هل حقا فنزويلا تحترق؟


أشرف عمر
2014 / 2 / 23 - 12:39     

ترجمة أشرف عمر
الناشر وحدة الترجمة – مركز الدراسات الاشتراكية



تشهد اليوم مدينة كاراكاس، عاصمة فنزويلا، انتفاضة للطبقات الوسطى والأغنياء. أما أحياء الطبقة العاملة، فتظل موالية للحكومة، لكن أيضاً غير راضية عن الفساد غير المسبوق لورثة تشافيز. يحلل مايك جونزاليز هذا الوضع المتناقض.

لأكثر من أسبوع، تمتلئ الصحف ووسائل الإعلام العالمية بصورٍ لألسنة اللهب المتصاعدة في فنزويلا، حيث الحافلات المشتعلة والمظاهرات الغاضبة والمباني العامة المُحاصرة. لكن لا تُقدَّم أي تفسيرات لهذه الصور التي لا توضع في أي سياق، فيُترك الناس للاعتقاد بأن هذه موجة أخرى من الاحتجاجات، أو تمرد شبابي ضد الأزمة مثلما نشهد في اليونان وإسبانيا.

لكن الواقع مختلف تماماً وأكثر تعقيداً من ذلك؛ ففنزويلا، قبل كل شيء، قد أعلنت الحرب على الليبرالية الجديدة منذ 15 عاماً مضى.

تُعتبر العاصمة كاراكاس، حيث بدأت سلسلة من الأحداث، مدينة منقسمة. ففي حين أن المنطقة الشرقية منها مزدهرة وتقطنها الطبقة الوسطى، إلا أن المنطقة الغربية أفقر. وينعكس هذا الانقسام الاجتماعي في انقسام سياسي أيضاً.

كان ليوبولدو لوبيز، الذي يتزعم المعارضة العنيفة لحكومة نيكولاس مادورو، والذي كان محافظاً لإحدى المقاطعات الشرقية، قد دعا، بالاشتراك مع ماريا كورينا ماخادو، وهي من أبرز اليمينيين المعادين لتشافيز، إلى اجتماع عام مفتوح، الأحد الماضي، للمطالبة بإسقاط الحكومة. وكانت الفرصة سانحة، في يوم الشباب الأربعاء 12 فبراير الجاري، لقدوم الطلاب للتظاهر في مسيرات ولاحتلال الشوارع.

تمركزت أغلبية المتاريس في مناطق الطبقة الوسطى، أما الطلاب الذين قاموا ببنائها فهم إما طلاب الجامعات الخاصة، أو الجامعات الحكومية التي فصلت في الآونة الأخيرة أعداداً كبيرة من الطلاب الأفقر. فيما لم يحدث شيءٌ يُذكر في المناطق الفقيرة غربي العاصمة.

في الأيام القليلة الماضية، صار المضمون الطبقي لهذه الاحتجاجات أكثر وضوحاً. فقد هوجمت الحافلات الحكومية، التي تقدم خدمات نقل آمنة ونظيفة برسوم رخيصة، وأُحرق نحو 50 منها يوم الجمعة 21 فبراير فقط. وفي نفس اليوم، حوصرت الجامعة البوليفارية، التي يتعلم بها أولئك الذين أُقصوا من نظام الجامعات، إلا أن المتظاهرون لم يتمكنوا من اقتحامها. وفي الكثير من المناطق، هوجم العاملون الكوبيون في نظام باريو أدينترو للصحة بوحشية. وفي تطور يثير الفضول، توجه مناصرو تشافيز لحماية الجدارية الرائعة للمهندس الشيوعي فروتو فيفاس بمدينة باركيسيميتو ضد محاولة تدميرها.

رد مادورو وحكومته بإدانة تصاعد أعمال العنف التي ينظمها الفاشيون والمدعومون من الولايات المتحدة. هناك بالتأكيد عناصر متطرفة اشتركت في ذلك في محاولة لزعزعة الاستقرار، ومن ضمن هؤلاء عسكريون سابقون وثيقو الصلة بتجارة المخدرات توسع نفوذهم في هذا البلد الذي يتنشر فيه السلاح.

لكن، لماذا اختارت قوى اليمين هذا التوقيت بالذات للنزول إلى الشارع؟ دافع أساسي وراء ذلك هو الضعف البادي على حكومة مادورو، وبالأخص على مادورو نفسه. وليس خفياً على أحد أن هناك، خلف ستار الوحدة، صراعٌ على السلطة داخل الحكومة بين المجموعات المؤثرة والمسيطرة على الثروة، ذلك الصراع الذي بدأ يحتد في الشهور الأخيرة قبل وفاة تشافيز. لقد توسع العسكريون داخل الحكومة بشدة، وهؤلاء تسيطر عليهم بالأساس المجموعة الملتفة حول ديوسدادو كابيلو. أما رئيس شركة النفط ونائب الرئيس لشئون الاقتصاد، رفائيل رودريجيز، فهو الآخر يحوز سلطة اقتصادية هائلة بين يديه. وهناك آخرون غيرهم.

في نفس الوقت، تدور المعركة من أجل السلطة داخل قوى اليمين نفسها؛ فكافة القادة البارزين لهذه القوى (ليوبولدو لوبيز، وكريستنيا ماخادو، وكابريليس) هم أبناء أكثر القطاعات ثراءاً في البرجوازية – لكنهم متنافسون أيضاً. لوبيز وماخادو يسعيان إلى ما يسميه البعض بـ”انقلاب ناعم”، حيث إرباك الأوضاع الاقتصادية بجانب التحركات المستمرة في الشوارع لتعميق ضعف الحكومة. أما كابريليس، فهو متردد بشأن دعم المظاهرات، وفي المقابل يطرح “حكومة وحدة وطنية”، فيما يبدو أن مادورو متشبث بذلك. فمنذ أسابيع قليلة، التقى مادورو برجل الأعمال ميندوزا، وهو واحدٌ من أكثر الرأسماليين ثراءاً في فنزويلا، وقد أبدت قطاعات من البرجوازية تأييداً له. وهذه الاستراتيجية تدعمها رموزٌ هامة داخل الحكومة وحولها.

وبناءاً على ذلك، تتخذ الحكومة موقفاً يدعو إلى “السلام”، وهذا الموقف يجد صداه لدى أعداد واسعة من الفنزويليين الذين تظاهروا دعماً لمادورو، والذين كان هتافهم “لن يعودوا” مهماً للغاية. فهم يرون في قادة الاضطرابات الراهنة نفس الأشخاص الذين طبقوا البرامج الاقتصادية التي دمرت حياتهم في التسيعينات، قبل تشافيز، والذين حاولوا تدمير حكومته مرتين من قبل. لكن في نفس الوقت لم يُحدد بعد المعنى المقصود من هذا “السلام”. هل يعني القضاء على المشكلات الحقيقية التي يواجهها الشعب، والفصل بين الشرائح المتدنية من الطبقة الوسطى والبرجوازيين الذين نصبوا أنفسهم قادة عليهم؟ أو هل يتحقق هذا “السلام” من خلال التوافق مع الطبقة البرجوازية، التي ربما يمثلها كابريليس، والذي بالطبع لا يربطه أي التزام على الإطلاق بالاشتراكية أو غير ذلك؟

إن استخدام العنف ليس جديداً على اليمين الفنزويلي؛ ففي 11 أبريل 2002 نظمت قوى اليمين انقلاباً ضد تشافيز وتولت السلطة، وجاءت مناشدات الإعلام بقتل قادة مناصري تشافيز متسقةً مع ما كانوا على استعداد للقيام به. حظى الانقلاب بدعم قطاعات من الجيش، والكنيسة، واتحاد أصحاب العمل، ومنظمة النقابات الفاسدة، والسفارة الأمريكية. لكنه فشل في النهاية بعد نزول الفقراء والطبقة العاملة لاستعادة تشافيز إلى رأس السلطة.

وبعد تسعة أشهر، مُنيت محاولة تدمير صناعة النفط، وبالتالي تدمير الاقتصاد ككل، بالهزيمة، مرة أخرى نتيجة الحراك الجماهيري لأغلبية الفنزويليين الذين كانت أصواتهم قد حملت تشافيز إلى السلطة.

هل المشهد الراهن هو تكرار لسيناريو أبريل؟ بين 2002 و2013، فشل اليمين في إزاحة تشافيز. وعلى العكس، تصاعد التأييد الانتخابي له بثبات حتى وفاته العام الماضي. بعد ذلك فاز خليفته مادورو بالانتخابات الرئاسية أبريل 2013. لكن هذه المرة جاء الفارق بينه وبين المرشح اليميني، انريكي كابريليس رادونسكي، حوالي 250 ألف صوت فقط (أقل من 1%).

كان ذلك تعبيراً عن الإحباط والغضب المتناميين بين مؤيدي وأنصار تشافيز. فقد شهد العام 2012 معدلات تضخم اقتربت من 50% (وفقاً للتقارير الرسمية)، زادت بعد ذلك خلال العام الماضي. واليوم تزيد قيمة “سلة السلع الأساسية” بنسبة 30% عن الحد الأدنى للأجر في فنزويلا – هذا إن وُجدت أصلاً هذه السلع في الأسواق والمحال التجارية. ويمكننا أن نخمن أن هذا النقص في السلع، جزئياً، بسبب الرأسماليين أنفسهم – مثلما حدث في تشيلي 1972. والجزء الآخر بسبب ارتفاع كلفة الواردات التي تشكل نسبة متزايدة مما يُستهلك في فنزويلا. وهذا لا يتضمن السلع الترفيهية والكماليات، بل الطعام واستخدام التكنولوجيا وحتى الوقود.

كل ذلك إنما هو تعبيرٌ عن أزمة اقتصادية تنكرها الحكومة تماماً، بينما هي واضحة للجميع. يأتي التضخم نتيجة تدهور قيمة العملة الفنزويلية (البوليفار)، بسبب حالة الشلل الاقتصادي القائمة. والحقيقة أن إنتاج أي شيء في فنزويلا من الناحية العملية شبه متوقف، باستثناء النفط. صناعة السيارات، على سبيل المثال، يعمل بها حوالي 80 ألف عامل، إلا أن الإنتاج وصل إلى 400 سيارة فقط في بداية 2014 – ما يمكن إنتاجه في نصف يوم عمل.

كيف يمكن أن يكون هذا البلد ذو الاحتياطي الأكبر من النفط في العالم، وربما الغاز أيضاً، غارقاً في الديون للصين، وليس قادراً على تمويل التطوير الصناعي الذي وعد به تشافيز في خطته الاقتصادية الأولى؟

الإجابة سياسية أكثر منها اقتصادية. فتفسير ذلك هو الفساد الواسع على نطاق يفوق التصور، ممزوجاً بعدم الكفاءة وغياب أي نوع من الاستراتيجية الاقتصادية. في الأسابيع الأخيرة كان هناك استنكار عام من المضاربين والمُهرّبين الذين يأخذون النفط، وكل شيء آخر تقريباً، عبر الحدود الكولومبية. كما نُشرت الكثير من التقارير المفزعة عن “اكتشاف” آلاف العبوات من الطعام الفاسد. لكن كل هذا معروفٌ منذ سنوات، ومن المعروف جيداً أيضاً أن قطاعات من الدولة والحكومة متورطة في كل هذه الأنشطة.

وعد تشافيز بتأسيس سلطة شعبية، وباستثمار الثروة النفطية في برامج اقتصادية جديدة. والحقيقة أن برامج الصحة والتعليم الجديدة كانت تمثل مصدراً للفخر وضمانة لاستمرار تأييد غالبية الفنزويليين.

واليوم، يذهب كل ذلك أدراج الرياح، حيث تُوجه عائدات النفط الفنزويلي لتغطية كلفة الواردات باهظة الثمن على نحو متزايد. وبدلاً من كل ذلك، صعدت طبقة بيروقراطية جديدة هم أنفسهم المضاربون والمتحكمون في هذا الاقتصاد الفاشل. اليوم، مع تصاعد العنف، كثيراً ما نرى من يلقون خطباً شرسة ضد الفساد مرتدين الكاب والقميص الأحمرين المميزين للتشافيزيين.

إن مليارات الدولارات التي اختفت في السنوات الأخيرة، والثروات الطائلة التي راكمها الزعماء التشافيزيون، هي إشارات واضحة أنهم آثروا مصالحهم. في نفس الوقت، انكمشت مؤسسات السلطة الشعبية وذبلت إلى حد بعيد. وكل الوعود بتحكم المجتمع، وبالسيطرة من أسفل، وبالاشتراكية التي تفيد كل المواطنين، كانت مجرد شعارات جوفاء.

يطمح اليمين إلى استغلال حالة الإحباط وخيبة الأمل الناتجة عن كل ذلك. لكن عدم قدرته على تحريك أعداد مؤثرة من الطبقة العاملة لهي مؤشر على ولاء العمال الشديد لمشروع تشافيز، إن لم يكن لخلفائه الذين عيّنهم بنفسه – برغم أن التحول المفاجئ للحكومة بين عشية وضحاها إلى الشفافية لا يزال غير مرضي بالنسبة لهم. والحل لا يمكن أن يكون عبر تحالفات غير مبدئية مع أعداء التشافيزية، ولا عن طريق الترحيب بالشركات متعددة الجنسيات مثل سامسونج لاستغلال العمالة الفنزويلية الرخيصة في تجميع أجهزتهم. ما يمكنه إنقاذ المشروع البوليفاري، وإحياء الأمل الذي بثه في الكثيرين، هو التخلص من المضاربين الفاسدين والبيروقراطيين وبناء سلطة شعبية، من أسفل إلى أعلى، على أساس الاشتراكية الحقيقية، حيث المشاركة الديمقراطية في رفض إعادة إنتاج أساليب وقيم الرأسمالية التي كشف الشباب الثوري عوارها في اليونان وإسبانيا والشرق الأوسط.

سأترك الكلمة الختامية لواحد من النشطاء القياديين الشعبيين، رونالد دينيس: “إما أن نحوّل هذه اللحظة إلى فرصة خلّاقة لتنشيط إرادتنا الثورية الجماعية، أو أن نودع التاريخ الجميل، والمؤلم، الذي عشناه طوال الخمسة والعشرين عام الماضية”.