من ناريخ الفكر الاقتصادي - التحليل الاشتراكي للأزمات الاقتصادية الدورية في المجتمعات الرأسمالية - نظرية بول سويزي وبول باران


عدنان عباس علي
2014 / 4 / 25 - 20:07     


من تاريخ الفكر الاقتصادي
التحليل الاشتراكي للأزمات الاقتصادية الدورية
في المجتمعات الرأسمالية

الحلقة الرابعة: نظرية بول سويزي وبول باران


كان بول سويزي (Paul Marlor Sweezy) في طليعة المفكرين الماركسيين، الذين حاولوا الاستعانة بنظرية نقص الاستهلاك في تحليل أسباب تعرض المجتمعات الرأسمالية للازمات الاقتصادية الدورية. ففي مؤلفه الشهير "نظرية التطور الرأسمالي" (The Theory of Capitalist Development)، حاول هذا الاقتصادي الأمريكي في عام 1942، أن يضفي بعض التعديلات على نظرية ماركس في أسباب الأزمة، وسعى إلى تحصين هذه النظرية ضد الانتقادات الكثيرة التي تعرضت لها في حقب التاريخ المختلفة سواء من مفكرين ماركسيين أو غير ماركسيين. إلا أن سويزي كان، إلى هذا التاريخ، لا يزال متأثراً بالفكرة العامة السائدة في نظريات نقص الاستهلاك المختلفة، وهي أن الطلب على البضائع الاستهلاكية هو الذي يوجه (regulate) جهاز الإنتاج.

وبول سويزي من مواليد عام 1910. وكان قد انتسب، إلى جامعة هارفرد لدارسة الاقتصاد؛ فتخرج منها عام 1931، وسافر في العام 1932، إلى بريطانيا لمواصلة دراسة الاقتصاد في الجامعة البريطانية المرموقة Economics London School of، وفي لندن احتك سويزي بالماركسية فاعتنقها حتى وفاته عام 2004. وبعد رجوعه إلى الولايات المتحدة، واصل سويزي دراسته العليا، فحصل على شهادة الدكتوراه في العلوم الاقتصادية عام 1937من جامعة هارفرد. من ثم عمل أستاذاً للاقتصاد في جامعة هارفرد. وكان من أشهر طلبته هاهنا روبرت هايلبرونير (Robert Heilbroner) وبول سامولسون (Paul A. Samuelson). في عام 1942، تخلى سويزي عن مهنة التدريس، وآثر أن يكون جندياً في الحرب على الفاشية الأوربية.

في عام 1949، وفي أوج حملة مكارثي المسعورة ضد الفكر التقدمي، شارك سويزي في إصدار المجلة اليسارية المرموقة Monthly Review، هذه المجلة التي سيتولى إصدارها بمفرده في فيما بعد. في السنوات التالية، عمل سويزي أستاذاً زائراً في جامعات كورنيل وستانفورد ومانشستر.

وانطلاقاً من اعتقاده بأن الطلب على البضائع الاستهلاكية يوجه جهاز الإنتاج، افترض سويزي أن ثمة علاقة أفقية بين القطاع المنتج للسلع الرأسمالية والقطاع المنتج للسلع الاستهلاكية، وأن التغيرات في مستوى الإنتاج في قطاع السلع الاستثمارية تؤدي عموماً إلى تغيرات مماثلة في الطاقة الإنتاجية السائدة في القطاع المنتج للبضائع الاستهلاكية. أما الطلب الفعال، فإنه يتكون من طلب الرأسماليين على السلع الاستهلاكية والإنفاق الاستثماري الكلي الذي يشتمل، من ناحيته، على استثمار في الآلات والمعدات (رأس المال الثابت) وعلى استثمار في الأيدي العاملة (رأس المال المتغير). وفي سياق تحليله لعملية الإنتاج في المجتمعات الرأسمالية، يرى سويزي أن مكننة الإنتاج، ستتعمق باستمرار في المجتمعات الرأسمالية، وأن كمية رأس المال الضرورية لتشغيل الأيدي العاملة، سترتفع هي الأخرى بنحو دءوب. وانطلاقاً من هذا التوقع، يستنتج سويزي أن الإنفاق الاستثماري في الآلات والمعدات سينمو بمعدلات أكبر من معدلات نمو الأجور. وهكذا، يؤدي الإنفاق المتزايد في الآلات والمعدات إلى زيادة مماثلة في حجم الطاقة الإنتاجية السائدة في قطاع السلع الاستهلاكية. على صعيد آخر، وبما أن الاستثمار المخصص لتشغيل الأيدي العاملة، يزداد بمعدلات هي دون المعدلات، التي تنمو بها الطاقة الإنتاجية الدارجة في قطاع السلع الاستهلاكية، لذا لن يكون استهلاك الطبقة العاملة بالمقدار الذي يكفي لتصريف البضائع التي يمكن للطاقة الإنتاجية المتنامية أن تنتجها.

ومن تحليله هذا، يستنتج سويزي أن المجتمعات الرأسمالية ستظل تعاني من فجوة بين العرض والطلب، أي ستظل تعاني من نقص في الطلب الاستهلاكي. وليس ثمة شك في أنه بمقدور الرأسماليين ردم هذه الفجوة، وذلك من خلال زيادة إنفاقهم على السلع الاستهلاكية. إلا أن هذا الاحتمال، غير وارد، كما يرى سويزي، وذلك لأن الرأسماليين لا يميلون إلى إنفاق رؤوس أموالهم على السلع الاستهلاكية، بل يفضلون استثمار جزء متزايد من أرباحهم، تلبية لمتطلبات عملية التطور الرأسمالية المتزايدة سرعة. وغني عن البيان، أن تطوراً من هذا القبيل، يعني أن إنفاقهم الاستهلاكي سيكون دون المستوى الضروري لردم الفجوة بين العرض والطلب وأدنى من المقدار المطلوب لتشغيل الطاقة الإنتاجية المتزايدة اتساعاً.

ومن تحليله لهذا التطور، يستنتج سويزي أن الاستهلاك سيميل في المجتمعات الرأسمالية للنمو بمعدلات أدنى من المعدلات التي ينمو بها القطاع المنتج للسلع الاستهلاكية، وأن هذا التباين في معدلات النمو لا بد أن يتسبب في انتكاسة عملية الإنتاج الموسع واندلاع حالة ركود اقتصادي بحسب أكثر الاحتمالات توقعاً.

ومع أن سويزي كان قد وعد بصياغة نظرية تقوم على فكرة نقص الاستهلاك في تحليلها لأسباب الأزمة، إلا أنه لم يتخلص من الخطأ الذي عانت منه نظريات نقص الاستهلاك التقليدية، فهو أيضاً يفترض، كما لاحظنا، أن التوسع في إنتاج البضائع الرأسمالية يجب أن يؤدي إلى توسع في الطاقة الإنتاجية السائدة في قطاع السلع الاستهلاكية. كما يتجاهل سويزي، إمكانية استخدام البضائع الرأسمالية في القطاع المنتج للسلع الإنتاجية نفسه. فكما نوهنا، في سياق عرضنا لنظرية روزا لوكسمبورغ، فإن بالإمكان أن تتم عملية إعادة الإنتاج الموسع وتستمر من دون أن تتعرض للانتكاسة، لا سيما إذا ما ارتفعت كثافة رأس المال، وإذا ما تحقق النمو المتوازن والمتناسب لفروع الإنتاج المختلفة.

وكيفما اتفق، فقد قام سويزي بمحاولة أخرى لتحليل عملية الإنتاج الموسع في المجتمعات الرأسمالية بعد حوالي عشرين عاماً. في هذه المرة مع بول باران (Paul Baran)، أعني في الكتاب الذي شارك في تأليفه باران وسويزي، وتولى بول سويزي نشره في عام 1966 بعنوان "رأس المال الاحتكاري" (Monopoly Capital).

وبول باران اقتصادي ماركسي، ولد في روسيا عام 1910 وعاش في أوكرانيا الحالية، بعدما انتهى من دراسة الاقتصاد في جامعة موسكو. بعد ذلك انتقل باران إلى ألمانيا، للحصول على شهادة الدكتوراه في الاقتصاد. وتعرف باران هنا على الاقتصادي الماركسي رودولف هلفردنغ. وبعد انتهائه من دراسته الجامعية العليا، وبعدما استولى النازيون على الحكم في ألمانيا، هاجر باران إلى الولايات المتحدة الأمريكية عام 1939. وهناك تعرف على بول سويزي، وعمل أستاذاً للاقتصاد في جامعة ستانفورد. وتوفي عام 1964 في بالو آلتو الأمريكية.

ومن أجل الوقوف على الإضافة التي يقدمها سويزي وباران في كتابهما هذا، ينبغي بنا أن نشير إلى أن سويزي قد تخلى هنا عما ادعاه في مؤلفه "نظرية التطور الرأسمالي"، أعني اعتقاده بأن الرأسمالية تميل إلى توسيع الطاقة الإنتاجية في القطاع المنتج للبضائع الاستهلاكية بمعدلات أعلى من معدلات نمو الطلب الاستهلاكي. ففي مؤلفهما الصادرة ترجمته العربية في القاهرة عام 1971، بعنوان "الرأسمالية الاحتكارية"، يؤكد سويزي وباران، بفعل تأثرهما ليس بماركس فقط، بل وبجون ماينارد كينز وكالسكي أيضاً، أن الرأسمالية الحديثة تميل إلى توسيع الطاقة الإنتاجية في كلا القطاعين، بصورة أسرع من التوسع الحاصل في الطلب الفعال. من هنا، فإنهما يستنتجان، أن الرأسمالية الحديثة - الرأسمالية الاحتكارية - غير قادرة على النمو والتطور بنحو سليم، وأنها ستتخبط في ركود مزمن ومتصاعد مع مرور الزمن.

ولكن، كيف برر سويزي وباران رأيهما هذا؟ إنهما يعتقدان أن نظرية ماركس، كما صاغها في مؤلفه "رأس المال" لم تعد تنطبق على الواقع السائد حالياً في المجتمعات الرأسمالية، فهذه المجتمعات تحولت إلى مجتمعات رأسمالية احتكارية، تختلف طبيعتها عن المجتمعات الرأسمالية التي حاول ماركس تحليلها واكتشاف القوانين الاقتصادية المتحكمة فيها، فجهود ماركس انصبت على تحليل رأسمالية المنافسة التامة أصلاً. حقاً لم يغب عن ذهن ماركس أن الاحتكار كان موجوداً في عصره، وفي الاقتصاد البريطاني بنحو مخصوص، أي أنه كان موجوداً في الاقتصاد، الذي استخلص منه نموذجه النظري، إلا أن ماركس ساير الاقتصاديين الكلاسيك الإنجليز السابقين عليه، ولم يعالج الاحتكار كعنصر جوهري في النظام الرأسمالي. فبحسب تصوراته، كان الاحتكار من مخلفات المرحلة المركانتيلية (مرحلة الرأسمالية التجارية). من هنا، فإنه اعتقد، كما يرى باران وسيويزي، أنه يجب على الباحث أن يعزل الاحتكار ويتجاهله، وذلك حتى يتسنى له النظر، برؤية واضحة، إلى هيكل الرأسمالية واتجاهاتها الأساسية. وانطلاقاً من هذا الأسلوب التحليلي، تكهن ماركس، بحسب ما يقوله باران وسيويزي في الصفحة 14 من مؤلفهما "رأس المال الاحتكاري" بأن النظام الرأسمالي سينهار قبل استنفاذه لجميع طاقاته بوقت طويل، أي سينهار خلال المرحلة التنافسية.

وفي الصفحة 61 من مؤلفهما المذكور، يُعَرف باران وسويزي الرأسمالية الاحتكارية بأنها نظام رأسمالي يشتمل على الشركات المساهمة العملاقة إلى جانب قطاع الشركات الصغرى نسبياً، مؤكدين في هذا السياق على أن الصفة المميزة والقوة المحركة إنما تكمنان في النشاطات الكبيرة التي تقوم بها الشركات العملاقة. فمبادرة الشركات العملاقة لتحقيق أقصى ربح ممكن وتراكم أكبر كمية ممكنة من رأس المال، هي العوامل المنشطة للعملية الاقتصادية من ناحية، وهي القوة التي تجعل هذه العملية عرضة للأزمات الدورية من ناحية أخرى. أما المؤسسات الصغيرة نسبياً، فلا تمتلك القوة اللازمة لمواجهة الشركات العملاقة ولا تستطيع، من جانبها، أن تتخذ مبادرة مستقلة، فهي موجهة، كما يؤكدان في الصفحة 61، من طرف الشركات العملاقة.

وبعدما يُعرف باران وسويزي النظام الرأسمالي الاحتكاري ويبينان خصائصه المميزة، يعكفان على تحليل آلية الأسعار في هذا النظام على أساس أن علاقات السوق هي أساساً، وبصفة جوهرية، علاقات أسعار، وأن الاختلاف الحاسم بين آلية الأسعار في النظام التنافسي والنظام الاحتكاري (الصفحة 62) هو أن المشروع الفردي يكون، في ظل الرأسمالية التنافسية، بمثابة "متلق للسعر"، في حين أن الشركات العملاقة هي "صانعة السعر"، في الرأسمالية الاحتكارية. ويعني القول بأن الشركات الاحتكارية "صانعة للسعر" أن هذه الشركات تقوم فعلاً باختيار الأسعار لمنتجاتها. وكما هو معروف، فإن المنتج الاحتكاري يخفض السعر إلى أن يتساوى لدية الإيراد الحدي مع الكلفة الحدية.

إلا أن نظام الأسعار السائد في المجتمعات الرأسمالية الاحتكارية، ليس نظاماً احتكارياً بالمعنى الدقيق، كما يؤكد باران وسويزي. فبما أن الشركات العملاقة تنتج مختلف السلع، لذا يمكن لنا أن نفترض أن سلع هذه الشركات، تشكل بدائل مناسبة لسلع الشركات الأخرى. وإذا كانت هذه الفرضية تعبر عن الواقع السائد فعلاً، فلن يكون بمستطاع شركة عملاقة أن تحدد، بمفردها، أسعار منتجاتها لتحقيق أقصى الأرباح، بل سيتعين عليها أن تأخذ في الحسبان تأثير ذلك على السياسة السعرية المتبعة في الشركات العملاقة الأخرى، وردود فعل هذه الشركات. ومعنى هذا، هو أن مبيعات الشركة العملاقة لا تتوقف على سعرها فحسب، بل على تلك الأسعار، أيضاً، التي تحددها الشركات العملاقة الأخرى المنافسة لها. في مثل هذه الحالة، سيتعذر على هذه الشركة العملاقة أو تلك، أن تعرف، مسبقاً، ماهية السعر، الذي يصل بأرباحها إلى أقصى حد ممكن.

ولما كان تقدير ردود فعل المنافسين لن يكون صائباً إلا بمحض الصدفة، وذلك لعدم توفر المعلومات التامة والدقيقة لديهم عن الطلب على المنتجات الصناعية ككل وعلى تكاليف هذه المنتجات على وجه الخصوص (الصفحة 67)، لذا تتفق الشركات العملاقة، عادة، على حظر خفض السعر كسلاح مشروع في الحرب الاقتصادية.

إلا أن التخلي عن المنافسة السعرية لا يعني انتهاء جميع أشكال المنافسة، بل هو يعني، فقط، أن هذه المنافسة ستتخذ أشكالاً أخرى، ستتخذ أشكالاً من أهمها النشاطات التي تمارسها الشركات العملاقة بنحو مخصوص، لتخفيض تكاليف الإنتاج، وزيادة حجم فائض القيمة.

ومن هذه المقدمات يستنتج باران وسويزي، في الصفحة 77، أن "الأسعار في ظل احتكار القلة تميل إلى التماسك في جانب الهبوط أكثر من جانب الصعود. وتؤدي هذه الحقيقة إلى ميل كبير للصعود في المستوى العام للأسعار في الاقتصاد الرأسمالي الاحتكاري". وهكذا، وبحسب تصورهما (راجع الصفحة 79)، يوجد حافز إيجابي قوي لدى الشركات المساهمة الكبيرة، العاملة في صناعة تحتكرها القلة، ليس فقط للاتجاه باستمرار إلى خفض التكاليف، بل وإلى تنفيذ هذا الخفض بأكبر سرعة ممكنة للتفوق على الشركات المنافسة.

إن بقاء أسعار البضائع المنتجة من قبل الشركات الاحتكارية بلا تغيير ذي بال، وخفض تكاليف إنتاج هذه البضائع باستمرار، يعني، من ناحية، أن الشركات العملاقة، باتت تحصل على نصيب متزايد من ثمار الإنتاجية المتنامية، أي باتت تحصل على أرباح أكثر، ومن ناحية أخرى، أن معدلات الربحية قد أخذت تتزايد أيضاً. علماً أن ارتفاع معدل الربحية لا ينطوي على زيادة الأرباح الإجمالية بصفة مطلقة فحسب، إنما كحصة من الناتج القومي أيضاً. وهنا يأتي باران وسويزي إلى بيت القصيد من دراستهما، ألا وهو تفنيد نظرية ماركس في ميل معدل الربحية للانخفاض في المجتمعات الرأسمالية. إذ أنهما يقولان في الصفحة 70: "وإذا افترضنا ... أن الأرباح الإجمالية تعادل الفائض الاقتصادي في المجتمع، لأمكن أن نقرر كقانون للرأسمالية الاحتكارية أن الفائض يميل للارتفاع من حيث حجمه المطلق ومن حيث نسبته إلى الناتج الكلي معاً، كلما تطور النظام".

وهما هنا على بينة من أن قانونهما هذا على طرفي نقيض مع دعوى ماركس بأن معدل الربحية يميل للانخفاض. وفي هذا المعنى، فإنهما يقولان، في الصفحة 80: إن المسائل الجوهرية للغاية، المتعلقة بالتغير الهيكلي من رأسمالية تنافسية إلى احتكارية، تجد تفسيرها النظري في ميل معدل الربحية للارتفاع وليس للانخفاض.

وقانون "ميل الفائض للارتفاع" على أهمية كبيرة في نظرية سويزي وباران في نقص الاستهلاك وفي تفسير أسباب الأزمة في المجتمعات الرأسمالية الاحتكارية. فإذا كان الفائض يميل للارتفاع من حيث حجمه المطلق ومن حيث نسبته إلى الناتج الكلي أيضاً، وذلك بفضل السياسية السعرية وسياسة الكلفة التي تنتهجها الشركات الاحتكارية، فالسؤال الذي يطرح نفسه عندئذ والذي يقرر مدى إمكانية سير عملية إعادة الإنتاج الموسع بصورة منتظمة ودون تعرضها إلى انتكاسات دورية، هو هل سيكون بالإمكان امتصاص أو استخدام الفائض؟ في هذا السياق يقرر باران وسويزي أن ثمة ثلاث طرق لامتصاص الفائض:

استهلاكه.
استثماره.
تبديده.

بخصوص إمكانية استهلاك الفائض يتوقع باران وسويزي أن استهلاك الطبقة الرأسمالية سيرتفع بحسب أكثر الاحتمالات توقعاً، إلا أن هذا الارتفاع لن يكون بمقدار الارتفاع الحاصل في الفائض، إنما على العكس من ذلك، إنه، أي استهلاك الطبقة الرأسمالية، سيميل للانخفاض مقارنة بالفائض المتحقق، وستسجل حصته من الدخل الكلي تراجعاً أكيداً. وبناءَ على وجهة نظرهما هذه، فليس الفائض فقط هو الذي سيرتفع، بل ونسبة الفائض المخصص للاستثمار إلى الدخل القومي، أيضاً.

وفي محاولتهما للإجابة عما إذا كان النظام الاحتكاري يهيئ، عادة، منافذ استثمارية تكفي لامتصاص هذا الفائض المتزايد من حيث حجمه المطلق ومن حيث نسبته إلى الدخل الكلي، يقترب باران وسويزي بنحو كبير من وجهة نظر روزا لوكسمبورغ.

فهما أيضاَ يعتقدان أن احتمال استثمار الفائض أمر ممكن من الناحية النظرية فقط، أي أنه أمر غير ممكن التحقق من الناحية العملية، والفعلية. فحصة متزايدة من الاستثمار تعني، بحسب وجهة نظرهما (راجع الصفحة 90 من مؤلفهما "رأس المال الاحتكاري")، أن كمية متزايدة من السلع الإنتاجية ستخصص، مستقبلاً، لغرض واحد وهو إنتاج كمية أكبر فأكبر من السلع الإنتاجية. كما يعني تزايد حصة الاستثمار أن نسبة الاستهلاك إلى الإنتاج ستتراجع باستمرار. ويرى باران وسيويزي أن تطوراً من هذا القبيل لم يحدث في يوم من الأيام ولا يُحتمل أن يحدث في العالم الحقيقي. فصانعو السلع الإنتاجية لا يكترثون بأن يهيئ بعضهم للبعض الآخر سوقاً تتوسع إلى ما لا نهاية، لا لشيء إلا من أجل تصريف إنتاج كل واحد منهم؛ من هنا، فإنه من قبيل الوهم تخيل أن الشركات العملاقة - الحذرة والمدبرة - تخطط وتنفذ نوعاً من برامج توسع جوفاء.

إن استبعاد باران وسويزي للتنمية المتزايدة السرعة باعتبارها إستراتيجية تنموية غير واقعية، قادهما إلى استخلاص نتيجة مفادها أن طاقة الاقتصاد على الإنتاج ستنمو بصورة متصاعدة السرعة وأن الطلب الفعال لن يكون بالمستوى الضروري لتشغيل الطاقة الإنتاجية المتاحة. وغني عن البيان أن الطاقة الإنتاجية المتنامية بسرعة كبيرة، لن تشجع المصانع على استثمار المزيد من رؤوس الأموال. وهكذا، وعلى خلفية تراجع الاستثمار، سيتراجع، إن عاجلاً أو آجلاً، مستوى الدخل القومي ودرجة تشغيل الأيدي العاملة أيضاً. وهكذا، وتأسيساً على تراجع هذه القيم، سيتراجع الفائض نفسه، أيضاً؛ أي وبتعبير آخر، أن الرأسمالية الاحتكارية تخضع لقيود محددة ذاتياً، وأن قوانينها الذاتية تقودها إلى هبوط اقتصادي أو إلى بداية تراجع وكساد مزمن.

وبهذا المعنى، فإن سبب الانتكاسة لا يكمن في ميل معدل الربحية للانخفاض، كما ادعى ذلك ماركس، فهذا المعدل يميل، في ظل الرأسمالية الاحتكارية – كما يؤكد باران وسويزي – إلى الارتفاع. وعلى خلفية هذا التصور، يستنتج باران وسويزي، أن سبب الانتكاسة يعود، أولاً وأخيراً، إلى الهيكل الاحتكاري السائد في الرأسمالية المعاصرة وما يتولد عن هذا الهيكل من آلية ذاتية تميل إلى توليد مقادير متزايدة بانتظام من فائض يسعى للاستثمار، لكنها تفشل في توليد زيادة مماثلة في حجم المنافذ الاستثمارية. وبناءً على هذا وذاك، فالرأسمالية الاحتكارية بحاجة ماسة إلى منافذ أجنبية تمكنها من امتصاص الفائض ومن تحويل فائض الإنتاج إلى فائض قيمة نقدي، إي إلى ربح نقدي، وإلا فإن مصيرها الانتكاسة والتردي في كساد دائم.

ولكن لماذا لم يسقط النظام الرأسمالي الاحتكاري؟ أو بعبارة أخرى، لماذا لم تتعمق الأزمة حتى الآن، بنحو يؤدي إلى سقوط النظام تلقائياً؟ يجيب باران وسويزي على هذا السؤال، بقول مفاده أن هناك قوى تعمل في اتجاه مضاد، ولولاها لسقط النظام تلقائياً. وتتكون هذه القوى من النشاطات التسويقية (الإعلان والدعاية للبضائع) ومحاربة الادخار وبرامج تشجيع الاستهلاك، وأخيراً، وليس آخراً، الإنفاق الحكومي.

لقد كانت نظرية باران وسويزي في نقص الاستهلاك مدار دراسات كثيرة ونقاشات مسهبة دارت ولا تزال تدور، بين الماركسيين المعاصرين. وركزت الأطراف المختلفة نقدها على إهمال باران وسويزي توضيح الأسباب، التي تدفع الرأسماليين إلى توسيع الطاقة الإنتاجية، برغم أن الطلب الفعال يعجز عن تشغيل الطاقة الإنتاجية المتاحة بالصورة القصوى أو بدرجة تشغيل عالية نسبياً.

إلا أن هذا النقد لا يصيب نظرية باران وسويزي فقط، إنما يمكن أن يوجه إلى مجمل النظريات الماركسية في نقص الاستهلاك. فهذه النظرية لم تتمكن لحد الآن من توضيح محددات معدل التراكم والاستثمار في إطار نظرية متكاملة، وما انفكت غالبيتها – مثلها في ذلك مثل النظرية الكينزية – تعتبر أن توقعات الرأسماليين بشأن الأرباح، هي المحدد الأساسي لمعدل التراكم والاستثمار.
د. عدنان عباس علي
أستاذ جامعي من العراق