مطارحات الالتحاق الأخير ب «سفينة نوح» الذهاب إلى زمن ب

كمال الذيب
2014 / 3 / 24 - 22:55     

يتجاوز عمق أزمة اليسار إشكالية عجزه المزمن عن اجتراح طريق جديد يقطع مع المفاهيم التي أثبتت الوقائع التاريخية لا جدواها، جوابا عن حالة الانحسار والضعف، إلى إشكالية تحولاته وتحالفاته الملتبسة وانشقاقاته أخيرا لا آخرا.
فإذا كان أحد أهمّ أسباب أزمة اليسار في بعض البلدان العربية تعود إلى إشكالات فكرية أو سياسية أو حتى قبلية «مثلما هو الأمر في الحالة اليمنية على سبيل المثال، حيث انتقلتْ الحالة القبلية إلى الحزب الاشتراكيّ اليمني نفسه»، فإن إشكالية بعض تشكيلات اليسار في البحرين ترتبط في بعض أبعادها بالبنية الطائفية للمجتمع، والتي انتقلت إليه بشكل واضح خلال، وبعيد أحداث فبراير - مارس 2011م، إذ أدت تلك الأحداث إلى ما مفارقة غريبة: فالرجعية الطائفية التي حاربت اليسار في دوائره القليلة وأخرجته من «جماعة المؤمنين» في الانتخابات البرلمانية في أكتوبر 2010، أصبحت فجأة -وبدون مقدمات- الحليف رقم واحد في مواجهة «السلطة» في فبراير 2011م، ولذلك لا يمكن الحديث عن أزمة تطور طبيعية، أو عن أفكار أو أجنحة، وإنما كل ما هنالك أنّ بقايا اليسار الذي كان في حالة احتضار، ارتمى في هجمته الأخيرة في أحضان الرجعية الطائفية اعتقادا منه أنها فرصته الأخيرة للالتحاق بـ»سفينة نوح».
واليوم، وبعد الذي حصل، يبقى السؤال الأكثر أهمية مطروحا على بقايا اليسار: «ما العمل؟».
ان الإجابة عن هذا السؤال تأتي من عمق تقاليد اليسار وتاريخه ومنطقه التحليلي، وهو نفس السؤال الذي سبق لرواد اليسار في العالم طرحه في أكثر من مناسبة، عند مواجهة الأزمات والأخطاء والأخطار، هذا السؤال الذي لا يبدو إلى الآن أنه يخامر اليساريين لا بد أن يوصلنا إلى طرح أسئلة تفصيلية أخرى من نوع: هل أن الحل يكمن في المراجعة النقدية الجادة ووضع الأسئلة على الطاولة والبحث عن أجوبة جادة وجدية؟ أم أن المطلوب هو بعث جديد من رحم الأزمة والنكبة؟ أم أن المطلوب هو البحث عن جبهة جديدة ضمن أفق اليسار نفسه؟ أم أن الحل الاستسلام إلى التفكك والانشقاق؟؟ ما فائدة الانشقاق إذا كان مجرد إعادة إنتاج للأزمة لتكون هنالك جمعيات يساريتان: واحدة للشيعة والثانية للسنة؟ أية مفارقة هذه وأي بلاء مبين!!؟؟
أكاد أجزم أننا نمضي نحو زمن بدون يسار، وأن ما يبقى أمامنا هو بقايا مشروع يسار، لأننا نقف في حاضرٍ يتميّز بشبه غيابٍ لليسار الحقيقي فكرا وممارسة وأفقا، لأنه خسر «مناعاته» وهويته، نتيجة تطوّر مزدوج: من جهة التحاقه بالليبرالية الاقتصادية على صعيد المنظور الاقتصادي الاجتماعي، ومن جهة افتقاره للمعايير السياسية في عقد التحالفات فيما يشبه الانعطاف الأيديولوجي الخطير وغير المسبوق، ومن جهة الارتباط الفج والمكشوف وغير الأخلاقي بالقوى المحافظة المعادية للحداثة والتقدم والحرية لقناعته بأن هذه القوى التقليدية الطائفية قادرة على احداث التغيير، ولكن ما هي طبيعة هذا التغيير؟ وما هو مضمونه الاجتماعي والاقتصادي والسياسي الذي يمكن ان تأتي به قوة محافظة وطائفية؟ ومن جهة الارتباط الغريب واللا أخلاقي بالقوى المصنفة يساريا «امبريالية» والخضوع لإملاءاتها على حساب استقلال القرار الوطني ووحدة البلاد وهويتها الوطنية. هذا إضافة إلى تراجع الأولويات الاجتماعية - الاقتصادية - المركزية للفكر اليساري في البرامج والفعاليات والبيانات والتشبث بنوع من الأبنية الفكرية والسياسية التي تتماهى مع الخطاب الديني الطائفي، في لغته وتأويلاته وشعاراته في ازدواجية مكشوفة، بين اللغة والممارسة القاسية. وبدلا من انجاز المراجعة الفكرية والأيديولوجية والسياسية الضرورية والتي تقتضيها المرحلة والانتكاسات والتحديات فضل هؤلاء الهروب إلى الخلف أي النكوص والانصياع إلى الاغواءات والإغراءات المتصلة بالرغبة العارمة في الوصول إلى السلطة وهي رغبة خارج سياقها التاريخي والاجتماعي، فكانت النتائج وخيمة إن لم نقل الكارثية بالنسبة لليسار نفسه كفكر وكوجود.
ومن المؤسف ان هذه البقايا من اليسار قد وقعت في خداع نفسها عندما اعتبرت: «الحركة الإسلامية حركة تحرر ديمقراطية ثورية «أو إصلاحية»، تفتقر للرؤية والتوجيه السياسي، وبالتالي على اليسار أن يتولى دعمها في مواقع حركية مختلفة، ويستغل رصيدها الجماهيري». هذه الخديعة وقع فيها اليسار في إيران ومن بعده اليسار في العراق فكانت عليه وبالا، وها هو اليسار في البحرين يكرر نفس الخطأ الكارثي. حيث من الواضح أن هذا الموقف هو الاتجاه الأغلب خلال أزمة فبراير 2011 وما تلاها بالنسبة لأغلب اليساريين الذين شكلوا حلفا مع القوى الإسلامية في نسختها التي تعبر عنها «جمعية الوفاق»، بالرغم من أن هذا الحلف كان قد بدأ مبكرا في 2002 وتطور في خط متواز مع تطور وجهة نظر المعارضة، لينظم بعد ذلك وتدريجيا عدد من الجمعيات إلى هذا الحلف في فبراير 2011م لما اعتقدت المعارضة أن النظام أيامه معدودة، وان على من يريد أن يكون له مكان في المستقبل أن ينظم لهذا الحلف المسنود إقليميا ودوليا. وان من يريد انقاذ نفسه عليه ان يقفز الى الرحلة الأخيرة لـ»سفينة نوح». هذا بالرغم من ان هذا الموقف يتعارض عمليا مع وجهة نظر اليسار في اغلب البلدان العربية، والذي يتبنى موقفًا مضادا لحركات الإسلام السياسي عامة «وللطائفيين منهم بوجه أخص»، كونها توصف في الغالب الأعم بأنها «حركة مضادة للحرية والديمقراطية».. ولذلك يبدو ان الوقوع في مصيدة البنية الطائفية - الدينية التي لها منطقها الخاص المتناقض مع بنية من وافق الخطاب الديمقراطي المدني، قد أفضت بجزء مهم من قوى اليسار إلى ما يشبه الشيزوفرينيا السياسية. وتبقى في النهاية الإجابة عن السؤال الأهم: «ما العمل؟» مطروحة على من بقي من اليسار ينتمي فعلا وقولا إلى اليسار؟!!