البراغماتية : المرض المزمن !


غسان الرفاعي
2014 / 3 / 5 - 16:48     

قال لي صاحبي ، وهو يحاورني ( بعد ان قرأ كتابي الاخير : ماركس بدون دوغمائية وبدون تفريط ) ، بلهجة لا تخلو من الاسف على صديقه ( شخصي الكريم ) الذي راح " ضحية الضياع " : انت لاتتكلم الا عن المستقبل … والمستقبل بعيد ! وتطالبنا … وتلح في المطالبة … في حين ان ما نحتاج اليه هو ان نحدد مانريده الان ! ان " نقرر " ما يتطلبه الوضع الحاضر !
ثم استطرد قائلا ، وليس دون بعض نبرة تحمل " التحدي " : من تخاطب انت فيما تكتب ؟ مع من تتكلم ؟ … علينا ان نتوجه الى" الناس "...
الى " الجماهير " التي تخرج الى الشوارع !... حتى " النخب " لا تميل
الى سماعك !
ذهلت حين سمعت ذلك ! ليس لقساوة النقد، لانني اعرف طيبة صاحبي وصدقه مع نفسه اولا ، ومع الاخرين ، ومعي … ولأنني كنت وما ازال على قناعة بعمق ثقافته وغنى تجربته في الحياة وفي مجالات النضال.
ذهلت لان صاحبي لم يدرك ، بعد ، ان " المشكلة" ليست في الناس…
ولا في " الحاضر " …ولا ، بطبيعة الحال ، في " المستقبل "، لا البعيد منه
ولا القريب !
المشكلة الحقيقية ، حسب رايي ، تكمن " فينا "… في اشخاصنا :
نحن " كخلاصة " لتجربة معينة …. لثقافة سياسية معينة .. انتكست : انهارت
في " جوانب " منها. اصابنا الانهيار بتشوهات وبكدمات فكرية وسلوكية لم
نتعاف منها بعد . ذلك لاننا لم نجد ، ولم نجهد كفاية ، لاكتشاف ذاك "الترياق السحري " الذي يعيد التوازن والاستقرار " لروحنا " ولفكرنا !
لا يمكن فهم " بعض " حاضرنا دون نقد " ماضينا" بعمق : بصدق وبشرف ! ف " شتم " المظاهر السلبية في تجربتنا ، وحسب ، لا يجعلنا
نفهم ، ولا يساعد على تلمس حقيقة حاضرنا . ينبغي " نبش "، نعم : نبش وكشف جذور الاسباب لممارساتنا النظرية والعملية التي ادت الى حدوث "الكارثة "! هذا يعني ضرورة تحليل ورؤية شمولية ، علمية لمجمل
الاوضاع المستجدة. فرد الفعل المباشر ، الاني ، على الظاهرات السلبية المباشرة
والانية التي يولدها " النظام " والمجتمع في سياق المسارات اليومية ، التفصيلية ، للاحداث ، لا يقدم، بالضرورة ، علاجا ملائما اذا لم يكن
رد الفعل هذا ( المتمثل بموقف او بشعار ) مستندا الى فهم شمولي للوضع
العام ، في ماضيه وحاضره. فاي شعار او موقف يولد خارج هذه العملية الفكرية يكون من اختراع ذواتنا ! وبالتالي يحمل ارجحية بطلانه او عدم ملاءمته للواقع، لانه ولد من خارج الظاهرة الواقعية. في حين ان المطلوب هو كشف ، او على الاصح اكتشاف " سر " حركة النظام والدولة والمجتمع :
اي ادراك القانون الموضوعي للحركة الاجتماعية التاريخية، وبالتالي السياسية
في كل مرحلة محددة. وتكتسب هذه المنهجية اهمية استثنائية خاصة لان مسار
التطور ، سواء على الصعيد العالمي ، ام في بلداننا ، يمر بمنعطف تاريخي له ميزاته ، بعد الانهيار السوفياتي ، ومع دخول راسمالية الدولة الاحتكارية مرحلة العولمة . على هذا الاساس نؤكد على ان اكتشاف قانون التطور الموضوعي ، الملموس ، وحده هو الذي يعيننا على تلمس الحاضر ، من حيث
الجوهر ، في واقعيته . فادراك هذا الجوهر يساعدنا في تحديد متطلبات الحاضر : اليومية والبعيدة . هذا ليس " هروبا " الى المستقبل ! " فالحاضر" يجب ان يفهم بفهم ماضيه الذي انبثق منه … وتلمس " مستقبله" الذي سيؤول اليه ، بحكم ما تحدده العوامل الموضوعية للتطور بصورة اساسية … وليس بالتأمل … ولا بالتمنيات والامال باي حال من الاحوال !
على قاعدة لوحة الترابط والتداخل والتفاعل بين الماضي والحاضر ، وبين الحاضر والمستقبل، على وجه التحديد والحصر ، يمكن " لفكرنا " ان
يعمل بصورة سليمة ومجدية على صياغة خطة نضال متكاملة في مستواها
الاستراتيجي العام ، وفي مستوى توجهاتها التكتيكية العامة . في هذا السياق
نرى انه من الضروري ان نشير ، في ضوء الالتباسات الناشئة من طرح الشعارات والاهداف العشوائية ، الى انه لا يجوز الخلط وعدم التمييز بين
التوجه التكتيكي العام ، المفترض انه يحدد طبيعة النهج السياسي العام الذي
تتطلبه الاستراتيجية التي صيغت على اساس علمي ، وبين المواقف العملية ، التفصيلية الضرورية الملائمة للعمل اليومي . ومن المفروض ، بل من الطبيعي تماما ، ان يتيح هذا الواقع اقصى المرونة والواقعية العملية للممارسة اليومية في التعامل والتفاعل ، ايجابا او نقدا ، مع مواقف وطروحات سائر
الاطراف السياسية الفاعلة على الساحة الواقعية ، من جهة ، ومع متطلبات
وحاجات القوى الاجتماعية المختلفة التي تسعى قوى اليسار تمثيل مصالحها ، من
جهة ثانية .
بهذا الترابط الديالكتيكي بين " فهم " حاضرنا وبين فهم الماضي والمستقبل نسقط نهج " البراغماتية " السياسية الذي كان سائدا في ممارساتنا،
وما يزال يحكم الكثير من تصرفاتنا ، والكثير من طرائق تفكيرنا، التي تشكل الدعوة الى قصر الهم السياسي على ايجاد " حلول " للمهام المباشرة ، الانية ،
"لحاضرنا " وحسب ، المعزول عن ماضيه ... ودون اي تقدير، نظري ، لما
سيؤول اليه مستقبلا .
لعلي لا اكون مبالغا اذا ما رايت ان النهج البراغماتي هذا قد تضاعفت
خطورته في ايامنا الراهنة. فاليسار ( وتحديدا الشيوعيين ) ما يزال في ازمته... وراسمالية العولمة تعمل بدأب وشراسة على تكييف العالم والشعوب تكييفا شاملا : سياسيا واقتصاديا وفكريا ، وفق مبدأ ابدية الراسمالية ونهاية التاريخ ! وهذا الضغط يترك ، لا شك ، اثره . من هنا نرى ان مقاربة المهام النضالية الراهنة والمستقبلة لا يمكن ان تكون ناجعة وفعالة الا وفق استراتيجية
شاملة ، مواجهة لاستراتيجية العولمة ، على النطاق العالمي ، مع صياغات ذات خصوصية وفق الشروط الملموسة في كل بلد ، تدقق على اساس المنهجية العلمية ، التي هي تحديدا المنهجية الماركسية : المادية الدياكتيكية . وهذه الاستراتيجية هي التي تحدد طبيعة النهج التكتيكي العام واشكال وصيغ ممارسة العمل اليومي بصورة ملموسة وفق خصائص المكان والزمان الملموسين .
في هذا الضوء يتضح مدى التبسيط الذي تتسم بها الدعوات لحصر النضال وقصره على مهام الحاضر المبالشر وحسب . في حين ان المنعطف
التاريخي الذي يمر به عالمنا، وبلداننا، يطرح على طاولة البحث النظري، وفي ساحة النضال السياسي ، جملة من القضايا والمشاكل الجديدة التي تحتاج منا جهدا فكريا فعليا وضروريا لفهمها وتحديد مفاعيلها ، واستخلاص المهام
السياسية والعملية التي ينبغي بلورتها وادخالها في اجندة نضالاتنا الاستراتيجية والتكتيكية .
هذا الجهد النظري ، الضروري والمطلوب حسب تقديرنا وقناعتنا العميقة ، هو مسؤولية جماعية وليس خيارا ذاتيا . انه ضرورة موضوعية تتطلبه المتغيرات الكبيرة الحاصلة على الصعيد الدولي والمحلي . وعدم ادراك ذلك يعني اننا امام خطر تكرار " خطيئتنا المميتة " السابقة من جديد في قضايا التطور الاجتماعي السياسي لبلداننا بالتمسك بمفاهيم نظرية جامدة ، ادعت من حيث الشكل انها ماركسية ، لكنها ظلت غريبة عن الروح الحية النقدية الكشافة لنظرية ماركس.
علينا الاعتراف بان طغيان هذا الميل " البراغماتي " على ممارساتنا ، نحن قوى اليسار عموما ، والشيوعيين بخاصة ، انما يعود ، اساسا ، في جذوره ، حسب ما ارى ، الى التكوين الفكري ( النظري ) الذي قامت عليه احزابنا . اذ اقتصر هذا التكوين على حفظ بعض النصوص وتلقين بعض العبارات العامة من الادبيات الكلاسيكية الماركسية ، دون استيعاب منهجية البحث الماركسية. وقد اضفنا الى هذا " التراث " التشوهات التي ادخلتها المقاربات والممارسات العملية ، ذات الطابع الذاتي والعمومي ، التي تعاملنا بها مع الظاهرات السياسية والاقتصادية والاجتماعية في بلداننا . وما كان لكل هذا الخلل والانحرافات في نهجنا العام الا ان يؤثر ، بهذه الصورة او تلك ، بهذه الدرجة اوتلك ، على الفعالية السياسية للنضالات التي خاضتها هذه القوى طيلة عشرات السنين، وان تبدد ، الى حد كبير، التضحيات الجسام في هذا السبيل . وقد ادى هذا النهج الخاطى ، فوق ذلك، الى التباسات في العلاقة مع الجماهير ،
وفي طريقة التعامل معها ...، رغم ان المنطق العام : المبدئي ، الذي حكم ، باستمرار، نهج هذه القوى كان الاعتماد على دور الجماهير، وضرورة العمل في
الوسط الجماهيري. بيد ان الفهم الجامد لمبدأ النضال الطبقي، من جهة ، وخضوع
ممارساتنا لنهج " رد الفعل " على الحدث السياسي المباشر : اليومي ، مع غياب استراتيجية عامة ، مبررة نظريا ، تسند وتوجه " رد الفعل " هذا ، من
جهة ثانية ، قد اعاق ، بل خرّب امكان بناء علاقات ترابط والتحام حقيقية :
" عضوية " ، لها ثباتها واستمراريتها بين الحزب الشيوعي والجماهير. انني
احاول ان احصر كلامي واركزه ، هنا : في مقاربة ومعالجة ، الوضع الداخلي في الاحزاب ، ولا اعالج خطة الهجوم والحصار السياسي والاعلامي الذي يوجهه العدو علينا : لعزلنا عن الجماهير ( وهذا موضوع آخر بالغ الاهمية يتعلق بخوض الصراع على الجبهة الايديولوجية ، دفاعا او هجوما ) ... ان الذي اسعى اليه في هذا المقال هو التاكيد على ان الفهم الجامد للمبدأ الماركسي الصحيح عن الانقسامات الطبقية والصراع الطبقي في المجتمع قد اسفر عن تفسير خاطىء
متعسف لهذه الانقسامات ومفاعيلها : اذ اعتبر الانقسام الذي يتحدد على صعيد
عملية الانتاج ( على اساس ملكية وسائل الانتاج من عدمها ) يفرض ، وتتوازى معه ، زمنيا ، وبصورة تلقائية ، عفوية ، حالة انقسام وتعارض مبلورة على الصعيد الايديولوجي كذلك ، في الوسط الجماهيري . في حين كان ينبغي ان لا ننسى ، بل ان نأخذ بعين الاعتبار ان تحول الطبقة العاملة " ... من طبقة بذاتها الى طبقة لذاتها " ، حسب تعبير ماركس الدقيق والعميق ، هو عملية اجتماعية – سياسية لها استقلاليتها النسبية . اذ انها لا تولد بصورة تلقائية ، عفوية، من خلال سريان عملية الانتاج المادي المباشر في المجتمع ... بل انها تتطلب ، لاستكمال مسارها ونضجها، بذل جهد فكري ( علمي) وعملي خاصين. فهذا الايديولوجي " الجديد" الذي يسعى الى ايجاد مجال له في المجتمع لا يصطدم فقط ، بصورة مباشرة ، بالايديولوجية البورجوازية التي تبرر وتسوّغ نمط الانتاج الراسمالي اقتصاديا واجتماعي ا وسياسيا واخلاقيا... بل انه يعاق كذلك ، بكثير من العناصر المكوّنة تاريخيا في الوعي الاجتماعي السائد في كل مجتمع بخصائص ذات اصالة مميزة في كل حالة خاصة . فلا وجود " لفراغ ايديولوجي " في اي مجتمع !
بالاضافة الى ذلك ، كان على " رؤيتنا النظرية " ان تتلمس بان "الانقسامات الطبقية " في مجتمعاتنا، بحكم تخلف بنياتها الاقتصادية – الاجتماعية لم يتبلور فيها ، بعد ، كيان الطبقات ، بخصائصها الراسمالية ، بصورة واضحة، محددة وقاطعة . وبالتالي كان من العبث الفكري والعملي ( السياسي ) تأسيس نهج نضالي نقيمه على صياغات نظرية مبنية على انقسامات طبقية في مجتمع راسمالي ناضج . لقد كان خطأ فادحا عدم التمييز بين الوعي الاجتماعي العام ، اي الوعي الواقعي السائد ، وبين " الوعي الطبقي" الذي هوالصياغة النظرية المعبرة عن المصالح العامة ، القريبة والبعيدة لطبقة محددة في المجتمع . في حين ان الوعي الاجتماعي العام ( في مجتمعنا او في اي مجتمع آخر ) هو نتاج تاريخي مركب ، تتداخل في تكوينه آراء وتفسيرات فلسفية ودينية وطائفية ... وقومية ، وعادات اجتماعية وتقاليد ومبادىء اخلاقية معينة وعصبويات قبلية ومناطقية وعائلية ... تكونت وتفاعلت فيما بينها عبر الاجيال ، وماتزال تتكون وتتفاعل في وقتنا الراهن، عبر عملية " شبه عشوائية ". وهذه العملية لا تترك آثارها وبصماتها على المجموعات البشرية ككتل ( القبيلة .. الشعب . الامة ) وحسب ، بل ان لها ايضا تاثيراتها في التكوين الفكري والنفسي للافراد في المجموعة البشرية المعينة .
هذا الوعي الاجتماعي الواقعي بالذات هو ما كان ينبغي ان يكون موضوع اهتمامنا وبحثنا لنحسن التعاطي معه : " لتكييفه وتطويعه " ، ان جاز القول ، في عقول الفئات الاجتماعية ذات المصلحة، ليتحول الى قوة فاعلة تقدمية في العمل الاجتماعي والسياسي . واي محاولة لتجاهل التاثير على هذا الوعي الاجتماعي الواقعي وعلى دوره في العملية السياسية ، وفق خطة متكاملة طويلة النفس ، انما تعني ترك الجماهير تحت تاثير مختلف الاتجاهات والتيارات السياسية والفكرية التي قد تحمل اضرارا على العملية السياسية والاجتماعية ، قد توازي او تفوق محاولات " زرع الوعي الطبقي" المستمدة من المفاهيم العامة المجردة التي مارسناها نحن سنوات طويلة .
في ضوء مجمل هذه الرؤية العامة نستطيع ان نؤكد ان رفع شعار ما، او تحديد موقف سياسي ما من هذه القضية او تلك ... وخصوصا في حال تحديد نهج سياسي عام ، لا يمكن الركون فقط الى التقديرات التخمينية الذاتية الخاصة ، حتى لو كانت هذه التقديرات تستند الى تجربة وممارسة نضالية طويلة . لابد ان تؤخذ بعين الاعتبار ، قبل رفع اي شعار او تحديد اي موقف ، مجمل العناصر الرئيسية التي تشكل وتتحكم ببناء مجمل العلاقات السياسية ، الداخلية والخارجية في المجتمع المعين ، مع ضرورة المتابعة المستمرة للتغيرات التي يمكن ان تطرأ على دور كل من هذه العناصر . دون ذلك لا ضمانة لصحة اي شعار او نهج . وبالتالي لا ضمانة لتأمين الاساليب والخطط لتحويل الشعار الى فعالية عن طريق اختراق العوائق التي تشكلها عناصر الايديولوجيات السائ في المجتمع ذات التاثير على عقول وقناعات الجماهير صاحبة المصلحة .
هذا احد اشكال تحول السياسة الى " فن "، كما اشار ، مرة ، لينين. وهو، في الوقت نفسة ، الوسيلة الناجعة لمحاربة البراغماتية التي هي احد اوجه الجمود العقائدي . ان الالتزام بهذه المنهجية في الوقت الذي يؤمن المنطلق المبدئي، يتيح لقوى اليسار الحضور الفعال والمرن مع ادق تفاصيل العمل اليومي المسنود والمحتضن جماهيريا .


غسان الرفاعي -- لبنان





تأكيد ان الفهم الجامد للمبدأ الماركسي الصحي عن الانقسامات الطبقيةوالصراع الطبقي في المجتمع ، قد اسفر عن تفسير