقدار تسرب القيمة الزائدة المنتَجة بفضل سواعد الشغيلة فى الأجزاء المتخلفة من النظام الرأسمالى العالمى المعاصر، إنما يختلف جوهرياً عن المساهمات التى ادعت إنشغالها بقياس التبعية، على الرغم من أن بعض هذه المساهمات، مثل مساهمة د. إبراهيم العيسوى، تعتد، ضمن عشر مجموعات، بنسبة الواردات إلى الناتج المحلى الإجمالى، إلا أن هذا الاعتداد إنما ينبنى، مثل كُل المساهمات(23)، بعيداً عن قانون القيمة، ومن ثم تمسى النتائج مختلفة؛ فعلى الرغم من أن المعيار الذى نقول به هو، ظاهرياً، نفس المعيار تقريباً، من ضمن معايير أخرى، الذى تقول به المساهمات الأخرى، إلا أن النتيجة مختلفة؛ لأننا نخلص، وفقاً لمعيارنا المرتكِز على قانون القيمة، إلى أن الاقتصاد تابع لأنه يعتمد على الرأسمالية العالمية فى سبيله لتجديد إنتاجه الاجتماعى، ومن ثم فهو فاقد للسيطرة على الشروط الموضوعية التى تمكّنه من هذا التجديد دون إعتماد على الخارج. فى حين أن المساهمات الأخرى لا تستطيع أن تضع يدها على بيت الداء، لأنها فى الواقع لا تستهدفه بالأساس، وتنطلق، بكل حرية، ربما مفرطة، على صفحات النيوكلاسيك والكينزيين والنقديين كى تدرس مفردات الاقتصاد القومى ككُل(24). وفى المنتهى لا تقول لنا إلا ما نعلمه، كأناس عاديين أو باحثين، من ان الاقتصاد سىء الأداء، مختل الهيكل، والشعب فقير جاهل، والعملة الوطنية متدهورة القيمة، والتضخم مستشر، والأستثمار متراجع، والركود متزايد، بل ربما قالت لنا ان درجات الحرارة غير مستقرة... إلخ. فإن أفضل ما لدى جُل المساهمات فى التبعية، كما تراها هى، كى تقوله هو أن الاقتصاد واهن سقيم، ونحن نَعلمُ ذلك. يجب أن تتكاتف الجهود الوطنية المخلصة كى تنقذه وتقيله من عثراته، ونحن نعلم ذلك أيضاً ولا جديد. وعلى الفور نقرأ ونسمع السيل من المقترحات (من خارج علم الاقتصاد السياسى، كعلم منشغل بقانون القيمة) توصى وتنصح أولاً بمسح شامل للاقتصاد (تقريباً وفقاً لمؤشرات البنك الدولى!) فإذ ما وجدت، وحتماً ستجد، الاقتصاد القومى المتخلف يعانى من التضخم والكساد والبطالة والركود،... إلخ، إنتقلت إلى المرحلة الثانية التى توصى فيها، ولو ضمناً، بالنظر إلى ما هو متبع من سياسات اقتصادية فى الأجزاء المتقدمة من النظام الرأسمالى العالمى والمناداة، ربما العُصابية أحياناً، بتطبيقه حتى يمكن إصلاح الاقتصاد! ويكون من لوازم هذا النداء، بطبيعة الحال، النداء الموازى بضرورة الاندماج فى السوق الرأسمالية العالمية. على الرغم من أن نفى التبعية مرتهن بمدى رفض الاعتماد على السوق الدولية من أجل تجديد الإنتاج الاجتماعى فى الاقتصاد المتخلف، التابع، أى أن نفى التبعية يكون بالتنمية المستقلة المعتمدة على الذات، بيد أن ما نستنتجه من المساهمات التى تعتنق التصورات الحدية، أو الكينزية فى أفضل الأحوال، هو أن الخروج من التبعية يكون باتباع سياسات الأجزاء المتقدمة من النظام الرأسمالى العالمى المعاصر!
إن التبعية، كما نفترضها، هى أن يفقد المجتمع الاستقلالية الاقتصادية. يفقد القدرة على السيطرة على الشروط الموضوعية لتجديد إنتاجه الاجتماعى. والمجتمع يفقد الاستقلالية الاقتصادية حينما تتسرب القيمة الزائدة المنتجة بفضل عرق الشغيلة فى الأجزاء المتخلفة صوب الأجزاء المتقدمة. كما يفقد المجتمع القدرة على السيطرة على الشروط الموضوعية لتجديد إنتاجه الاجتماعى حينما يمسى عاجزاً عن الإنتاج دون أن يعتمد على السوق الرأسمالية العالمية التى تحتكر إنتاج وسائل الإنتاج التى يعتمد عليها المجتمع المتخلف، التابع، فى سبيله إلى تجديد إنتاجه السنوى، بل وفى سبيله إلى تحقيق وجوده الإنسانى اليومى. الأمر الذى يجعلنا نسأل سؤالاً واحداً محدداً هو: ما مقدار اعتمادنا، نحن أبناء الأجزاء المتخلفة، على الرأسمالية العالمية فى سبيلنا إلى تجديد إنتاجنا الاجتماعى السنوى، وتحقيق وجودنا الإنسانى والاجتماعى اليومى؟ هذا السؤال هو ما نعتبره"سؤال التبعية". وهو السؤال الذى لا يمكن، فى تصورنا، مناقشته إلا ابتداءً من قانون القيمة. وربما قانون القيمة فقط.
أما البحث فى مفردات الاقتصاد القومى ككُل، وفقاً لنظريات البنك الدولى، والمؤسسة التعليمية الرسمية، فنحن لا ننكره ولا نرى مبرراً لاهدار نتائجه، وإنما لا نتجاوز به حدوده التى لا ينبغى له أن يتعداها كبحث ينتهج التصورات الحدية ولا يرى الاقتصاد القومى إلا من خلال معدلات التضخم، وبيانات البطالة والفقر، ونسب الجوعى والمرضى، واحصاءات الدخل والناتج... إلخ، لأن هذه الأبحاث تنشغل بعمل بحث، إنما نيوكلاسيكى/ حدى/ آنى، فى مشكلات مفردات الاقتصاد المعنى ككُل. ودون أن تثير الكيفية التاريخية التى شكلت الواقع، والذى تبحثه، بجميع تفاصيله.
إن دراسة الاقتصاد بوجه عام جداً، وفقاً لما اقترح د. العيسوى، من الأمور السديدة منهجياً بلا شك، إنما بشكل جزئى، بل من الواجب علمياً، فى مرحلة منهجية أولى، أن يُدرَس الاقتصاد القومى، آنياً، من جوانبه كافة، إنما غير الصحيح، فى تصورى، هو أن نسمى هذا البحث الشامل بحثاً فى التبعية، لأن التبعية كمقياس لظاهرة تجديد إنتاج التخلف الاقتصادى والاجتماعى إنما يتعين أن تقيس مدى اعتماد الاقتصاد القومى على الرأسمالية العالمية فى سبيل تجديد إنتاج المجتمع لإنتاجه السنوى. تقيس مدى فقد المجتمع للسيطرة على الشروط الموضوعية لتجديد إنتاجه الاجتماعى. تقيس مدى فقد المجتمع للقدرة على الإنتاج المستقل المعتمد على الذات. تقيس مدى تسرب القيمة الزائدة المنتَجة بفضل سواعد الشغيلة فى الاقتصاد القومى المتخلف إلى خارجه صوب الأجزاء المتقدمة من أجل شراء وسائل الإنتاج اللازمة لتجديد الإنتاج الاجتماعى. وحينئذ يمكننا تحديد الإشكالية المركزية ومن ثم تحديد طبيعة الحل. أما البحث فى مفردات الاقتصاد القومى ككُل، ابتداءً من تصوراتٍ نيوكلاسيكية/حدية/ آنية، وفقاً لمؤشرات البنك الدولى والنظرية الرسمية، كى نصل إلى أن الاقتصاد واهن كاسد متصدع الهيكل، ثم نسمى ذلك تبعية! فهو ما نتصوره فى حاجة إلى مراجعة، على الأقل من أجل تصحيح فهم التبعية نفسها فهمها ناقداً بغرض الخروج منها. وهو ما يتطلب فهمها فهماً متجاوزاً للرؤى الخطية والتصورات الميكانيكية. فهمها إنما ابتداءً من قانون القيمة. فقانون القيمة بمفرده، ودون ادعاء امتلاك ناصية الحقيقة الاجتماعية، هو القادر على أن يشرح بدقة التبعية بمعناها المفترض أنه صحيح، ومن ثم يمكّننا من النفى التاريخى لها كمقياس لتجديد إنتاج التخلف الاقتصادى والاجتماعى. وهو ما يمكننا من ترسيم حدود النفى التاريخى للتبعية كمقياس للقيمة الزائدة المتسربة إلى خارج الاقتصاد القومى المتخلف، التابع، المنتِج لها.
يرتبط هذا التسرب فى القيمة الزائدة المنتجة فى داخل الاقتصاد الوطنى، التابع، إلى خارج الاقتصاد القومى من أجل تمويل نسبة "مدى التبعية"، أى من أجل شراء السلع والخدمات التى تتوقف عليها عملية تجديد الإنتاج الاجتماعى، بمفهوم التخلف ارتباطاً وثيقاً، حيث أننا نرى أن التخلف الاقتصادى والاجتماعى هو:"عملية اجتماعية من ارتفاع معدل إنتاج القيمة الزائدة، المتناقض مع ضعف آليات إنتاجها، ومن خلال هذا التناقض تتبلور ظاهرة تسرب القيمة الزائدة المنتَجة داخلياً فى الأجزاء المتخلفة من الاقتصاد الرأسمالى العالمى المعاصر إلى الأجزاء المتقدمة". أى تتسرب هذه القيمة الزائدة من أجل تمويل نسبة "مدى التبعية". وهذا التحديد لمفهوم تجديد إنتاج التخلف الاقتصادى والاجتماعى، إنما، ووفقاً لقانون التناقض، يُشير إلى أن الرأسمالية فى الأجزاء المتخلفة، ومنها مصر، وعلى حين يهمها الابقاء على معدلات إنتاج القيمة الزائدة المرتفعة، بل ورفع تلك المعدلات(لأنها سر حياتها) فهى تقع فى التناقض حين تسعى، وفى نفس الوقت، إلى تطوير قوى الإنتاج، المتخلفة بالأساس، فى تلك الأجزاء، والتى تتلقى الفنون الإنتاجية من الأجزاء المتقدمة بعد استهلاكها، ومعنى تطوير قوى الإنتاج هو إحلال الآلة؛ ويعنى إحلال الآلة (من أجل الحصول على أكبر قدر من السلع فى أقل وقت عمل، مع دفع أقل أجر) التقليص من معدلات إنتاج القيمة الزائدة. هنا يقع التناقض ما بين ارتفاع معدلات إنتاج القيمة الزائدة وضعف آليات إنتاجها. وإلى حين حل هذا التناقض تأخذ القيمة الزائدة المنتَجة داخلياً فى التسرب إلى خارج مسام الاقتصاد القومى كى تُغذى صناعات معقدة ومتطورة فى الأجزاء المتقدمة (ولا نغفل الأجزاء التى إتخذت منها الأجزاء المتقدمة مصدراً للعمالة الرخيصة فنقلت مصانعها إليها) والتى تمد الأجزاء المتخلفة بالسلع كثيفة التكنولوجيا والرأسمال، وهى السلع التى تتوقف عليها شروط عملية تجديد الإنتاج الاجتماعى فى الأجزاء المتخلفة. أى أن القيمة الزائدة المنتجة داخلياً تأخذ فى التسرب إلى خارج الاقتصاد القومى من أجل تمويل نسبة "مدى التبعية". والجدول أدناه يبين الميل العام لتبعية الاقتصاد المصرى للسوق الرأسمالية الدولية فى الفترة من 2000 إلى 2013 مع مراعاة ضرورور الوعى بأن المتوسط الحسابى عادة ما يخفى أكثر مما يظهر، ولذا لا نعتد إلا بالميل العام على وجه الاسترشاد لفهم أداء الاقتصاد على صعيد التبعية الاقتصادية بوجه خاص.
الميل العام لتبعية الاقتصاد المصرى للسوق الرأسمالية الدولية فى الفترة من 2000-2012
السنة متوسط نصيب الفرد من الواردات السلعية متوسط نصيب الفرد من الناتج المحلى السلعى الإجمالى معدل التبعية
2000 0.76 2.6 29.23
2001 0.77 2.67 28.83
2002 0.84 2.93 28.66
2003 0.94 3.32 32.12
2004 1.15 3.65 31.50
2005 1.62 4.11 39.41
2006 1.62 4.70 34.46
2007 2.08 5.9 35.25
2008 3.86 6.1 63.27
2009 3.28 6.72 53.77
2010 3.82 7.67 49.80
2011 4.61 8.52 54.10
2012/2013 3.80 10.4 36.53
المتوسط العام للتبعية الاقتصادية فى الفترة 2000 / 2013 = 39.76%

(6)
نستنتج من تحليلاتنا أعلاه أن:
- تجديد إنتاج التخلف هو: ارتفاع معدل إنتاج القيمة الزائدة، المتناقض مع ضعف آليات إنتاجها، ومن خلال هذا التناقض تتبلور ظاهرة تسرب القيمة الزائدة المنتَجة داخلياً فى الأجزاء المتخلفة من الاقتصاد الرأسمالى العالمى المعاصر إلى الأجزاء المتقدمة. والقيمة الزائدة تلك التى تتسرب خارج المجتمع المنتج لها هى:
- حاصل التناقض بين: الارتفاع فى القيمة الزائدة الأولية بالنسبة لقيمة قوة العمل، وبين: الانخفاض فى القيمة الزائدة الأولية بالنسبة للرأسمال الكلى. ومن ثم، لا تعد القيمة الزائدة خاضعة لأهواء الرأسماليين. وإنما:
- خاضعة لقانون موضوعى يرتكز على جدلية الصراع بين قوى الإنتاج. وبالتبع الصراع بين الطبقات الاجتماعية المشاركة، وغير المشاركة، فى الإنتاج على الصعيد الاجتماعى. وعليه، يصبح مفهوماً أساس تحديد (كمية) و(معدل) القيمة الزائدة. وليس الاكتفاء، كما فعل ماركس، بافتراض، عديم المعنى والأساس، بأن معدل القيمة الزائدة = 100%. ومن ثم:
- يمكننا اعادة طرح مفهوم القيمة الزائدة. وقيمة السلعة. وثمنها. ومعدل الربح الوسطى. وثمن الإنتاج. الأمر الذى يمكنا من اعادة فهم أساسيات تجديد الإنتاج الاجتماعى المعتمد على الذات. وبصفة خاصة تجديد الإنتاج الاجتماعى فى الأجزاء المتخلفة، ونحن منها، والتى صارت مندمجة فى الاقتصاد الرأسمالى العالمى كاقتصادات تابعة تعتمد فى تجديد إنتاجها على ما يحدث خارجها فى باقى أجزاء النظام. ومن ثم تتميز بفقدانها السيطرة على الشروط الموضوعية لتجديد إنتاجها على نحو مستقل معتمد على الذات.