منظورات للثورة العالمية 2014 - الجزء الأول


التيار الماركسي الأممي
2014 / 3 / 23 - 09:31     


ننشر فيما يلي تحليل التيار الماركسي الأممي للوضع العالمي الحالي وآفاق تطوره. إن هذا المشروع، الذي سننشره على شكل أجزاء، سيكون أساسا للنقاش داخل صفوف التيار الماركسي الأممي خلال المؤتمر الأممي الذي سيعقد خلال صيف هذه السنة 2014.



النظرة البعيدة

تنظر الماركسية إلى التاريخ نظرة بعيدة المدى. من وجهة النظر هذه تشكل بعض الفترات في التاريخ نقطة تحول حاسمة، مثلما كانت سنوات 1789، و1917، و1929. خلال تلك الفترات يتم تسريع السيرورة التاريخية برمتها، وخلالها تنقلب الأوضاع، التي كانت تبدو ثابتة بشكل كامل، إلى نقيضها. وإلى هذه القائمة من نقاط التحول التاريخية العظيمة علينا الآن أن نضيف سنة 2008. إن المرحلة الجديدة التي انفتحت مع أزمة عام 2008 تجد انعكاسا لها في تكثيف الصراع الطبقي، وتوتر العلاقات بين الدول، وفي الحروب والصراعات الدولية.

يتعامل الديالكتيك مع السيرورات في تطورها من خلال التناقضات. ويمكننا من أن ننظر إلى ما وراء المعطيات المباشرة ("الحقائق") وملاحظة السيرورات العميقة التي تجري تحت السطح. يعمل النظام الرأسمالي تاريخيا على إنتاج وتدمير توازنه الداخلي. ويظهر هذا خلال اندلاع الأزمات. ففي المجال الاقتصادي يظهر في تناوب فترات الازدهار والكساد، والذي هو سمة أساسية من سمات النظام الرأسمالي على مدى المائتي سنة الماضية. فترات الازدهار والتشغيل الكامل تتلوها فترات من الركود، حيث تتراجع الاستثمارات، ويتم إغلاق المصانع، وترتفع البطالة وتتوقف القوى المنتجة عن النمو.

يشرح ماركس أن السبب الأساس لكل أزمة رأسمالية حقيقية هي فائض الإنتاج، أو ما يطلق عليه في لغة الاقتصاديين المعاصرين: القدرة الزائدة (التي هي نتيجة لفائض إنتاج وسائل الإنتاج). إن حقيقة أن المجتمع يغرق في الأزمة بسبب كونه ينتج كثيرا هي سمة من سمات الرأسمالية لم تكن معروفة في المجتمعات السابقة. إنه التناقض الجوهري للرأسمالية، والذي لا يمكن حله ضمن حدود الملكية الخاصة لوسائل الإنتاج والدولة القومية. وطيلة ثلاثة عقود، وهي الفترة التي بدت وكأنها طويلة نسبيا، ظهر وكأن إمكانية حدوث أزمات فائض الإنتاج قد صارت مسألة مستحيلة، لكن سرعان ما اتضح أن الواقع ليس كذلك.

كان انهيار الستالينية نقطة تحول هامة. ومن الناحية النفسية أعطى ذلك للبرجوازية وللمفكرين المدافعين عنها نسمة أوكسجين جديدة. كما دفع أكثر بالأحزاب الاشتراكية الديمقراطية نحو معسكر الرأسمالية، وخلق أوهاما جديدة حول "اقتصاد السوق الحرة". لقد أطلق رصاصة الرحمة الأخيرة على الأحزاب الستالينية، التي تخلت عن ادعاء الدفاع عن الاشتراكية وأصبحت نسخة شاحبة عن الأحزاب الاشتراكية الديمقراطية. وقد أدت نفس السيرورة إلى انتهاء الإصلاحية اليسارية كتيار محدد المعالم داخل الحركة العمالية.

خلال فترة الازدهار الماضية، تجاوزت الرأسمالية حدودها الطبيعية عبر توسيع غير مسبوق للديون وتكثيف التقسيم العالمي للعمل من خلال ما يسمى بالعولمة. دفع نمو التجارة العالمية النظام إلى أعلى في ما كان يبدو وكأنه مسيرة صعود لا تنتهي. مكـّن التوسع في الديون من زيادة الطلب بشكل مؤقت. في حالة بريطانيا، على سبيل المثال، تضاعف حجم الديون الخاصة، بالنسبة للناتج المحلي الإجمالي، 200% في السنوات الخمسين الماضية. وقد سارت الولايات المتحدة وبلدان أخرى على نفس الطريق.

كانت الشمس مشرقة، والأسواق مزدهرة والجميع كان سعيدا. كان كل شيء يبدو وكأنه يسير إلى الأفضل في أفضل العوالم الرأسمالية. ثم جاء انهيار عام 2008. ومع انهيار بنك ليمان براذرز، وصلوا إلى حافة كارثة من حجم انهيار 1929 أو أكبر. لم يتلافوا ذلك إلا بفضل ضخ كميات هائلة من المال العمومي. لقد ألقي كل عبء ديون البنوك الخاصة المتراكمة على كاهل دافعي الضرائب. وقامت الدولة – التي يصر الاقتصاديون على ألا يكون لها أي دور في الاقتصاد - بدعم الصرح المتداعي لـ "اقتصاد السوق الحرة".

الأزمة مستمرة

منذ عام 2008 تضافرت كل العوامل التي سبق أن دفعت بالنظام صعودا لتدفعه إلى أسفل. فالزيادة الهائلة في الإقراض أصبحت جبلا هائلا من الديون، وعبئا كبير على الاستهلاك، يسحب بثقله الاقتصاد إلى أسفل.

وفي الوقت الذي تتحدث فيه الصحافة والسياسيون عن الانتعاش، يغرق المنظرون الرأسماليون الجديون في التشاؤم. والاقتصاديون بعيدو النظر لا يتحدثون عن الانتعاش بل عن خطر أزمة جديدة أعمق. إن "الانتعاش" في الحقيقة وهم مريح، موجه بشكل مقصود لتهدئة أعصاب المستثمرين واستعادة "الثقة".

إن الانتعاش الجزئي الذي تشهده الولايات المتحدة، إذا ما صح أصلا الحديث عن انتعاش، هو أضعف انتعاش من الركود في تاريخ الرأسمالية. بعد فترة الركود عادة ما يميل الاقتصاد إلى النهوض بقوة على أساس الاستثمار المنتج، الذي يعتبر شريان الحياة للنظام الرأسمالي. لكن ليست هذه هي الحالة الآن. ووفقا لتقارير صندوق النقد الدولي فإن الاقتصاد العالمي في طريقه للنمو بنسبة 2.9% فقط، وهو ما يمثل بالكاد حوالي نصف معدل ما قبل الأزمة.

إن الطبيعة غير العقلانية للرأسمالية، الغارقة في خضم تناقضات مستعصية على الحل، قد تفاقمت بشكل أكثر إيلاما وتدميرا من خلال العولمة. لقد صارت "السيادة الوطنية" مجرد كلمة فارغة، حيث أن كل الحكومات خاضعة لتقلبات السوق العالمية.

المضاربات تزدهر بالرغم من كل الكلام عن التنظيم. وهناك كمية كبيرة من المال تدور في جميع أنحاء العالم، تزيد إلى حد كبير من خطر حدوث انهيار اقتصادي غير مسبوق. سوق المشتقات المالية العالمية[1]، التي كانت 59 تريليون دولار عام 2008 قد ارتفعت إلى 67 تريليون دولار بحلول عام 2012. هذا هو حجم سعار المضاربات الجامح الذي اجتاح البرجوازية في عصرنا. إن الترابطات المتشابكة لسوق المشتقات المالية، والتي لا أحد، على ما يبدو، يفهمها فعلا، قد أدخلت تعقيدات ومخاطر جديدة.

وتنعكس عصبية البرجوازية في الارتفاع المحموم والسقوط المدوي للأسواق. يمكن لأدنى حادث أن يسبب الفزع: التوترات السياسية في البرتغال؛ الاضطرابات الاجتماعية في مصر؛ عدم اليقين بشأن توقعات الاقتصاد الصيني، واحتمال القيام بعمل عسكري في الشرق الأوسط يؤدي إلى ارتفاع حاد في أسعار النفط؛ يمكن لأي من هذه الأشياء أن تتسبب في الذعر الذي يمكنه أن يغرق الاقتصاد العالمي مرة أخرى في ركود عميق. وتلعب عائدات السندات الحكومية نفس الدور تقريبا الذي تلعبه الرسوم البيانية المعلقة على السرير في المستشفى للدلالة على ارتفاع وانخفاض الحمى. وعند تجاوز درجة الحمى نقطة معينة تهدد المريض بالموت.

شريان حياة الرأسمالية

المشكلة الأكثر خطورة هي نقص الاستثمار المنتج. ففي الولايات المتحدة، ما يزال الاستثمار الخاص في مستوى أدنى حتى من نصيبه من الناتج القومي، في حين بلغ الاستثمار العام ذروته مع التحفيز الذي شهده عام 2010، ومن تم بدأ في التراجع. إن الرأسماليين لا يستثمرون في هذا النوع من النشاط الإنتاجي الذي من شأنه أن يؤدي إلى توظيف العمال الأمريكيين بأعداد كافية للسماح للاقتصاد بالإقلاع. والسبب هو أنه لا يوجد سوق لبضائعهم، أي ليس هناك "طلب فعلي".

التوقعات الاقتصادية مظلمة وغير مؤكدة. لا أحد يريد أن ينفق أو يستثمر لأنهم لا يستطيعون التنبؤ بالمستقبل. ارتفع عدد الوظائف في عام 2013، لكن التشغيل في المصانع استمر في الانخفاض. وقد اتضح كذب التوقعات الأولية القائلة بأن الانتعاش الاقتصادي بالولايات المتحدة سيكون بقيادة قفزة في التصنيع. الانتعاش الصحي والمستدام يجب أن يستند على الاستثمار المنتج، وليس على عدد أكبر من وجبات البرغر في مطاعم ماكدونالدز.

تكاليف الاستثمار هي الآن في الواقع أقل بكثير مما كانت عليه في عام 2008. ورغم ذلك فإن الاستثمار في قطاع الأعمال بالولايات المتحدة لم يرتفع إلا بنسبة ضئيلة جدا عن مستوى 2008. سجلت دراسة حديثة أن 40 أكبر شركة في الولايات المتحدة تهدف إلى تقليص نفقات رأسمالها في مجرى عام 2013. ما الغاية من وراء بناء مصانع جديدة والاستثمار في آلات وأجهزة كمبيوتر مكلفة جديدة، عندما لا يمكنهم حتى استخدام القدرة الإنتاجية التي لديهم بالفعل؟

في المملكة المتحدة لا يذهب في الواقع سوى 15% من إجمالي التدفقات المالية إلى الاستثمار. بينما يذهب الباقي إلى دعم الأصول الحالية للشركات، والرهون العقارية، والقروض الشخصية غير المضمونة. وبدلا من الاستثمار في مصانع وآلات جديدة، تعمل الشركات الكبيرة على اقتراض مبالغ هائلة من المال بمعدلات فائدة ضئيلة من أجل إعادة شراء أسهمها. وخلال الأشهر التسعة الأولى من سنة 2013 وحدها، تم إنفاق 308 مليار دولار لهذا الغرض في الولايات المتحدة الأمريكية.

وبالتالي فإن المشكلة ليست هي نقص السيولة. ففي الولايات المتحدة تفيض صناديق الشركات بالأموال لكنها لا تستثمرها في النشاط الإنتاجي. في السنوات الأخيرة تم ضخ مبالغ طائلة من المال في الاقتصاد، وبخاصة في البنوك. والنتيجة هي زيادة الدين العام إلى مستويات تنذر بالخطر، دون خلق أي انتعاش اقتصادي جدير بهذا الاسم. تقول تقديرات وكالة موديز (نقلا عن مجلة فوربس، مارس 2013،) إنه في بداية عام 2013 تم إخفاء 1,45 تريليون دولار من قبل الشركات غير المالية في الولايات المتحدة. بزيادة قدرها 130 مليار دولار عن العام 2012. هذه ليست ظاهرة جديدة. ففي أواخر العشرينيات من القرن الماضي كان هناك تراكم هائل من النقد غير المنفق في الاقتصاد قبيل انفجار الأزمة.

لدا الاقتصاديين البرجوازيين نفور من نطق كلمة "فائض الإنتاج" (والغريب هو أن بعض الاقتصاديين الذين يسمون أنفسهم ماركسيين يعانون أيضا من نفس البلاء). لكن الأسباب الجذرية للأزمة واضحة جدا من وجهة النظر الماركسية. يتم استخلاص فائض القيمة في عملية الإنتاج، لكن هذا لا يستنفذ عملية تحقيق الأموال. إن قدرة الرأسمالي على تحقيق فائض القيمة المستخلصة من عمل العمال يعتمد في نهاية المطاف على قدرته على بيع سلعه في السوق. لكن هذه الإمكانية محدودة بمستوى الطلب الفعلي في المجتمع، أي من خلال القدرة على الدفع.

رغبة الرأسماليين في الإنتاج من أجل الحصول على أرباح رغبة غير محدودة تقريبا، لكن قدرتهم على إيجاد أسواق لمنتجاتهم لها حدود ضيقة جدا. يعتمد الاقتصاد العالمي بشكل خطير على الولايات المتحدة الأمريكية. وفي الواقع يعتمد العالم كله الآن على الاستهلاك في الولايات المتحدة. لكن الاستهلاك في الولايات المتحدة الأمريكية الآن ليس في وضع ملائم ليكون بمثابة المحرك للنمو العالمي. وقد انخفض متوسط الأرباح بنسبة 5,4% منذ بدأ الانتعاش في الولايات المتحدة. والبطالة تحوم حول معدل 7%. يمثل الاستهلاك حوالي 70% من الناتج الداخلي الإجمالي للولايات المتحدة وحوالي 16% من الطلب العالمي. وبالتالي فإن المصدرين في كل مكان يأملون في أن يأتي المستهلكون في الولايات المتحدة لإنقاذهم.

لكن هذا يخلق تناقضات جديدة. في العام الماضي تسببت الواردات في ارتفاع العجز التجاري للولايات المتحدة بنسبة 12% إلى 45 مليار دولار في الشهر، وهو ما شكل أكبر قفزة خلال خمس سنوات. وشكلت الواردات من الصين حوالي الثلثين. إذا ما استمر هذا فإن عجز الولايات المتحدة والصين سيتجاوز 300 مليار دولار. ومن ناحية أخرى، انخفضت صادرات الولايات المتحدة. إن سعي أوباما لمضاعفة الصادرات خلال خمس سنوات هو حلم ميؤوس منه. يمكن لانتعاش الولايات المتحدة أن يتلاشى، ويسحب الاقتصاد العالمي معه إلى أسفل. يشبه هذا تلك الخرافة الروسية القديمة عن الكوخ المدعم بساق دجاجة.

التيسير الكمي[2]

يستند الانتعاش المزعوم بشكل كلي تقريبا على حقن كميات ضخمة من رؤوس الأموال الوهمية في اقتصاد الولايات المتحدة وبلدان أخرى. إن الرأسمالية، مثلها مثل مصاب بمرض عضال، لا تستطيع البقاء على قيد الحياة إلا عن طريق نقل الدم بشكل مستمر على حساب المال العام. البنوك المركزية مضطرة إلى الاعتماد على ما يسمى بالتيسير الكمي، أو بلغة واضحة: طباعة الأوراق النقدية. لقد فشلت سياسة التيسير الكمي ومعدلات الفائدة الصفرية [0%] في تحقيق نتائج ملموسة وتسببت في آثار تضخمية واضحة.

التحسن النسبي للاقتصاد الأمريكي يعود إلى حد بعيد إلى السياسات النقدية المتساهلة التي طبقها الاحتياطي الفدرالي. فمنذ عام 2009 والاحتياطي الفيدرالي يقوم بشراء أصول مالية، وسندات الخزانة الأمريكية وبعض الأنواع من ديون الشركات. من خلال توسيع القاعدة النقدية أبقوا أسعار الفائدة منخفضة، مما ساهم في دعم الشركات المثقلة بالديون واستهلاك الأسر. كان هذا هو العامل الرئيس في ما يسمى بالانتعاش، وهو ما يسند الأسواق المالية، مثلما تسند العكازات شخصا بدون أرجل.

يستند النظام الرأسمالي على اقتصاد المجانين. فبسبب جشعهم لتحقيق أرباح سريعة من المضاربات، نجح البرجوازيون فقط في خلق تضخم هائل لأسعار الأصول خلال العشرين عاما التي سبقت انهيار عام 2008. حدث هذا بسبب سياسة الاحتياطي الفدرالي القائمة على الضغط باستمرار على أسعار الفائدة. ويتم تطبيق نفس السياسة المجنونة الآن في محاولة يائسة لإنعاش الفقاعة. يبدو أنهم قد نسوا أن هذه السياسة نفسها هي بالدرجة الأولى التي أدت إلى الانهيار. ويبدو وكأن البرجوازية قد فقدت كل حواسها. لكن وكما سبق لينين أن قال ذات مرة: «لا يمكن للشخص الواقف على حافة الهاوية التفكير بالعقل».

يبلغ مقدار التيسير الكمي الذي يقوم به الاحتياطي الفيدرالي 85 مليار دولار شهريا. إن المملكة المتحدة ومنطقة اليورو، واليابان على وجه الخصوص، كلهم يؤمنون بخنوع بوعد برنانكي[3] لهم بتحقيق الربح السريع السهل في المدى البعيد. يحدث هذا، ويا للمفارقة، في نفس الوقت الذي يحاول فيه هو نفسه أن يتراجع عن موقفه. لذا وجد برنانكي نفسه في وضع دقيق للغاية. وحاول الإشارة إلى بداية نهاية أسعار الفائدة الصفرية دون إثارة حالة من الذعر.

إن هؤلاء المشاركين في هذا النشاط يدركون جيدا أنهم يقومون بتجربة خطيرة. لقد فهموا ذلك منذ مدة. قال فريد نيومان، كبير الاقتصاديين في بنك HSBC، إن التسهيلات الكمية «تمكننا من ربح بعض الوقت لكنها لا تحل أي شيء من حيث الجوهر»، (صحيفة الفايننشل تايمز20/09/13)، وقال مايك كرابو، العضو الجمهوري في اللجنة المصرفية بمجلس الشيوخ: «كلما استمروا طويلا في هذه العملية كلما تفاقم عجزنا عن الخروج من الركود».

وعلاوة على ذلك فإن التجربة تدل على أن هذه السياسة تخضع لقانون تناقص المردودية: حيث تصير هناك حاجة إلى كميات أكبر من المال للحصول على نتائج أقل من قبل. وكتب جيليان تيت، من الفايننشل تايمز، قائلا: «هناك طريقة واحدة لتفسير الرقص الجاري هذا الأسبوع حول التسهيل الكمي وهي أن صناع القرار مستمرون في دعم نظام مالي هو (في أحسن الأحوال) هش، و(في أسوأ الأحوال) غير مستقر». وأضاف: نعيش «في عالم حيث تعتمد أسعار الأصول والغرائز على المال الرخيص».

وقد قدمت صحيفة الفايننشال تايمز موقفها من التيسير الكمي بالولايات المتحدة في مقال افتتاحي لها صدر يوم: 9/21/13، حيث قالت:

«بالرغم من أن التيسير الكمي قد رفع الروح المعنوية، فإن تأثيره كان أكثر ضآلة مما كان البعض يأمل. فبالرغم من انخفاض تكاليف التمويل، فإن الاستثمار في حالة ركود. الحكومات تخفض العجز، والأسر تسدد ديونها، والشركات تراكم النقد. وبالتالي فإن المال الذي يتم ضخه من طرف الاحتياطي الفيدرالي لا يقوم بتمويل النشاط الاقتصادي: مثل بناء المنازل أو الاستثمار، مما من شأنه أن يسهم بشكل مباشر في النمو، بل عوض ذلك يتم استعماله لرفع قيمة الأصول الموجودة».

تستمر وكالات تمويل العقارات "فاني ماي" و"فريدي ماك"، كما كانت من قبل، في ضخ القروض في سوق الرهن العقاري. لكن وبينما كانتا قبل الأزمة تسيطران على 60% من سوق الرهن العقاري في الولايات المتحدة، فإنهما الآن تسيطران على 90% منها. كان هذا هو ما انتهى بانهيار عام 2008. وإدراكا منه للمخاطر التي ينطوي عليها الوضع، أعلن برنانكي بحذر خلال يونيو الماضي أن الاحتياطي الفيدرالي قد يتخلص تدريجيا من التيسير الكمي. أتباع كينز، بقيادة بول كروغمان، أصيبوا بالرعب. وحذروا من أن تلك خطوة سابقة لأوانها ومن شأنها أن تبعث برسالة خاطئة للاقتصاد العالمي، بأن البنوك المركزية ستقلص الإنفاق قبل أن يتمكن القطاع الخاص من تحقيق الانتعاش المطلوب. وهذا هو ما حدث سنتي 1937-1938.

حاول برنانكي التخفيف من وطأة الصدمة من خلال اللجوء إلى كل أنواع "الحيثيات" و"التحفظات". وأكد أن البنك الاحتياطي الفيدرالي لن يوقف شراءه للأصول إلا إذا انخفض معدل البطالة إلى أقل من 7% - وهو ما تحقق الآن - مقللا من خطر تقليص الإنفاق قبل تمكن الاقتصاد من التعافي. وأن معدلات الفائدة قصيرة الأجل ستبقى قريبة من الصفر لفترة طويلة. وكل رفع لمعدل الفائدة سيكون تدريجيا. الخ، الخ.

كل ذلك كان بدون جدوى. فقد أصبحت البرجوازية مدمنة على التيسير الكمي والقروض الرخيصة، تماما مثل المدمن على الهيروين، والذي يحتاج إلى جرعات منتظمة ليعيش. تسبب التصريح في نشر الذعر بشكل فوري في الأسواق المالية، حيث بدأت صناديق التحوط في بيع السندات، مما تسبب في انخفاض كبير لأسعارها. ارتفعت تكاليف الاقتراض بصورة جنونية. وبحلول منتصف شتنبر وجد الاحتياطي الفيدرالي نفسه مجبرا على التراجع. فارتفعت الأسواق مرة أخرى بعد سماع قرار بنك الاحتياطي الفيدرالي الاستمرار في التيسير الكمي، رغم أن الرئيسة الجديدة للبنك الفيدرالي، جانيت يلين، قد أعلنت عن خطط لتقليصه إلى الصفر بحلول نهاية عام 2014.

الأزمة في الولايات المتحدة الأمريكية

في عام 2009، وبعد أسبوعين على التحاقه بالبيت الأبيض، ألقى أوباما خطابا قال فيه: «لا نستطيع إعادة بناء هذا الاقتصاد على نفس كومة الرمال. يجب أن نبني بيتنا فوق الصخر. يجب علينا وضع أساس جديد للنمو والازدهار، أساس من شأنه أن ينقلنا من عصر الاقتراض والإنفاق إلى عصر الادخار والاستثمار؛ حيث نستهلك أقل في الداخل ونبعث بالمزيد من الصادرات إلى الخارج».

وبعد مرور أربع سنوات ما تزال الولايات المتحدة تبني على أساس من الرمال، وتعبد الأرض لأزمة مستقبلية. يظهر هذا في الرقم الفلكي لديون البلد المتراكمة. إن الطبيعة غير المستقرة للوضع قد تبينت من خلال الإغلاق الذي تعرضت له حكومة الولايات المتحدة، والذي هدد بدفع الولايات المتحدة وكل الاقتصاد العالمي، إلى السقوط الحر في الهاوية. لقد بلغت ديون حكومة الولايات المتحدة الرقم المذهل 16,7 تريليون دولار، أي الحد الأقصى الذي حدده الكونغرس.

تظهر شدة الأزمة في الانقسام الحاد داخل صفوف الطبقة الحاكمة في الولايات المتحدة وممثليها السياسيين. خلال فترة الطفرة الاقتصادية كان في مقدور الحزبين الرأسماليين [الجمهوري والديمقراطي]، واللذان يمثلان جناحي الطبقة الرأسمالية الأمريكية، أن يتوصلا إلى حل وسط بشأن معظم القضايا. لكن الآن، عندما فرغ الصندوق، صارت المجموعات السياسية القديمة عائقا مطلقا لتطور المجتمع مع ما يتضمنه ذلك من عواقب وخيمة.

لقد أوصلت الحاجة إلى رفع سقف الدين الأمريكي هذه الانقسامات إلى نقطة الأزمة. وكان الفشل في القيام بذلك من شأنه أن يدفع بالولايات المتحدة إلى العجز. كان هذا سيؤدي إلى انخفاض في الناتج الداخلي الإجمالي للولايات المتحدة بـ 6,8% وخسارة خمسة ملايين وظيفة في منطقة منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية.[4] إلا أن الجناح اليميني "حزب الشاي" والجمهوريين في الكونغرس، المدفوعين بكرههم لأوباما، وبرنامجه لإصلاح قطاع الصحة، وبسبب هوسهم الضيق الأفق بخفض العجز، كانوا مستعدين تماما لدفع الولايات المتحدة والاقتصاد العالمي إلى الانهيار.

يشير أتباع كينز إلى أن خفض مستويات المعيشة خلال مرحلة الركود لن يعمل سوى على تعميق وإطالة مدة الركود. وهذا صحيح إلى حد بعيد. لكن النقديين محقون هم أيضا في إشارتهم إلى أن السياسات الكينزية للتمويل بالعجز هي وصفة لرفع معدل التضخم وستؤدي في نهاية المطاف إلى مفاقمة الأزمة.

في ظل الاقتصاد الرأسمالي لا توجد الكثير من المحفزات للاستثمارات الخاصة عندما تكون أسعار الفائدة قريبة من الصفر، ويكون العجز العمومي كبيرا جدا. ومن المثير للسخرية أن اقتصاديا مثل جيف ساكس، وهو نفسه الرجل الذي أطلق عنان الليبرالية الجديدة في أوروبا الشرقية، قد صار يدعو الآن إلى تطبيق نسخة جديدة للخطة الجديدة[5] على الصعيد العالمي. إن هذا انعكاس ليأس البورجوازية التي تشعر بأنها في مأزق. إن الطبقة السائدة منقسمة على نفسها حول ماهية الإجراءات التي يجب اتخاذها للتغلب على الديون الضخمة التي تقف فوق رأس الاقتصاد الأمريكي وكأنها سيف داموقليس المرعب.

لقد دق إغلاق الحكومة الأمريكية ناقوس الخطر في الأوساط البرجوازية على الصعيد الدولي. فرئيس البنك الدولي، جيم يونغ كيم، سماه بـ «اللحظة الخطيرة جدا... يمكن للتقاعس عن الفعل أن يؤدي إلى ارتفاع أسعار الفائدة، وانخفاض الثقة وتباطؤ النمو». ووجهت رئيسة صندوق النقد الدولي، كريستين لاغارد، تحذيرا أكثر وضوحا عندما قالت إن الجمود في الكونغرس الأميركي يهدد برمي العالم في ركود جديد. وبدأ الدولار يتراجع أمام العملات الأخرى مع فقدان المستثمرين للثقة فيه.

أدت سياسة الحجز المجنونة تلك إلى تخفيضات في الاستثمار في البحث العلمي والتعليم والبنية التحتية، أي خفضت بشكل كبير في الأشياء التي تحتاجها أميركا أكثر لتحقيق حد أدنى من تخفيض العجز في الميزانية. وطالب اليمين الجمهوري أوباما بالتخلي عن إصلاحاته الصحية الخجولة أصلا. لقد كان الجمود في الكونغرس دليلا واضحا على الانقسام داخل صفوف الطبقة الحاكمة، وهو ما تم تجاوزه مؤقتا، لكنه لم يحل.

يدافع قسم آخر من الاقتصاديين البرجوازيين الآن عن الاعتدال في تطبيق سياسة التقشف أو التخلي عنها، وحماية الفقراء، والرفع من مهاراتهم، وتوجيه الاستثمارات نحو الطاقة الخضراء، الخ. ويهدف هذا إلى زيادة الطلب عن طريق زيادة الاستهلاك. لكن هذه المقترحات تصطدم مباشرة مع المقاومة المريرة من طرف رجال الأعمال والجمهوريين والنقديين.

إن هذه سياسة خطرة جدا، وقد شبهها بعض الاقتصاديين بالموقف الذي واجهه روزفلت عام 1938 عندما اضطره الكونغرس إلى كبح التحفيزات، مما أدى إلى تراجع اقتصادي جديد. في الحقيقة لم تكن خطة روزفلت الاقتصادية هي التي أوقفت الكساد العظيم، بل الحرب العالمية الثانية. لكن هذا الخيار لم يعد ممكنا في الوقت الذي لم يعد فيه الرئيس الأمريكي قادرا حتى على شن غارة على سوريا.

في خطابه عام 2009، اختار أوباما ألا يشير إلى ما تبقى من المنزل المبني على الرمال: «فَنَزَلَ الْمَطَرُ، وَجَاءَتِ الأَنْهَارُ، وَهَبَّتِ الرِّيَاحُ، وَصَدَمَتْ ذلِكَ الْبَيْتَ فَسَقَطَ، وَكَانَ سُقُوطُهُ عَظِيمًا»[6].

هوامش

[1] سوق المشتقات هي سوق المشتقات المالية مثل العقود المؤجلة والتي هي مشتقة من أشكال أخرى من الأصول. وهي عبارة عن عقود فرعية تبنى أو تشتق من عقود أساسية لأدوات استثمارية (أوراق مالية، عملات أجنبية، سلع...الخ) لينشأ عن تلك العقـود الفرعية أدوات استثمارية مشتقة.

[2] هو سياسة نقدية تلجأ إليها البنوك المركزية لتنشيط الاقتصاد القومي، عبر قيامها بشراء الأصول المالية من أجل زيادة كمية الأموال المحددة مقدما في الاقتصاد. [المترجم]

[3] برنانكي، بن شالوم، اقتصادي أمريكي في معهد بروكينغ، تولى مرتين رئاسة الاحتياطي الفدرالي الأمريكي، ما بين 2006 و2014. [المترجم]

[4] منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية (OECD) منظمة تأسست سنة 1948، تضم الآن ثلاثين من الدول المصنعة (الولايات المتحدة، كندا، فرنسا ألمانيا، الخ) [المترجم]

[5] الخطة الجديدة: (the New Deal) سياسة طبقها الرئيس الأمريكي روزفلت للخروج من أزمة 1929. [المترجم]

[6] إنجيل متى 7/ 27 [المترجم]