محاكمة ميخائيل كورباجيف ..... !!!


علي الأسدي
2014 / 4 / 23 - 01:01     

تقدم خمسة من أعضاء مجلس النواب الروسي ( الدوما) في عريضة رفعوها إلى المدعي العام يوري تشايكا أن تقر النيابة العامة بعدم شرعية حل الاتحاد السوفيتي وتحاسب المسؤولين عن تفكيك الاتحاد بمن فيهم آخر رئيس للاتحاد السوفياتي ميخائيل غورباجيف. بدا لي للوهلة الأولى ان الخبر ملفقا لولا تحققي من مصدر نشره الموثوق صحيفة البرافدا الروسية وكنت علقت حينها على الخبر " صح النوم ". لكن الحكمة تقول " أن يحدث متأخرا أفضل كثيرا من أن لا يحدث ابدا." (1)

وبحسب بيان اعضاء مجلس الدوما الذين قدموا الطلب فان السيد كورباجيف لا يتمتع بأي حصانة ضد المحاكمة ولأجل ذلك فهم يعتقدون ان جريمة تفكك الاتحاد السوفييتي يجب النظر فيها دون تأخير. وبين أحد أعضاء المجموعة افغيني فيودوروف الأسس القانونية التي بموجبها ستجري مقاضاة السيد كورباجيف. وقد أرسلت البيانات الخاصة بالقضية الى الجهات التحقيقية كما جاء في الخبر.

ووضح فيودوروف ان السيد كورباجيف قد استحدث اثناء وجوده على رأس السلطة السوفييتية ادارة غير قانونية وهي " مجلس الدولة " بهدف انهاء الاتحاد السوفييتي الذي كانت أولى قرارته الغاء الحكومة السوفييتية وطرد عدة جمهوريات من الاتحاد السوفييتي. كما تعمد القضاء على المؤسسات التي تحمي الدولة وفي مقدمتها مؤسسة كي جي بي حتى لا تتدخل في تصفية الاتحاد السوفييتي.

وبين فيدوروف أيضا لقد ارتكبت جرائم كبرى ضد الدولة ولا أحد يشكك في ذلك ونسعى الى فتح التحقيق فيها ، وقال : اذا تمت سرقة كيس من البطاطا فان تحقيقا سيجري في الأمر فلماذا لم يجر التحقيق في جريمة انهاء الدولة السوفييتية وهدر أموالها..؟؟ (2)


الأكثر مدعاة للدهشة في الخبر ان السيد ميخائيل كورباجيف الذي ما زال حيا والذي في عهده تم تفكيك الاتحاد السوفييتي قد أعلن بعد سماعه الخبر " أنه يرغب في مساعدة النيابة العامة على كشف حقيقة ما حدث للاتحاد السوفياتي دون إجراء أي تحقيق. وأنه يرى ضرورة أن تقرر النيابة العامة إصدار الحكم بالأشغال الشاقة على من وقعوا اتفاقية حل الاتحاد السوفياتي وعلى جميع أعضاء الدوما الذين صادقوا على هذه الاتفاقية " كما جاء في الصحيفة الروسية ( روسيسكا غازيتا ).

واذا كان كورباشوف جادا حقا ( لا مستخفا) في استعداده لكشف حقيقة ما حدث فسيتعرف العالم على حقيقة ما جرى وفيما اذا كان تفكك الاتحاد السوفييتي قد تم نتيجة اتفاق بينه وبين الرئيس الأمريكي رونالد ريغن الذي بناء عليه تم حل حلف وارشو وتخلي دوله عن النظام الاشتراكي. وهي فرصة قد لا تسنح له ثانية للافصاح عن ملابسات ما يعتبره اعضاء مجلس النواب بالخيانة. لكن هل ستكون له الشجاعة الكافية لقول الحقيقة كاملة التي مازالت طي السرية التامة علما بأن شريكه الوحيد والشاهد الوحيد لم يعد موجودا ليقدم شهادته. لكن الحقيقة وان غابت بعض الوقت لكنها ستظهر يوما بالتاكيد.

مبادرة نواب مجلس الدوما اشارة واضحة على وجود سياسيين روس غير مقتنعين بالنهاية الفوضوية للدولة السوفييتية ولا بالأسباب التي سيقت والتي بناء عليها تفكك الاتحاد السوفييتي. ولو أخذ الأمر بجدية كاملة فينبغي تشكيل محكمة على غرار محكمة نورينبرغ التي تكفلت بمحاكمة مجرمي الحرب النازيين بعد الحرب العالمية الثانية.

ملاحقة المسئولين الذي شاركوا مباشرة أو غير مباشرة في الغاء الاشتراكية وتفكيك دولها والتكتم على الدور الأمريكي في كل ما حدث عملية لن تمر بسهولة ، فهناك ممن لهم مصلحة في اغلاق هذا الملف وابقائه مغلقا الى الأبد. وبالنسبة لهذا البعض الذي يتبوأ مواقع سياسية وادارية مهمة في الدولة الروسية هو قضية حياة أو موت وسيبذلون أي جهد لمنع الحقيقة من الظهور الى الرأي العام.

فالشكوك حول دور الولايات المتحدة في الغاء النظام الاشتراكي استمر تداولها منذ الاجتماع الأول بين ميخائيل كورباجيف والرئيس الأمريكي رونالد ريغن. وبالرجوع الى أحداث الساعات الأولى من محاولة الانقلاب الفاشلة ضد كورباجيف عام 1991 تبين حجم الحرص الذي ابدته الادارة الأمريكية على حماية والابقاء عليه على رأس الحزب والدولة السوفييتية قبل حلها.

فقد لعب راديو التحرير ( ليبرتي ) خاصة اضافة الى راديو أوربا الحرة دورا محوريا في افشال محاولة الانقلاب حيث أصبح بثه قناة الاتصال الوحيدة بين يلتسين وكورباجيف المحاصر حينها في منتجع شبه جزيرة القرم حيث كان يقضي اجازته بعد ان قطعت عنه الاتصالات التلفونية تماما. وتعبيرا عن الامتنان لدور ردايو ليبرتي اصدر الرئيس يلتسين قرارا بالسماح لادارة الراديو بفتح مقر لها للبث من موسكو مباشرة.(3)


وبعد عودة كورباجيف وفشل الانقلاب اصبح كلا من راديو ليبرتي وأوربا الحرة يعملان يدا بيد مع الغلاسنوست واوقفت عملية التشويش على البث التي كانت جارية خلال فترة ما قبل مجيئ كورباجيف للسلطة في موسكو.


الرئيس الأمريكي رونالد ريغان أسوة بالرؤساء الأمريكيين السابقين باشر عهده بتكثيف سياسة احتواء الشيوعية ومحاصرة الاتحاد السوفييتي. كان ذلك واضحا خلال ما عرف باعلان ريغن ( Reagan Doctrine ) الذي صاغ فيه سياسته الخارجية ضد الشيوعية التي عين جورج شولتس وزيرا لها. فقد تكلفت وزارة الخارجية بتقديم الدعم المالي واللوجستي للقوى المعارضة للنظام السوفييتي والاطاحة بالحكومات الموالية له في دول العالم الثالث.

وقد توجه الرئيس ريغان باعلانه ذاك في شهر شباط عام 1985 عبر خطابه الموجه الى الأمريكيين عن حالة الاتحاد قال فيه : (4)


" يجب علينا ان لا نخيب آمال أولئك الذين يخاطرون بحياتهم في كل القارات من أفغانستان الى نيغاراغوا من أجل دحر العدوان السوفييتي. دعم المناضلين من أجل الحرية هو دفاع عن النفس."

وفي كلمة لوزير خارجيته في 22شباط 1985 بنادي سان فرانسيكو للأمم الحرة قال فيها : " ان هناك موجة من الثورات الديمقراطية تجتاح العالم. فلسنين طويلة يتصرف الاتحاد السوفييتي ومن على شاكلته دون حرج في دعم النشاطات التي تنشر الديكتاتوريات الشيوعية. الحرب من أجل التحرر الوطني اعتبرت كمبرر للاطاحة بأي حكومة غير شيوعية باسم الأممية الاشتراكية."

واضاف : " وبحسب اعلان " بريجنيف دوكترين " ان أي انتصار للشيوعية لا تراجع عنه وبحسب ادعائهم : " ان ماهو عائد لي هو لي ، وماهو لك قابل للقضم ." بزيادة حدة الهجوم على النظام الاشتراكي وبزيادة حدة الهجوم على الاتحاد السوفييتي من خلال زيادة الدعم المالي والتدريب للمجاهدين في أفغانستان ونيغاراغوا وكمبوديا وموزامبيق وأنغولا وكل مكان سنكبد الاتحاد السوفييتي اكبر ما يمكن من الخسائر البشرية."

بتاريخ 10-3- 1985 توفي السكرتير العام للاتحاد السوفييتي شيرننكو ، ومع ان خليفته لم يكن قد اعلن عنه فان عددا من القادة الغربيين بما فيهم السيدة مارغريت تاتجر رئيسة الحكومة البريطانية كانوا يتمنون اختيار المجدد الأحدث عمرا ميخائيل كورباجيف رئيسا جديدا للاتحاد السوفييتي. (5)

عندما ذهب ريغن للنوم في تلك الليلة لم يعرف ان العلاقات بين بلاده والسوفييت ستأخذ منحا دراماتيكيا نحو الأفضل. كان اختيار كورباجيف حدثا وخبرا عاصفا للقادة الغربيين. واذا كانوا على علم فلهم كل الحق ليفرحوا ويتبادلوا الانخاب.


الرئيس الأمريكي الأربعين دونالد ريغن كتب في يومياته العبارة التالية : " في يوم 11-3-1985 أوقظت من نومي عند الساعة الرابعة صباحا وأخبرت بموت الرئيس السوفييتي شيرننكو." وفي اليوم التالي كتب في تلك اليوميات ما قاله لزوجته حول الموضوع نفسه : " قررت ان لا أضيع وقتا في محاولة معرفة من سيكون القائد الجديد. كيف استطيع ان أجد أي موقع لي مع الرؤساء الروس اذا كانوا يموتون من حولي.(6)

مالذي يتوقعه ريغن أو غيره من الرؤساء الأمريكيين من أي رئيس سوفييتي ، وما هو في رأيه الرئيس الأصلح للدولة السوفييتية ولهم في الوقت نفسه ، وهل من الممكن أن يوجد مثل هذا الرئيس الذي تخدم سياساته الخارجية مصالح الولايات المتحدة دون الحط من مصالح الدولة السوفييتية في الوقت نفسه...؟

الاجابة على التساؤل ستكون نعم بالتأكيد ، فقد حاول جميعهم باستثناء رئيس واحد للأسف هو ميخائيل كورباجيف ، فأي مراقب محايد يستطيع الحكم بأن الرجل خدم مصالح الولايات المتحدة ، أما مدى خدمته لمصالح الدولة السوفييتية فواضح لكل ذي بصيرة.


لقد كتب السيد جورج شولتس وزير الخارجية الأمريكي في عهد ريغن بعد أول لقاء له بكورباجيف : " لم يتصور ريغن أن موت شيرننكو سيحدث تغييرا مهما في الحرب الباردة ، لقد كان لنا قائدا للاتحاد السوفييتي مختلفا كليا عما اعتدنا عليه في السابق".

أما رئيس وكالة الاستخبارات الأمريكية والصديق المقرب من الرئيس ريغن السيد وليم كيسي فقد قال عن كورباجيف : " أظهر كورباجيف في المائة يوم الأولى من ولايته أنه القائد الأكثر فعالية وشدة منذ نيكيتا خروتشوف." (7)

نفهم من هذا أن المسئولين الأمريكيين لهم مواصفاتهم التي يتمنون ان يجدونها في الشخصية المرشحة للتعامل مع قضاياهم موضوع الاهتمام المشترك واذا تعذر وجود بعض أو كل تلك المواصفات فان ماكنة الدعاية المضادة تباشر عملها كالمعتاد. ففي مفاوضات الجولة الأولى في جنيف بين الرئيسان كورباجيف وريغن حول ازالة الاسلحة النووية لم يتم الاتفاق على أي شيئ سوى " ان الحرب النووية لا يمكن الفوز بها ولن تستخدم ".


ريغن لم يوافق على آراء كورباجيف بشان ازالة السلاح النووي دون فعل ملموس ، فاشترط على كورباجيف الانسحاب من أفغانستان كشرط لتحسين العلاقات بين الدولتين. ومع الوعد الذي قطعه الرئيس كورباجيف للانسحاب من أفغانستان بقي الرئيس ريغن حذرا ولم يوافق على تقديم وعد بالتفاوض على تصفية الأسلحة النووية.


كان الرئيس ريغن على يقين بأن موضوع تصفية السلاح النووي الذي يشغل كورباجيف ربما يكون غطاء لانهاء موضوع الحرب الباردة التي كما كان يعتقد هي التي دفعت السوفييت للتفاوض مع الولايات المتحدة. ففي رأي الرئيس ريغن والأمريكيين والغرب عامة أن الحرب الباردة قادت الاتحاد السوفييتي الى حافة الافلاس وبخاصة مشروع حرب النجوم الذي بدأه الرئيس ريغن حالما وصل الى البيت الأبيض.


ومع تكرار الاجتماعات بين الرئيسيين تمكنا من عقد عدة معاهدات مهمة لتحديد عدد الرؤوس النووية التي يمكن أن يحتفظ بها كل طرف وكذلك في موضوع الصواريخ البعيدة المدى الحاملة للرؤوس النووية وتجميد مشروع حرب النجوم الذي خطط له الرئيس ريغن لدفع الاتحااد السوفييتي الى الغرق في سباق التسلح الباهض التكلفة. الاتفاقات تلك كانت اهم منجز لكل من الاتحاد السوفييتي والولايات المتحدة وللبشرية فهل كانت هي الثمن الذي دفعه كورباجيف لتفكيك الدولة السوفييتية ومنظومتها الاشتراكية وغلق ملف الحركة الشيوعية ولو الى حين..؟؟


والمتابع للسياسة الأمريكية الحالية التي يتبعها الرئيس الأمريكي أوباما تجاه روسيا بتشديدها العقوبات الاقتصادية والسياسية ضدها ردا على الموقف الروسي من أوكرانيا يستطيع أن يلمس دقة التطابق بين هذه السياسة وسياسة الحرب الباردة التي خاضها الرؤساء الأمريكيون ضد الاتحاد السوفييتي حتى آخر يوم من وجوده.


فما تمارسه الادارة الامريكية الحالية في واقع الحال هي نفس سياسة الحرب الباردة السابقة طويلة النفس بأمل اجبار القيادة الروسية على الاستسلام في نهاية المطاف للارادة الأمريكية. فالأمريكيون يعرفون جيدا الحالة الاقتصادية الراهنة لروسيا ، فجل اعتمادها على موارد صادرات النفط والغاز الى الأسواق الأوربية بشرقها وغربها.


الاقتصاد الروسي ليس اقتصادا رأسماليا متكاملا ولا هو اقتصاد اشتراكي متكامل ، انه اقتصاد رأسمالية الدولة الاحتكارية المدارة من قبل الأليغارش المافيوي. وفي هذا يكمن ضعف وهزال الاقتصاد الروسي الحالي. فقدرته على الصمود في ظل العقوبات الاقتصادية محدودة جدا ، غالبية الناس هي التي ستتضرر كثيرا أما مافية ارباب المال فستشد الرحال الى مركز نشاطاتها في لندن. المخرج الوحيد لروسيا الحالية بعدما تخلت عن الاشتراكية هو رأسمالية قائمة على المنافسة واقتصاد السوق لا على المضاربات المالية واستغلال القطاع العام لحماية مصالح القلة من أصحاب البلايين المنهوبة من خزائن الدولة الاشتراكية المغدورة.


الحرب الباردة ضد روسيا لن تكلف الغرب شيئا ، لكنها قد تحدث ضررا بالغا في حياة المواطنين الروس العاديين وفي استعادة روسيا لمكانتها الدولية كقوة عظمى من جديد. ولهذا السبب فالغرب مستعد للسير بسياسته حتى آخر الشوط لاجبار الرئيس بوتين على التراجع. فالأمريكيون انتظروا 46 عاما حتى استسلام الاتحاد السوفييتي على يد كورباجيف وحينها لم يتكلفوا غير بضع بلايين من الدولات بينما ذهب الاتحاد السوفييتي الى الجحيم.
علي الأسدي
مراجع لزيادة الاطلاع :
1- صحيفة البرافدا الروسية 10-4-2014
2- نفس المصدر السابق-
Jason Saltoun-Ebin " reacently Released Letters Between Regan and Gorbachev shed Light on the end of The Cold WAR " Huffington Post. -3
-4 نفس المصدر السابق
-5 نفس المصدر السابق
Ted Galen Carpenter , U.S. Aid to Anti-Communist Rebels:" -
The Reagan Doctrine" and Its Pitfalls "-6
7- نفس المصدر السايق