في الأول من أيار، محاولة لاستعادة مفهوم الطبقة العاملة

يزن حداد
2014 / 5 / 4 - 08:58     


ادّعت الرأسمالية وقوفها في صف حقوق العمّال ليتحول الأول من أيار إلى مناسبة فلكلورية وروتين سنوي لا يعني شيئاً، كالاحتفال بمناسبة "كذبة نيسان" في حين أن الرأسمالية هي الكذبة الكبرى.



واليوم على الطبقة العاملة أن تعلن في عيدها الأممي التضامن لتعيد التأكيد على (حقيقة) واحدة مفادها أن الرأسمالية نظام بائد ومتهالك، ولا يزال العمّال لبنة الثورة الأساسية والحامل الاجتماعي الأقدر على التغيير الجذري، وقلب ميزان القوى لصالح الأغلبية الساحقة من الجماهير الفقيرة والمستلَبة.

ولكن يتطلب تحليل الطبقة العاملة في ضوء المعطيات الجديدة والمتغيرات الاقتصادية، والتي لا تعيش بمعزل عن الاجتماعي والسياسي في النظرية والممارسة، أن نفترض مجموعة من المفاهيم القادرة على استيعاب الظرف وطبيعة البنى الاجتماعية الاقتصادية القائمة، وبالتالي المهام النضالية لجماهير الكادحين والفقراء والمهمشين.

ليس في نيّتي أن أقدم نظرية شاملة في تحليل الطبقة العاملة في دول الأطراف، فذلك الأمر بحاجة إلى مجهود مضنٍ قد لا أستطيع بذله الآن، ولكنّي سأطرح من خلال هذه المقالة مجموعة من الأفكار التي أرجو بأن تكون أداة فعّالة لفهم وتفكيك الواقع الذي خلقته الإمبريالية الرأسمالية، ومن ثم دكّ أعمدة البنى الرجعية والبناء على حطامها.

لننطلق من الأسئلة التالية، ما هي الفروق الجوهرية التي تميّز علاقات الإنتاج الرأسمالية وبنية الدولة في المراكز عن علاقات الإنتاج في دول الأطراف، والتي تكرّس التبعية وإعادة إنتاج أنماط الإنتاج الما قبل رأسمالية؟! ومن باب أولى، وفي إطار تلك العلاقات، ما الذي يميّز الطبقة العاملة في دول الأطراف عن نظيرتها التي نشأت في أوروبا خلال حقبة صعود البرجوازية كطبقة حديثة العهد قامت بتفجير الثورة على الإقطاع؟

مفهوم الطبقة العاملة.. عودة إلى ماركس وإنغلز

وضع فريدريك إنغلز عام 1847 نص كتيّب “ما هي الشيوعية” بناءً على طلب عصبة الشيوعيين التي انتمى إليها هو وماركس حينها، والذي قام ماركس بتعديل بعض أفكاره وتوسيع اُخرى من خلال البيان الشيوعي عام 1848، فقد دأب إنغلز على إيضاح تعريف البروليتاريا وكيفية نشأتها بين ثنايا النص، لكنه ربط التحليل بالظرف التاريخي الذي قاد إلى نشوء الطبقة العاملة، بصورة عيانية تلتحم عضوياً بالبنى القائمة، أي بمعنى أنه ربط تكوّن الطبقة العاملة بالثورة الصناعية في أوروبا خلال فترة صعود البرجوازية والاستقرار النسبي للمنظومة الرأسمالية، فالعلاقات التي تحكم نمط الإنتاج في مراكز الرأسمالية تختلف جوهرياً عن تلك التي تحكم أنماط الإنتاج في الدول التي قامت على هامش المنظومة العالمية، والدول العربية منها. ومن جانب الاقتصاد السياسي، علينا أن نميّز بين نمط الإنتاج ونمط إعادة الإنتاج، فالرأسمالية التي خُلقت قسراً في المنطقة هي رأسمالية تابعة ومشوّهة تعمد إلى إنتاج العلاقات السابقة عليها على صُعد مختلفة، وبعبارةٍ اُخرى، هي رأسمالية تعيد إنتاج أنماط الإنتاج ما قبل الرأسمالية في إطار أيديولوجيسياسي ضيق يجمّد حيّز التطور. فعلى سبيل المثال، يتمّ إنتاج الانتماءات التي ارتبطت بالأنماط ما قبل الرأسمالية (كالعشيرة في الأردن مثلاً) على صعيد أيديولوجي ومن ثم تأطيرها ضمن ممارسة سياسية تؤدي بذلك إلى تغليب وعي على حساب وعي آخر، أي بمعنى وعي هوياتي ضيق مقابل الوعي الطبقي.

ونعني بالتطور هنا السيرورة الطبيعية لتبلور وعي الطبقة العاملة في مجرى إدراكها لذاتها من تفاقم حدّة التناقض بين البروليتاريا والبرجوازية الكائنة في موقع السلطة، فصيرورة الطبقة العاملة، وفقاً لإنغلز، بدأت مع الانقسام الكبير للعمل تزامناً مع المانيفاتورة وإدخال الآلة البخارية والكهرباء إلى النشاط الصناعي الذي اتسم بصفات ثورية نظراً للقفزة الهائلة في وسائل الإنتاج والإمكانيات التكنولوجية المذهلة التي ضاعفت القدرات الإنتاجية وعمّقت آليات تقسيم العمل معاً، وأزاحت بذلك الحرفيين الصغار والمهن التي تعتمد على الأدوات البسيطة ليشمل التقسيم لاحقاً مختلف فروع الصناعة، بحيث أصبحت المكننة تفرض اجتزاء دور العامل في التصنيع بما يسمح برفع مستوى الإنتاجية وتشديد وطأة العمل في تلك الجزئية نتيجةً لمتطلبات الربح وضرورات الإنتاج الرأسمالي المعني بالتوسع الدائم في كافة الاتجاهات.

وبالمحصلة، ذلك يعني أن فائض القيمة الذي يستخرجه الرأسمالي من العامل، أو من عمل العامل، يزداد بزيادة القدرة على مضاعفة الإنتاج على المستويين الكمّي والكيفي من خلال النمو الأسّي لتقنيات التصنيع، مقابل ثبات وقت العمل الضروري لإنتاج سلعةٍ ما. ولا يسعنا من ذلك الباب إلّا أن نطرح سؤالاً حول مسألة القيمة وفائض القيمة لتحديد انعكاس أبعادها داخل سياق المقارنة، كون قانون القيمة الذي اكتشفه ماركس يمثّل جوهر استغلال الطبقة العاملة، ومعامل الربح الأساسي الذي يستثمره الرأسمالي لغايات مضاعفة الأرباح. فهل تقوم جميع أشكال التقسيم الاجتماعي في مجرى العمل بإنتاج فائض للقيمة من القيمة الأساسية الناتجة عن العمل المجرد، يمكن من خلاله تعميم المفهوم العلمي للبروليتاريا على مختلف الفئات؟

وفق تعريف كارل ماركس للبروليتاري، في نطاق المجتمع الطبقي التقليدي، هو العامل الذي يعيش من بيع قوة عمله، وليس العمل بذاته، لصالح الرأسمالي أو البرجوازي، فالعامل يمنح قوة عمله في سياق العملية الإنتاجية مقابل أجر مدفوع، وهذا الأجر بالتحديد هو ما يخلق القيمة الزائدة Surplus Value أو القيمة الفائضة، على عكس العبد أو القن في زمن الإقطاع أو مرحلة العبودية بوصفها نمطاً للإنتاج، فالعبد لا يملك بالأساس قوة عمله حتى يتمكن من بيعها، وبذلك رأى ماركس بأن رأس المال الموظّف في الإنتاج ينقسم بدوره إلى رأسمال ثابت ورأسمال متغير، حيث أن رأس المال المتغير يتمظهر على شكل أجور مدفوعة للعمّال مقابل قيمة قوة العمل الضروري المبذول، والذي يؤلّف معامل توليد فائض القيمة التي يستثمرها الرأسمالي، ليدخل جزءاً منها في توسيع الإنتاج، إلى جانب رأس المال الثابت الذي يُعاد توظيفه في تجديد عملية الإنتاج (مواد أولية، آلات، أعتدة وأدوات، وقود.. إلخ).

في مخطوطات باريس التي كتبها ماركس عام 1844 يقول: “وهكذا فإن الاقتصاد السياسي لا يعترف بالعامل الذي لا يشتغل، بالإنسان العامل، طالما أنه موجود خارج علاقة العمل هذه” .. دليل دامغ على أن الرأسمالية لا تنظر إلى العامل إلّا بوصفه رأسمال حي، سلعة لها قيمة تبادلية يحكمها قانون العرض والطلب، حيث أن طبيعة العملية الإنتاجية ككل في ظل الرأسمالية تخلق نسقاً من العلاقات الاجتماعية التي تربط العامل، بصفته عاملاً، بصورة مباشرة في تلك الشبكة من العلائق الاقتصادية القائمة على الملكية الخاصة، وتحرم في ذات الوقت البروليتاريا كطبقة من تملّك ما تنتجه هي. ومن هنا تتبدى أمامنا جملة من العوامل الموضوعية التي سنخضعها للنقاش لاحقاً، يمكن القياس عليها لتعيين البروليتاريا في المجتمع:

 البروليتاريا هي الطبقة التي تحيا من بيع قوة عملها.

 البروليتاريا هي الطبقة التي لا تملك وسائل الإنتاج.

 البروليتاريا هي الطبقة التي تدخل في علاقة اقتصادية اجتماعية مع البرجوازي أساسها ملكية وسائل الإنتاج والعمل المأجور.

 البروليتاريا هي الطبقة التي يتحدد وضعها الاجتماعي بشروط العمل داخل أطر العلاقات الرأسمالية، وبذلك تنتج ذاتها كطبقة.

 البروليتاريا هي الطبقة التي تنتج فائض القيمة ضمن شروط الإنتاج المادية.

وفي معرض ما سبق، يتبيّن أن المنهجية التي اتبعتها الإمبريالية الأوروبية، والتي قادت إلى ظهور الطبقة العاملة بشكلها الحالي في دول الأطراف في مرحلة الاستعمار الكولونيالي وما بعد الكولونيالي، اعتمدت بصورة رئيسية على التفكيك الخارجي لعلاقات الإنتاج ما قبل الرأسمالية، والإحلال القسري لعلاقات اقتصادية جديدة عمادها الملكية الخاصة والاحتكار والمضاربة، والاستثمار المفتوح أمام الشركات لاحقاً. فمثلاً يجدر الذكر هنا محاولة نابليون في عام 1798 الذي سقطت فيه القاهرة على يد جيوشه، العمل على تفكيك أنماط الإنتاج البدائية في مصر بقوة السلاح، ومن بعده الإمبراطورية البريطانية مترامية الأطراف، والتي حاولت تفكيك نمط الإنتاج الآسيوي (الذي ساد في القرن التاسع عشر في مصر على وجه التحديد)، بعد الهزائم العسكرية التي منيت بها قوات محمد علي عام 1840 وعام 1841 لتنتهي بتوقيع اتفاقيات التجارة الحرة حينها!

وبالرغم من النمو البطيء لوسائل الإنتاج في القرن التاسع عشر، إلّا أن النفط وبداية إنتاجه بكميّات ضخمة (عام 1859 تحديداً) شكّل منعطفاً تاريخياً هاماً في تسريع تلك العملية ودفع المنظومة الرأسمالية نحو مرحلتها الأخيرة، الإمبريالية. ويمكن اعتبار النفط والثورة الصناعية المصاحبة له، بمثابة شرارة الثورة التكنولوجية لاحقاً.

وفي الحين الذي حافظت به العديد من الدول على وظيفتها الاجتماعية والاستقلال السياسي، خاصةً بعد انتهاء الحرب العالمية الثانية وصعود القطب الاشتراكي كقوى عظمى مما ساهم في تثبيت وتوسعة دور حركات التحرر الوطني التي ناضلت لتظفر بالسيادة الكاملة لشعوبها وفكّ التبعية، حمل مشروع ريغان-تاتشر النيوليبرالي، والذي تعزز في أعقاب انهيار المنظومة الاشتراكية، حمل لشعوب الأطراف جملةً جديدة من التحولات الهيكلية لم يكن الحاضن الاجتماعي مهيئاً لاستيعابها وفق شروط تطوره التاريخي، لكن فوق كل ذلك تشكلت طبقة عاملة مشوّهة ومفتتة في نطاق دول المنطقة المستعمَرة، وهذا ما سنناقشه في الفقرة التالية.

الطبقة العاملة الحديثة، إعادة تعريف أم استعادة للتعريف

قد لا يختلف معظم دارسي التاريخ على أن عوامل التناقض الأساسي في تمرحل التاريخ من بنية إلى اُخرى، بمعنى بنية مختلفة كيفياً بتراكم كمّي وليس تطوراً بدلالة أطوار زمنية وحسب، كانت غائبة تماماً عن المنطقة العربية إلى درجةٍ ما في مطلع القرن العشرين، أو في نهايات القرن التاسع عشر لتوخي الدقة، أي منذ بداية التغلغل الإمبريالي لمراكز رأس المال في المنطقة والعالم، الذي جاء نتيجةً لبحث البرجوازية الأوروبية المستمر عن أسواق لتصريف سلعها، مما أسس لتوازنات وعلاقات اقتصادية جديدة على الصعيد العالمي نجمت عن تخلف دول الأطراف في الإنتاج مقارنةً بالمراكز. فلم تنضج حينها القوى الاجتماعية بعد، أو القوى المنتجة في المجتمع، لتنقل بنى التخوم من الأنماط السابقة على الرأسمالية إلى رأسمالية السوق الحر والتجارة المنطوية على الانفتاح المتبادل، من خلال ثورة اجتماعية شاملة يمكن أن تغيّر علاقات الإنتاج القائمة.

وبرغم غياب تلك العوامل وفقدان الشروط المادية التي تؤسس للانتقال إلى بنية اقتصادية اجتماعية جديدة (نفضل استخدام تعبير بنية عوضاً عن “تشكيلة” على غرار مهدي عامل) فقد تكوّنت طبقة عاملة في دول الأطراف، لكنها كانت مفرغة من مضمونها الطبقي الاجتماعي بحيث أصبح التشرذم سمة من سماتها الرئيسية، إضافة إلى الوعي المشوّه، أو المبتور من سياقه الشمولي، فيما كان يدلّ على أن تشكّل الطبقة النقيض ضربٌ من الخيال. ولكن وجود طبقة تمثل الأقلية في موقع السلطة وتتمتع بامتيازات عديدة لا يمكن إلّا أن يقابله طبقة نقيض تنشأ من رحم المجتمع وتعاني الفقر والتهميش، فمن التسطيح بمكان القول بأن وجود طبقة الكومبرادور (أي البرجوازية الطفيلية التي تلعب دور الوسيط) والتي تكوّنت في المنطقة العربية على وجه الخصوص في خضمّ الظرف التاريخي الذي مثّل أرضيةً خصبة لظهور هذه الطبقة الجديدة (من حيث الشكل وليس المضمون)، لم يخلق عدواً طبقياً بالمعنى الكلاسيكي للكلمة.

والعوامل الموضوعية التي افترضناها سابقاً لا يمكن اعتبارها قاعدة ثابتة إذا أردنا الخروج من ثوب الجمود والدوغما الفكرية، حيث أن مفهوم “الكومبرادور” أعطى الانطباع بأنها معايير بالية وبات الحديث الآن عن “نظرية” جديدة أكثر راهنيةً، لكنها في الحقيقة لم تختلف سوى ظاهرياً ما إذا درسنا وضع الطبقة العاملة وحيثيات واقعها، بالأخذ بالبُعد العلمي لتعريف الطبقة. فالطبقة العاملة الحديثة لا تزال تعمل بأجر في ضوء حرمانها من وسائل الإنتاج، إلى جانب أنها تنتج قيمة زائدة يتمكن منها الكومبرادور والطغم المالية المسيطرة عبر آليات استغلال يغلب عليها الطابع السياسي (نظراً لاختلاف البنى القائمة في الأطراف عن تلك التي قامت في المراكز)، فمن العبث الفكري أن نقيم علاقة تماثل بين بنيتين في تعارضٍ واضح على عدة مستويات، بدايةً من جهاز الدولة في محيط الدول الرأسمالية وجهاز الدولة ومؤسساته في قلب المنظومة.

فالطبقة العاملة لم تضمر ولم تختفي، وإن انحسر وعيها ليُختزل في دوائر ضيقة قامت الحراكات السياسية المطلبية على مدى عقودٍ خلت بتبنّي رايتها الاصلاحية الشكلية، والمطلوب الآن هو التفعيل المباشر لدور التنظيمات الماركسية الراديكالية (كون مطلح “اليسار” بات فضفاضاً وقد يعبّر عن متناقضاتٍ عدة) في صفوف الطبقة العاملة التقليدية والطبقة العاملة الحديثة في بوتقة واحدة، لنردّ الاعتبار إلى حقيقة أن النظرية الماركسية تدرس الواقع ولا تعيش فوقه، ولنبحث في البناء العمّالي الجديد الذي تمدد بصورة واسعة منذ أكثر من عقدين من الخصخصة ونهج الإفقار النيوليبرالي.

وفي معرض الحديث عن دور التكنولوجيا في قراءة واقع الطبقة العاملة الجديدة، يرى هابرماس أن التكنولوجيا قد تحولت إلى بنية أيديولجية مستقلة لتحل محل الأيديولوجيات الأساسية السابقة دون أن يعزل تحليله للتكنولوجيا عن النظام الاقتصادي الرأسمالي، بمنطق هيمنته الشمولي، والذي شكّل قاعدةً مادية لهذا التطور غير المسبوق، بحيث أصبحت الآلة بوصفها أداة للإنتاج (الآلة البسيطة سابقاً بمعنى الأدوات الحرفية) إلى أداة للاستعباد، بيد أن الإنسان بات يرزح تحت سيطرة الآلة في ظل دخول التكنولوجيا إلى الإنتاج واستعمارها لحياة البشر، عوضاً عن أن تكون الآلة وسيلةً لتطويع قوى الطبيعة وتسيخرها في تغطية الحاجات المادية للمجتعمات. فعجلة التطور التكنولوجي الحديثة التي تديرها المنظومة الرأسمالية لم تؤدي إلّا إلى تعميق عبودية الطبقة العاملة، وبالتالي تفتيت مضمونها الطبقي، وترسيخ وعي تقني لديها.

التحولات الاقتصادية وقوى الإنتاج

قلنا سابقاً أن البروليتاري هو العامل الذي يعيش من بيع قوة عمله للبرجوازي والذي يملك وسائل الإنتاج، بصرف النظر عن طبيعة قوة العمل سواءً كانت جسدية أم ذهنية، لكن الحديث الآن لم يعد ممكناً عن شكل واحد لتصريف قوة العمل في سياق العملية الإنتاجية، أي على المستوى التقاني لأدوات الإنتاج (الذي يفترض وعياً تقنياً تفصيلياً)، فتثوير وسائل الإنتاج باستمرار وبوتيرة متسارعة قاد بالضرورة إلى ظهور صيغ مختلفة لاستغلال القوة البشرية اللازمة بهدف الحفاظ على دورات رأس المال القائمة على معادلة (نقد-سلعة-نقد) في الإنتاج والتبادل.

ومن ذلك المنطلق بصفةٍ خاصة، طرأت تحولات بنيوية على معادلة رأس المال العامة لتتماهى مع المتغيرات التي فرضتها وسائل الإنتاج الحديثة وتطورها المطّرد، حيث أصبحت المعادلة تتمثل بشكل (نقد-نقد-نقد) إشارةً إلى رأس المال المالي في اقتصاد السوق المعولم، فقد فرضت تلك التغيرات بالضرورة تحولاً هيكلياً في بنية الطبقة العاملة (أو “القوى” العاملة بأجر كتوصيف، بحكم أن الطبقة العاملة لم يعد يربطها إنتمائها الطبقي ببعضها وبالإنتاج في ظل دخول التكنولوجيا، ونعني في ذلك الدول المحيطية بالتحديد). ولا نقترح هنا بالتأكيد فناء الطبقة العاملة كطبقة، أو تلاشي الحدود الفاصلة التي تضعها في مصاف هرمية التقسيم الاجتماعي، بل نعني أن الطبقة العاملة قد اتسعت مكوناتها وامتدت لتشمل فئات اجتماعية اُخرى متضررة إلى جانبها.

أمّا القوى الاجتماعية المنتجة في دول الأطراف فلديها ديناميتها الخاصة والتي تفصلها فوارق جوهرية عن قوى الطبقة العاملة في المراكز الصناعية، فتفكيك أنماط الإنتاج الذي أشرنا إليه من قبل لم يكن رديفاً لمفهوم تدمير أنماط الإنتاج وتصفيتها تماماً، بمعنى أن الرأسمالية العربية تعمل على إعادة إنتاج الأنماط السابقة عليها عبر تفكيكها وإعادة تركيبها ولا تنهيها بشكلٍ حاسم، ولكن عملية إعادة الإنتاج لا تتم بصورة مباشرة، فيما يكرّس الاقتتالات الفئوية وتبعية المجتمعات وتضخم جيش العاطلين عن العمل واتساع حلقة الفقر والتهميش والتشرذم، نقصد أن آلية إعادة إنتاج الرأسمالية العربية التابعة لذاتها لا تتم في الداخل وبدلالة ذاتها، بل تتم في المراكز ووفق منطق الهيمنة المتبع، بيد أن الكادح في الأطراف يعيش معاناة البروليتاري لكن ربما بتجريده من التسمية المباشرة، فهو نوع آخر من البروليتاريا برز تماشياً في ذلك مع الثورة التكنولوجية وسيطرة رأس المال المالي واندماجه العضوي مع رأس المال الصناعي.

ولئن كانت ثلة من العوامل المتداخلة في ظل تبعية دول المنطقة، قد خلقت ظروفاً مهّدت أرضية تبلتر الطبقة البرجوازية الصغرى التي عُرفت بما يسمّى بالـ “طبقة الوسطى” بين مختلف الأوساط الاجتماعية ومثقفي السلطة، ونعني بالتبلتر هنا انزلاقها أكثر نحو طبقة البروليتاريا، فإن النموذج الاجتماعي المطروح في سياق التحولات الاقتصادية الأساسي يفترض بطبيعة الحال تضمين فئات جديدة إلى جانب مفهوم البروليتاريا تشمل معها موظفي المؤسسات المالية والمصرفية والبنوك، موظفي الشركات من حملة الشهادات الأكاديمية والمهنية، الفنيّين، العاملين في المستشفيات والفنادق والمطاعم السياحية، أصحاب المشاريع الخدماتية، التجار الصغار، المعلمين، المهندسين العاملين في شركات القطاع الخاص.. إلخ، كعينة من تلك الفئات المتبلترة، والتي كانت تُعرف تداولاً باسم “الطبقة الوسطى” وتعد – تجاوزاً – الدعامة الحيوية لاستقرار المجتمع!!

ملاحظة: هنالك خلاف حول قضية تحديد القطاعات الخدماتية فيما إذا كانت تنتج فائضاً للقيمة أم لا، وذلك الخلاف ينبع من مسألة تعريف السلعة في الأشكال الاجتماعية المتعددة للإنتاج (الصناعي، الزراعي، والخدماتي)، فالسلعة وفقاً لكارل ماركس في رأس المال “هي، في المقام الأول، موضوع خارجي، شيء يلبّي، بخصائصه، حاجات بشرية من هذا النوع أو ذاك. ولا تغيّر طبيعة هذه الحاجات من الأمر شيئاً، سواءً صدرت عن المعدة أم عن الخيال”، حيث أن السلعة المنتَجة في القطاعات الصناعية تتمظهر على شكل مادة، بمعنى “شيء” ملموس يلبّي أحد الحاجات تلك، أما القطاع الخدماتي فينتج العاملون فيه سلعاً على شكل “خدمة” تلبّي حاجاتٍ مختلفة، والفرق أن عملية الاستهلاك ليست مؤجلة على مستوى قطاع الخدمات، فالإنتاج والاستهلاك للسلعة يتمّان في وقتٍ واحد دون الخوض في دوامة السوق وتجاذبات العرض والطلب، على الرغم من أن المنشأة التي تقدّم الخدمات ذاتها قد تدخل في منافسة قائمة على قانون العرض والطلب مع قطاعات خدمية اُخرى.

لكنَّ ذلك لا ينفي فكرة أن العاملين في المقاهي العامة، أو المطاعم، أو ربما الفنادق – على سبيل المثال لا الحصر – لا ينتجون فائضاً للقيمة يمكن استثماره من قِبَل البرجوازي الذي يملك رأس المال ويقوم بتشغيله في مشروعٍ من ذلك القبيل. وعلى سبيل الافتراض، إن عامل النظافة الذي يؤدي عمله بواقع أن حقل العمل لا يقع داخل منشأة إنتاجية، أو صناعية بالمعنى الأدق، فهو ينفق جهداً عضلياً يتقاضى أجراً إزاءه من قِبَل الدولة، ولكن هذه الصيغة من الطرح تقف في مواجهة سؤال سابق: ما هي كلفة القيمة التي يضيفها العامل إلى قيمة ما يقدمه من خدمات عامة؟ فالخدمة التي ترتدي صورة سلعة استعراضية، تؤثر بشكل أو بآخر على مجرى عملية الإنتاج، فعلى سبيل الافتراض، لو أن مستثمراً أراد أن يوظف رأسماله في مشروعٍ ما، يتحكم هنا عاملين في ذلك، وهما مكان الاستثمار (عاصمة، محافظة، قرية.. إلخ)، ودرجة نظافته!

مقاربات من الداخل

توزيع القوى العاملة بأجر في الأردن بحسب الأرقام التقريبية لدائرة الإحصاءات العامة:

 قطاع الصناعة والمناجم 19%.

 قطاع النقل والتخزين 16%.

 قطاع الخدمات والتجارة 17%.

 قطاع التعليم 12%.

 قطاع تكنولوجيا المعلومات والاتصالات 2%.

 المؤسسات الحكومية والقطاع العسكري 24%.

تتضخم مساحة التقاطع بين الطبقات متوسطة الدخل، والتي تتعرض إلى تآكل مستمر نظراً لارتفاع التكاليف الكليّة في تأمين أساسيات المعيشة واحتدام المزاحمة في سوق العمل المنضوي تحت مظلة العرض والطلب، وبين الطبقات الأكثر فقراً، حيث تنزع بتراكم تاريخي واضح إلى أن تصبح طبقة بروليتارية مستلَبة لصالح العمل مع تطور وسائل الإنتاج، لتنخرط تبعاً لذلك في علاقات الإنتاج القائمة. وإلى هذا الحد، يصبح القول أن الثورة العالمية القادمة لعمّال العالم وكادحيه وفقرائه ومثقفيه العضويين ستكون أكثر شمولاً وجذريةً من قبل، أقرب إلى الواقع وأبعد ما يمكن عن الطوباوية.. فلنعلنها ثورة حمراء ضد عالم العبودية الجديدة، ثورة على الفقر والاستلاب، على الجوع والذل واغتراب الإنسان عن عمله، وعلى الملكية الخاصة معاً.