إلى اليسار دُرْ


سعود قبيلات
2014 / 3 / 26 - 08:41     


تُبذَل جهودٌ جدّيَّة صادقة، في الفترة الأخيرة، لإعادة تجميع القوى اليساريَّة (والقوميَّة)، في أكثر مِنْ بلدٍ عربيّ؛ ففي مصر تمكَّن الناصريّون مِنْ إنجاز وحدة أداتهم السياسيَّة، ويؤمل أنْ يتمكَّن اليساريّون، هناك، أيضاً، من التغلّب على مرض تشرذمهم المزمن، والارتقاء بعملهم السياسيّ والأيديولوجيّ إلى مستوى المسؤوليَّة الذي تتطلّبه المرحلة الحاليَّة.
وهذه عمليَّة موضوعيَّة تاريخيَّة؛ وإلا ما كانت لتتمتَّع بهذا المستوى من الزخم وتنفتح أمامها الآفاق. لذلك، من الخطأ الجسيم أنْ يتمّ النظر إليها (والتعامل معها) على أنَّها مجرَّد استجابة ارتكاسيَّة لتحدِّي وصول «الإخوان المسلمين» إلى السلطة في أكثر مِنْ بلدٍ عربيّ. إنَّها، على الخلاف مِنْ ذلك، تعبيرٌ عن ضرورة موضوعيَّة للردّ على حالة العُقم السياسيّ (والفكريّ) التي أصابت الحياة السياسيَّة العربيَّة خلال العقدين الماضيين؛ حيث انحصرتْ تعبيراتها الفاعلة بالمراوحة ما بين الأنظمة التابعة الديكتاتوريَّة شبه المدنيَّة وبين الأدوات الوهَّابيَّة الطلاميَّة المسخَّرة لخدمة المشروع الأميركيّ الهادف للالتفاف على واقع انتهاء صلاحيَّة تلك الأنظمة تاريخيّاً، في محاولةٍ شاملة لإنقاذها عن طريق تمويهها بمظهرٍ دينيٍّ زائف. أي أنَّ الحياة السياسيَّة العربيَّة أصبحت، في الجوهر، محصورة بخيار اجتماعيّ اقتصاديّ سياسيّ واحد. فأين البديل، إذاً؟ هل لقي التاريخ حتفه، بحادثٍ سير مؤسف، على أعتاب الأرض العربيَّة؟ أم أنَّ الجماهير العربيَّة أصبحتْ تستمرئ ذلّها وتخلّفها وتعمل مِنْ أجل إدامتهما إلى الأبد، كما يحلو للبعض أنْ يرى؟
ما دام هناك فقر، وتفاوت طبقيّ فادح، واستغلال، وقهر؛ فالأمر الطبيعيّ هو أنْ تستدعي الآلام والمشاكل الناجمة عن هذا الوضعُ الفكرةَ اليساريَّةَ، بتعبيراتها الوطنيَّة والقوميَّة والأمميَّة، وحتَّى «الدينيَّة». وعلى سيرة «الدينيَّة»، فالجيل الذي كان يشتغل بالعمل السياسيّ والفكريّ في ستينيَّات القرن الماضي (وسبعينيَّاته)، يعرف العديد من الأسماء والتيَّارات «الإسلاميَّة» التي كانت تتبنَّى أطروحات اليسار في المسألة الاقتصاديَّة. وكانت تسمِّي نفسها يساراً إسلاميّاً، وتسمِّي حلولها الاقتصاديَّة اشتراكيَّة إسلاميَّة. وفي أميركا اللاتينيَّة، أُشتُهر، في تلك الفترة، نفسها، ما سُمِّي بـ«لاهوت التحرير»؛ حيث انخرط الكثير مِنْ رجال الدين في الكفاح، مع الحركات اليساريَّة العلمانيَّة، ضدَّ هيمنة الإمبرياليَّة الأميركيَّة على بلدانهم وشعوبهم. لكن، مع هجمة نمط الرأسماليَّة المتوحِّشة، تحت مسمَّى العولمة (وهي، في حقيقتها، أمركة)، أصبحت الحركات والشخصيَّات «الإسلاميَّة» الطافية على السطح، هي تلك التي تتبنَّى نمط الرأسماليَّة المتوحِّشة، هذا، وتسمِّيه اقتصاداً إسلاميّاً.
ولقد كان جوهر العمليَّة المعقَّدة التي وضعت «الإخوان المسلمين» (والحركات الوهَّابيَّة، عموماً) في واجهة الحياة السياسيَّة العربيَّة، بأموال نفطيَّة هائلة، هو – كما أشار كاتب هذه السطور مراراً – السعي لخلق صيغة «بروتستنتيَّة» إسلاميَّة تركب على مسنَّنات الرأسماليَّة المتوحِّشة وتدور معها. فمثلما تمَّ تهويد المسيحيَّة، عبر البروتستنتيَّة الأنجلوسكسونيَّة، بربطها بالعهد القديم، جرى ويجري، أيضاً، العمل لخلق صيغة إسلاميَّة مماثلة.. ترتبط (عمليّاً وبغضّ النظر عن كلّ الادِّعاءات والمزاعم المغايرة) بمفاهيم العهد القديم وقيمه. والسبب هو أنَّ اليهوديَّة هي العقيدة الدينيَّة الوحيدة التي تملك تبريراً قيميّاً قدسيّاً راسخاً للربويَّة الرأسماليَّة.
الإسلاميّون الوهَّابيّون هم رأس حربة هذا المشروع، في العالم العربيّ والإسلاميّ، وقد ساروا فيه حتَّى نهايته؛ لكن مع فارق أنَّهم أسموا الناتج الربويّ للرأسماليَّة ربحاً، وأسموا العمليَّة التي تنتج الربا مرابحة (هذي أذني.. وهذي أذني؛ على رأي المثل الشعبيّ)، وأسموا الاقتصاد الرأسماليّ (بأكثر تجلِّياته توحّشاً) اقتصاداً إسلاميّاً.
في كتابه «المسألة اليهوديَّة»، شخَّص ماركس العلاقة بين الرأسماليَّة وبين اليهوديَّة بدقَّة وعمق شديدين؛ فقال: «لنتأمَّل اليهوديّ الدنيويّ الواقعيّ، ليس يهوديّ السبت كما يفعل باور، وإنَّما اليهوديّ العاديّ. لن نبحث عن سرّ اليهوديّ في دينه وإنَّما عن سرّ الدين في اليهوديّ الواقعيّ. ما هو الأساس الدنيويّ لليهوديَّة؟ الحاجة العمليَّة، المنفعة الخاصَّة. ما هي العبادة الدنيويَّة؟ التجارة. ما هو إلهه الدنيويّ؟ المال».
ثمَّ خلص إلى القول: «لقد بقيتْ اليهوديَّة ليس رغماً عن التاريخ وإنَّما مِنْ خلال التاريخ: فالمجتمع البرجوازيّ يولِّد مِنْ أحشائه الخاصَّة اليهود دون انقطاع». ثمَّ استنتج قائلاً: «حسناً! سيكون التحرّر من التجارة والمال، أي من اليهوديَّة العمليَّة الواقعيَّة، تحرير عصرنا نفسه».
على أيَّة حال، الحراك الهادف لبلورة اليسار في صيغة تتناسب مع حجمه الحقيقيّ ودوره التاريخيّ، الذي بدأتُ مقالي هذا بالحديث عنه، له تجلِّيات أردنيَّة جدّيَّة أيضاً. وهذا ما أنوي تخصيص مقالي القادم للحديث عنه.