السياسيون لا يُستشفَون


فؤاد النمري
2014 / 4 / 4 - 20:44     

أعود لأقول مرة أخرى أن الشيوعيين ليسوا سياسيين ـ والقول للينين على ما أذكر ـ وأنا أعني ما أقول .
ما من سياسي من أقصى اليمين إلى أقصى اليسار ـ والشيوعيون ليسوا من السياسيين ـ إلا ويمتهن السياسة من المهد إلى اللحد دون أن يستشفى منها ليس كحرفة يعتاش منها فقط بل ودفاعاً عن الطبقة التي ينتمي إليها بنفس الوقت . يبدأ أحدهم عمله السياسي من أجل تحقيق الحرية والديموقراطية ولذات السبب لا ينتهي، وهو ما يعني أنه فشل في الوصول إلى تحقيق أهدافه . لا يعقل أن يكون جميع السياسيين فاشلين دون استثناء ؛ فالأمر في حقيقته على خلاف ما يظهر، فالحرية والديموقراطية هما علّة السياسي التي لا يستشفى منها، تولد معه ولا تموت معه .
منذ فجر الحضارة في اليونان ظهر في الحياة من وصفوا بالفلاسفة مثل أرسطوـ وهو أكبرهم وأشهرهم ـ وديموقريطوس وأفلاطون وسقراط وأبيقور وفيثاغورس وعشرات غيرهم . التحليل الكلينيكي لهؤلاء الفلاسفة يقول أن وصف هؤلاء بالفلاسفة وتطايفهم بألوان عديدة متداخلة ومتباينة بنفس الوقت كان بسبب إمتلاك كل نهم لرؤاه الخاصة في حقيقة حياة الإنسان على الأرض أو فيما يتوجب أن تكون عليه حياة الإنسان على الأرض . وهو ما يعني بالتحليل الأخير ودون مواربة الشروط المختلفة التي بموجبها تستخدم قوى الإنتاج وأدوات الإنتاج والتي كانت آنذاك في غاية البساطة ولا تتعدى قوى العمل في العبد والمعول وهما وحدهما قوى الإنتاج في زراعة البستنة (Horticulture) وسيلة الإنتاج الوحيدة السائدة في عهود العبودية والموروثة عن عهود الأمومة السحيقة (Matriarchal Ages). حتى فلسفة كل من فيثاغورس وأفلاطون التي بدت عديمة الصلة بالحياة على الأرض لكنها في نهاية الأمر إبنة الحياة على الأرض ومقاربة خاصة لها دون أدنى شك، بمعنى أنها ترى شروطها الخاصة في تشغيل قوى الإنتاج المتاحة، حتى وهي شروط تتعارض مع الشروط الماثلة على الأرض .
قوى الإنتاج تلك، وعلى بدائيتها، خلقت كل هذا الرعيل من الفلاسفة . ومثلهم كان أعضاء مجلس الشيوخ الحاكم في روما القديمة. مئات الديانات التي ظهرت وبادت في الشرق الأوسط، حين كان مركز العالم لبضعة عشر قرناً، إنما توالدت في رحم قوى الإنتاج وشروط تشغيلها . اليهودية والمسيحية والإسلام، وهي الديانات التي عمّرت طويلاً ولم تمّحِ بعد، كانت وثيقة الصلة بشروط الحياة على الأرض ومنعدمة الصلة بأي حياة أخرى وبأية قوى خارج الطبيعة، كما يُزعم لها أن تكون، حيث أنبياء هذه الديانات كانوا بالطبع على جهل تام بشروط الحياة الأخرى المدّعاة غير الحياة على الأرض ولذلك كان تأكيدنا على علمانية هذه الديانات رغم كل تزييف لها على أنها سماوية . السياسات المتعددة المتباينة اليوم، اليسارية واليمينية والمعتدلة، الوطنية والقومية والليبرالية والديموقراطية الاجتماعية والخضراء وغيرها وغيرها إنما هي تنظبمات ذات رؤى خاصة في شروط تشغيل قوى الإنتاج وقد تعددت وسائل الإنتاج بأدوات غير محدودة وتقنيات رفيعة وهو ما جاء بفرق سياسية ذات توجهات كثيرة ومتباينة برؤاها الخاصة بشروط تشغيل أدوات وقوى الإنتاج . ويلاحظ هنا أن كل هذه التنظيمات والأحزاب تتشارك جميعها بشعاري " الحرية " و " الديموقراطية " اللذين لا يعنيان بالتحليل الأخير سوى إنتفاء شروط أكثر أو أقل، أرخى أو أشد، على تشغيل قوى الإنتاج، تلك الشروط التي سماها كارل ماركس "علاقات الإنتاج" . كل الصراع الطبقي، وهو الذي يكتب تاريخ البشرية، إنما يدور حول شروط تشغيل قوى الإنتاج، تلك الشروط التي تقرر شكل حياة الإنسان أبد العصور المختلفة .

عصور التاريخ توالت متمايزة واحدها عما سبقه وما لحقه، فيقال العصر الحجري والعصر الحديدي والعصر النحاسي أو البرونزي متمايزة بالمادة التي تصنع منها أدوات الإنتاج، أو هو التغيّر النوعي لشروط تشغيل قوى الإنتاج، التغير الذي تفرضه أدوات إنتاج جديدة مختلفة نفسها وليس بفعل قوة من خارج العلاقة بين الإنسان وأدوات الإنتاج فيقال عصر العبودية وعصر الإقطاع وعصر الرأسمالية . وها نحن نرى أن تاريخ البشرية متعلق أولاً وأخيراً بأدوات الإنتاج . الإنسان المتطور عبر التاريخ هو نفسه خليقة أدوات الإنتاج أو الأحرى العلاقة الديالكتيكية بين الإنسان وأدوات الإنتاج .

السياسيون جميعهم لديهم علّتهم الخاصة التي يشكون منها أبد العمر، منهم من يدركها ومنهم من لا يدركها، وهي العلّة في تشغيل قٌوى الإنتاج، علة يكابد منها كل سياسي ويكرس كل قواه للشفاء منها دون أن يشفى أبداً لأنه لا يستشفي حق الاستشفاء . قوى الإنتاج بشقيها البشري، قوى عمل البروليتاريا، والمادي أي أدوات الإنتاج، تتطور كل يوم ولذلك تنمو قوى الإنتاج فلا تعود رؤى السياسي حول شروط تشغيل قوى الإنتاج المحددة مسبقاً مناسبة وتغدو بالية قديمة يلزم تطويرها وتبديلها مما يبقي السياسي معلولاً مدى الحياة . البورجوازية الدينامية تنامت في المدن البورجوازية خلال النصف الثاني من القرن الثامن عشر وقامت بالثورة في فرنسا في العام 1789 تحت شعارات الحرية والمساواة والإخاء لكنها انتهت إلى مجتمعات رأسمالية تقوم على استعباد عامة الشعب واستغلال الطبقة العاملة وامتصاص دمائها وعلى الإنقسام الطبقي الحاد المحموم بالكراهية المتبادلة والحقد الضغين، كما انتهت إلى إشعال حربين عالميتين قضى فيهما عشرات الملايين من الناس، وكانتا السبب في تأخير البشرية حقباً مديدة .

في منتصف القرن التاسع عشر ظهر في صف الفلاسفة الألمان فيلسوفان من طراز إتساني رفيع هما كارل هاينريخ ماركس وفردريك فردريك إنجلز . هذان الفيلسوفان الرفيعان اكتشفا علة السياسيين المزمنة وهي اشتراط السياسيين من مختلف النحل والأطياف شروطهم الخاصة في تفعيل وتشغيل قوى الإنتاج . وتبعاً لهذه الشروط الخاصة يتجمّع السياسيون في أحزاب ومنظمات متباينة ومتعارضة بهدف تحقيق تلك الشروط الخاصة . وعليه يرى المرء جميع السياسيين يمتهنون السياسة لتحقيق شروطهم الخاصة في تشغيل قوى الإنتاج، ويدعي كل منهم أنه إنما يمتهن السياسة من أجل تحقيق الحرية والديموقراطية . وحقيقة الأمر هي أنه طالما يشترط السياسي شروطاً معينة، أكانت عسيرة أم يسيرة، صعبة أم سهلة، لتشغيل قوى الإنتاج فإنما هو بداية يلغي ويمنع كل ما يمت إلى الحرية والديموقراطية بصلة . الحرية والديوقراطية لا يتحققان جوهرياً من خلال أية شروط تخضع لها قوى الإنتاج مهما كانت تلك الشروط . كيف يمكن لأي أخرق الحديث عن أية حرية وعن أية ديموقراطية بعد تقييد قوى الإنتاج التي هي عصب المجتمع وقلبه النابض بأية شروط كانت ما تكون تلك الشروط !؟ وأشدّ ما يستهجن في هذا السياق هو أن جميع السياسيين دون استثناء يستهجنون إمكانية تشغيل قوى الإنتاج دون أية شروط مستشهدين بقول شاعر العرب الأكبر أبو الطيب المتنبي .. " لا تشترِ العبد إلا والعصا معه، إن العبيد لأنجاس مناكيد " .

الحقيقة الكبرى التي اكتشفها هذان الفيلسوفان الكبيران هي أن رحلة التغريب التي بدأها الإنسان منذ ما قبل التاريخ ترتكز أولاً وأخيراً في تناول أداة من خارج جسمه بواسطتها فقط ينتج حياته، أي كل أسباب الحياة . إكتشفا أن رحلة الأنسنة هي العلاقة الديالكتيكية الأبدية بين الانسان وأدوات الإنتاج، وهي تتمثل في التطور المتبادل بين الإنسان من جهة وأدوات الإنتاج من جهة أخرى، ولولا تلك العلاقة لبقي الإنسان حيواناً، بل لانقرض قبل أن ينجح في البقاء حيّاً كما نجحت الحيوانات الأخرى . أدوات الإنتاج ومدى تطورها هي التي تفرض تقسيم العمل الاجتماعي وما يستجره هذا التقسيم من صراع طبقي . تمرحل التاريخ تبعاً لتطور أدوات الإنتاج، فالبستنة اعتمدت على الفأس الحديدية في عهود العبودية، والفلاحة اعتمدت على المحراث الخشبي في عهد الإقطاع، والصناعة اعتمدت على المحرك البخاري والكهربائي في عصر الرأسمالية . مردود الأدوات في الإنتاج هو الذي يقرر علاقات الإنتاج أي شروط تشغيل قوى الإنتاج . أي تطور نوعي في أدوات الإنتاج، يتمثل بزيادة مردودها في الإنتاج وتخفيض قوى العمل اللازمة لتشغيلها ، من شأنه أن يستبدل علاقات الإنتاج الشائخة الهرمة بعلاقات إنتاج جديدة ملائمة . الفكرة الخاطئة المتداولة اليوم بين السياسيين المفلسين تدعي أن التطور الحديث لأدوات الإنتاج مثل تشغيل الروبوتات وإعتماد الحواسيب، التي تقوم آليّاً بعمل عشرات بل مئات العمال، من شأنه تعظيم الأرباح وتجديد شباب النظام الرأسمالي بالتالي، بينما العكس هو الصحيح . فقد أشار ماركس إلى أن اضطرار الرأسمالي إلى تحديث مصنعه جراء المنافسة، وهو ما يؤدي إلى زيادة نسبة رأس المال الثابت في المصنع على حساب رأس المال المتغير، وهذا من شأنه أن ينعكس في تخفيض معدل الربح وانكماش الانتاج الرأسمالي بالتالي. تطور أدوات الإنتاج، وهو محصلة علاقة الأدوات الديالكتيكية مع الإنسان، يتم بمعاملين هما مردود الأداة في الإنتاج وتوفير الجهد البشري . كل تطور نوعي لأدوات الإنتاج في هذا السياق من شأنه أن يخلق علاقات إنتاج جديدة تحل محل القديمة . لهذا السبب كان استبدال نظام العبودية بنظام الإقطاع ثم استبدال النظام الإقطاعي بالنظام الرأسمالي ؛ ولنفس السبب سيتم استبدال النظام الرأسمالي بالنظام الإشتراكي أو الأحرى اللانظام الإشتراكي .

رأى الفيلسوفان الكبيران ماركس وإنجلز أن تطوراً هائلاً لأدوات الإنتاج هو السبب الأساس في تقويض النظام الإقطاعي وحلول النظام الرأسمالي محله . وعليه فإن أي تطور نوعي لأدوات الإنتاج التي يقوم عليها النظام الرأسمالي من شأنه أن يقوّض هذا النظام ليستبدل بنظام جديد مختلف . الإنتاج بالجملة (Mass Production) ، وهو مردود أدوات النظام الرأسمالي ويتسبب بأزمة إختناق دورية له، تضاعف أكثر فأكثر بسبب التطور المتسارع لأدوات الإنتاج في ظل النظام الرأسمالي والناجم أصلاً عن المنافسة الشديدة التي يستحضرها هذا النظام بطبيعته .
تطور النظام الرأسمالي نفسه ناجم بالدرجة الأولى عن تطور أدوات الانتاج خلال القرون الثلاثة الأخيرة . وأي تطور نوعي جديد لأدوات الإنتاج، كأن يخفَّض إعتمادها على القوة البشرية ويزيد من مردودها في الإنتاج، من شأنه دون شك أن يطيح بالنظام الرأسمالي، ومن شأنه أيضا، كما أكد كارل ماركس وفردريك إنجلز، إلغاء أية شروط لتشغيل قوى الإنتاج حيث سيعمل المنتجون طوعياً ودون أي شكل من علاقات الإنتاج دون شروط ودون أجور . العمل المأجور هو عنوان العبودية وتغيب فيه كل حروف الحرية والديموقراطية . السياسيون جميعهم يخطبون فيما بعد العمل المأجور ولذلك عبثاً يخطبون في الحرية والديوقراطية، وعليه هم لا يستشفون من السياسة . الشيوعيون لا يلوثون أفواههم بالخطابات السياسية حيث يبدأ خطابهم بإلغاء العمل الأجور والإستغناء عن السياسة جملة وتفصيلاً . الحياة الشيوعية حياة بلا دولة وبلا حقوق كيلا يكون هناك علاقات إنتاج، ليس هناك ملكية أو قيمة تبادلية للإشياء وليس هناك نقود لمعايرة القيمة، ليس هناك طبقات وصراع طبقي . وهكذا سينتهي التاريخ كسجل للصراع الطبقي . في المجتمع الشيوعي لن يعود الإنسان بحاجة إلى الحرية وإلى الديموقرطية . الحرية والديموقراطية يحتاجهما الفرد ليحقق ذاته في الإنتاج ؛ لكن عندما يتحرر الإنسان من قيد الإنتاج، عندما لا يعود للإنتاج أية قيمة ويحصل الشخص على كافة احتياجاته المادية والروحية دون مقابل فما عساه يفعل بالحرية والديموقراطية !؟ الحرية والديموقراطية سيعتبران إذّاك من مفردات المجتمعات الطبقية القديمة المتخلفة، المجتمعات التي تديرها هيئة للقهر وللقمع اسمها الدولة ولذلك كان يطالب مواطنو تلك الدولة بالحرية، أي تخفيف القمع، المجتمعات الطبقية حيث طبقة عليا تتمتع بكل الحقوق وطبقة سفلى لا حقوق لها ولذلك كان يطالب مواطنو تلك المجتمعات بالديموقراطية، أي بشيء من العدالة في توزيع الحقوق . في المجتمعات قبل الشيوعية ليس هناك أية حرية وأية ديموقراطية طالما هناك شروط لتشغيل قوى الإنتاج، وسياسيو مجتعات ما قبل الشيوعية لن يشفوا أبداً لأنهم لا يستشفون حق الإستشفاء ولن يكفوا عن المطالبة بالحرية والديموقراطية .

وهكذا انتهينا بعد ماركس وإنجلز إلى أن ندرك بصورة قاطعة أن تمرحل التاريخ إنما هو ناجم عن التطور الحتمي والنوعي لأدوات الإنتاج . نلك هي الحتمية التاريخية التي استند إليها ماركس في استشرافه للشيوعية . تلك هي الحتمية التاريخية التي بها ومعها تتوحد بروليتاريا العالم للإطاحة بالنظام الرأسمالي وإقامة دولة دكتاتورية البروليتاريا تحضيراً للحياة الشيوعية وليس النظام الشيوعي . في الحياة الشيوعية ليس هناك أثر للسياسة وللسياسيين . لن يتصارع أحدهم مع الآخر . سيبرأ الإنسان من كل العلل السياسية التي لم يبرأ منها السياسيون قبل الشيوعية .


www.fuadnimri.yolasite.com