حمة الهمامي يشهر إسلامه


محمد المثلوثي
2014 / 1 / 22 - 23:47     

عندما كان حمة الهمامي متحالفا مع الاسلاميين، كان كل من ينقده يصنف على اعتباره خادما موضوعيا "للفاشية النوفمبرية". اليوم حمة الهمامي يتحالف مع البقايا المتحولة للفاشية النوفمبرية في معارضته للاسلاميين، وكل من ينقده يصنف على اعتباره يقدم خدمة "للفاشية الدينية".
يقول المثل "من مدح ثم ذم فقد كذب مرتين". حسابيا يكون السيد حمة الهمامي قد كذب أربع مرات الى حد الآن. أما في الواقع فحمة الهمامي، ككل السياسيين، مهنته الكذب.
ان التفسخ النهائي للأحزاب اليسارية قد أصبح ظاهرة عالمية لا تحتاج لأي جهد خاص لإبرازها، ذلك أن هذه الأحزاب ذاتها تعترف أنها قد تحولت الى أحزاب ديمقراطية ليبرالية، بل إنها تقف في غالب الأحيان في موقع اليمين الليبرالي بالذات. ولعل تطور الأحداث في تونس كما في عدد من الدول العربية الأخرى، قد أخرج هذه الأحزاب الستالينية/الماوية/ التروتسكية من صورتها المغشوشة كمجموعات راديكالية سرية الى واقع كونها جزء من الأحزاب الرسمية للنظام تتنافس مثل غيرها، في جو ليبرالي محموم، على أخذ نصيب من السلطة. وهي في ذلك لا تتورع عن عقد أكثر التحالفات حقارة (تحالفات مع الجيش في مصر، مع النظام الرسمي في سوريا، مع لوبيات النظام القديم في تونس...)، بل إنها تساند مساندة علنية مفضوحة قوات القمع، منددة بكل الاحتجاجات الجماهيرية التي تخرج عن المشهديات السياسية التي تنظمها من حين لآخر في اطار منازعاتها السلطوية. وهي لا تتوانى عن وصف كل حركة تمرد فعلية غير خاضعة لتأطيرها الحزبي والنقابي كونها "مؤامرات إرهابية" تستهدف "جيشنا الوطني الشعبي" و"الأمن الجمهوري". أو بكون المحتجين هم مجموعة من "المنحرفين"، معلنة في كل مرة عن إدانتها لما يسمونه "الاعتداء على الملكية الخاصة والعامة". ولعزل أكثر القطاعات الجماهيرية تمردا، فإنها ما تفتأ تردد عكاظياتها اليومية حول "النضال المدني السلمي"، وصولا الى مشاركتها في ما يسمونه "الحوار الوطني" الذي لا يمثل في الواقع سوى رجع صدى للميثاق الوطني الشهير الذي كان قد عقده بن علي في أول أيام حكمه.
وفي هذا المستنقع الذي آلت إليه الأحزاب اليسارية يخرج علينا زعيمها التونسي حمة الهمامي مشهرا إسلامه، كما أشهر دون كيشوت سيفه في وجه طواحين الهواء، حتى أن بعض أنصاره ومريديه يرددون كون شيخهم كان منذ البداية "متدينا" غير أنه خير كتمان الأمر لإعتبارات سياسية. بل إن السيد الهمامي في خطاب أمام أنصاره قد وصل الى حد إعتبار نفسه (وبالتالي حزبه وجبهته) ممثل الإسلام "النير" في مواجهة الاسلام "المتحجر" للاخوان المسلمين والسلفيين. وفي غمرة حماسه الإسلامي ذكرنا حمة الهمامي بكون الإسلام قد وحد العرب بعد أن كانوا قبائل صحراوية متوحشة، وأن عمر ابن الخطاب قد أرسى العدل في رعيته...الى غير ذلك من تلك الترسانة الأسطورية التي ترددها كتب التاريخ الرسمي للدولة الاسلامية.
طبعا لا أحد يجحد حق الهمامي في التدين، أو بالأحرى حقه في استبدال ديانته الأرضية السابقة (الستالينية) بديانة محمد ابن عبد الله السماوية، فحرية المعتقد، عكس حرية عدم الاعتقاد بشيء، مكفولة بنصوص كل الدساتير البورجوازية بما في ذلك دستورنا الجديد. لكن هل مازال يحتفظ بحقه في تمثيلية وهمية للعمال وعموم الكادحين؟ هل مازال يحتفظ بحقه في تمثيل زائف لما يسمونه حداثة وتنوير وتقدمية....الخ، أي كل الترسانة الإيديولوجية البورجوازية في عصر تفسخها العالمي هي أيضا؟ وأخيرا هل مازال يحتفظ بحقه في تمثيل ما أقام عليه إمبراطوريته الخاوية: العلمانية، فصل الدين عن الدولة، الديمقراطية....الخ، أي الجمهورية الديمقراطية في زمن انحلالها التاريخي المريع، وظهورها على حقيقتها بصفتها ديكتاتورية رأس المال وممثله التاريخي: البورجوازية العالمية؟
من الزاوية التاريخية فان الإسلاميين محقون تماما في إعتبارهم كون الإسلام ودولته لم ينفصلا تماما. فما يسميه حمة الهمامي توحيد الإسلام للقبائل العربية، هو في الواقع فرض الدولة المركزية وديكتاتوريتها السياسية والاقتصادية على المجموعات البشرية وضمها بقوة السيف الى قطب هيمنة طبقية ممركز مهمته الأساسية تتمثل في تنظيم الاستيلاء على المنتجين سواء كانوا في شكل تجمعات قبلية أو في شكل عشائري صغير. ومن الطبيعي أنه ما كان ممكنا للدولة، في ذلك الزمن، أن تبسط ديكتاتوريتها بدون أن تتلبس رداء دينيا، أي أن تأخذ التراتبية الطبقية شكل التراتبية الدينية. فتوحيد القبائل كان يستوجب توحيد الديانات المحلية المتنوعة في نظام ديني شمولي، وتوحيد الآلهة المحلية في الاه مجرد ومركزي يضفي على السلطة المركزية مشروعيتها الإيديولوجية. وإذا تخلصنا من التاريخ الرسمي للدولة الإسلامية، فإن ما يسمونه الدعوة المحمدية لم تكن سوى حرب دموية تواصلت لقرون من أجل ضم الشعوب والقبائل والعشائر تحت سلطة الدولة في شكلها الإمبراطوري وتحت ممثلها الإلاهي: الخليفة.
من الطبيعي أن يرى اليساريون في كل ذلك الفصل الدموي من الإغتصاب والحروب والسلب والنهب، أن يرو فيه "خطوة تقدمية في التاريخ"، ذلك أن نظرتهم الغائية للتاريخ (وهي جوهريا نظرة دينية) تجعلهم ينظرون دائما لكل وحشية الأنظمة الطبقية وتاريخها في إخضاع البشرية لمركزية الدولة عملا حضاريا وتمهيدا ضروريا للوصول بالبشرية الى يوم خلاصها "الشيوعي". فكل جرائم ستالين مبررة بالنسبة لليسار بما أنها خطوة ضرورية تقترب بها الإنسانية الى جنة الطور الأعلى من الشيوعية، ومساندتها لما يسمونه "البورجوازية الوطنية"، أو إدعائهم بكون البروليتاريا في ثورتها في البلدان المستعمرة وشبه المستعمرة عليها أن تنجز المهام التي عجزت عن تأديتها هذه "البورجوازية الوطنية"، وكل هذا مبني على إعتقادهم بضرورة إنجاز التراكم البدائي للرأسمال في هذه البلدان، وهو ما يعني واقعيا استعادة كل الفصل التاريخي الوحشي الذي من خلاله قامت البورجوازية بإنتزاع ملكية المنتجين وتحويلهم الى يد عاملة "حرة" من أية ملكية لوسائل الانتاج لتكون على ذمة الرأسمال في هوسه المحموم لمراكمة الأرباح. وهذا بتبرير كون ذلك ضروريا للتمهيد نحو يوم الخلاص النهائي: الثورة الاشتراكية. (ليس هنا المكان الملائم لتبيان كون البورجوازية العالمية قد أنجزت، على "أفضل" وجه، كل ما يطالبها بها اليسار على كل الكوكب).
لا شك أن الدين الاسلامي هو "دين الشعب التونسي"، فمن الطبيعي أن الإيديولوجيا السائدة هي إيديولوجيا الطبقة السائدة. ولا شك أن السيد حمة الهمامي يقوم بخطوة تكتيكية ضرورية من خلال تبنيه العلني لهذه الإيديولوجية، ليس من أجل "الاقتراب من الجماهير الكادحة" مثلما يحاول إقناع شبيبته المتململة، بل من أجل أن تعترف به الطبقة السائدة كممثل من ممثليها السياسيين، وتقبل به في جنة حكمها على رقاب الشعب الكريم. فالبورجوازية "التونسية"، بحكم طبيعة تشكلها التاريخي، حيث أنها ومنذ نشأتها لم تجد نفسها في مواجهة الإقطاع وإيديولوجيته الرسمية: الدين، بل في مواجهة طبقة الشغيلة وعموم المفقرين والمهمشين، أي في مواجهة قوة ثورية صاعدة تهدد نظامها ودولتها الهشة، فإنها مثلما اختارت إقتصاديا التحالف مع بقايا الإقطاعيين والملاك العقاريين وكل الفئات والشرائح التي ارتبط وجودها بالوجود الاستعماري، فإنها اختارت الإيديولوجية الدينية كإيديولوجيتها الخاصة، مع القيام بالتحويرات التي أملتها عليها الأوضاع التاريخية الخاصة التي وجدت نفسها في مواجهتها. وهذا ما يفسر الطبيعة المشوهة "لحداثتها" و"تقدميتها". فهي كانت تريد الاحتفاظ بالدين كإيديولوجيتها الرسمية، وفي نفس الوقت كان عليها أن تتخلص من كل السلطة الرمزية لرجال الدين الذين ينافسونها شرعيتها، وطبعا من أجل قطع الطريق أمام أية إمكانية لعودة دولة البايات المتفسخة بطبيعتها. وهكذا سارت البورجوازية "التونسية" في اتجاهات متناقضة بين إجراءات "تحديثية" تضمن لها فتح الطريق أمام اندماجها في السوق العالمية، وبين تمسكها في ذات الحين بكل ما هو محافظ ورجعي لدرء خطر نهوض أفكار ثورية جديدة لم تكن غائبة ولو أنها هي نفسها قد ولدت مشوهة بالنظر لهزيمة الحركة الثورية العالمية والاستيلاء الإيديولوجي الستاليني عليها. وهكذا فان حمة الهمامي لا يفعل بإشهاره لإسلامه "النير" (معتقدا أن ذلك يمهد له الطريق نحو سدة الحكم) سوى إشهاره لتبنيه الإيديولوجية الرسمية للطبقة البورجوازية السائدة.
والهمامي، وكل اليساريين تقريبا، في تبريرهم لهذا الانحطاط الإيديولوجي، يقدمون أنفسهم على أنهم الوريثين الشرعيين لما يسمونه "الجانب النير في الحضارة العربية الإسلامية" (طبعا فالهمامي قد أعلن توبته عن خرافة الطبقات منذ زمان). فنجدهم يقدمون حركات التمرد الثورية التي قامت ضد الدولة الإسلامية على أنها جزء من من "الحضارة الإسلامية"، أي من الإسلام نفسه. وهم في ذلك يعتمدون على خلط إيديولوجي متعمد بين الطبيعة التاريخية الفعلية لتلك الحركات الثورية (تمرد القرامطة، الإسماعيلية، الشيعة، اليزيدية....) وبين يافطاتها الإيديولوجية التي لا تعبر إلا عن المحدودية التاريخية لتلك الحركات وليس عن حقيقتها الواقعية. فهل من الممكن مثلا اعتبار تمرد القرامطة الذين وصلوا الى حد انتهاك مكة لأيام وسرقتهم للحجر الأسود وإلغاؤهم لنظام الميراث الإسلامي وإنهاؤهم لحكم الخليفة بل وحتى إلغاؤهم لإجبارية ممارسة الطقوس الدينية....هل يمكن اعتبار ذلك، مهما كان التزوير التاريخي الذي ألحقه التاريخي الرسمي بهذه الحركة، جزء من تاريخ الإسلام ودولته أم بالضبط تاريخ التمرد على الإيديولوجية الدينية وعلى الدولة راعيتها. وما هي حروب الردة إن لم تكن تمردا على الدولة المركزية الناشئة وما فرضته من نظام جبائي يجعل من القبائل والعشائر مصدرا للثروات الطائلة التي راكمتها الأرستقراطية القرشية بعد تبنيها الرسمي للإسلام، وما كان هذا التمرد ممكنا بدون التمرد على الدين الإسلامي نفسه بصفته الإيديولوجية الرسمية للدولة. وحتى حركات التمرد التي رفعت يافطة الإسلام (أو لنقل تأويلات محددة للإسلام) فإنها في الواقع كانت قد استهدفت الدولة الإسلامية ودينها الرسمي، ولا يمكن خلطها (إلا من باب التمويه الإيديولوجي) بما يسمى "التراث الإسلامي" أو "الحضارة العربية الإسلامية"، أي التاريخ الدموي للدولة ولإيديولوجيتها الدينية التي لم تنفصل عنها مطلقا.
وفي جانب آخر يبرر حمة الهمامي انحداره النهائي نحو الإيديولوجية الدينية بكونه هو ويساره وجبهته يمثلون امتدادا لما يسميه "الفكر النير في التراث الإسلامي". وفي هذا الباب أيضا فانه لا يقدم سوى نفس المغالطات التبريرية القديمة التي سبقه إليها دجالون يساريون أكثر حرفة من الهمامي. فلو عدنا لتاريخ الإسلام ودولته لوجدناه بكل بساطة تاريخ قمع كل التعبيرات المتقطعة للفكر الثوري النقدي. ولا حاجة في هذا المجال للتذكير بما سلطته الدولة الإسلامية من تنكيل على مفكرين مثل ابن رشد، المعري، الحلاج...الخ وعلى فرق ثورية مثل المعتزلة،الباطنية، الإسماعلية....الخ. لكن ماذا كان يقاوم هؤلاء المفكرين وتلك الفرق الثورية؟ ألم يكونوا بالضبط في مواجهة الدولة ودينها الإسلامي؟ وإن محدودية نقدهم للدين، أو اختراق أعمالهم النقدية وحركاتهم الانتفاضية بالإيديولوجية الدينية، هو إضافة لمحدودية المادة التاريخية التي كانت بين أيديهم، ناتج عن قمع الدولة وسيطرة إيديولوجيتها الرسمية، أي الاسلام بالذات؟ لكن حمة الهمامي، مثله مثل أغلب اليساريين، لا يرث من هذا "الفكر النير" سوى محدوديته التاريخية بالذات. بل إنه يشوه كل المحاولات الجريئة التي قام بها هؤلاء المفكرين لتحدي الإيديولوجية الرسمية بأن يدمجهم في الإطار الهلامي، المافوق طبقي، المسمى "تراث إسلامي" أو "حضارة عربية إسلامية"، أي أنه يدمجهم في الدين الإسلامي الذي كانوا يقاومونه بما توفرت لهم من أسلحة عصرهم. وإذا كنا بطبيعة الحال نجد كل العذر لأسلافنا من الثوريين والطبقات المسحوقة كونهم لم يصلوا الى نقد جذري للإيديولوجية الدينية، وأنهم، لهذه الدرجة أو تلك، بقوا عالقين في شراكها، فإننا لا نجد لحمة الهمامي وأمثاله سوى الانحطاط والانتهازية.
من المؤكد أن السيد حمة الهمامي، وكل نخبة إيديولوجيي البورجوازية "التونسية"، إضافة لكونهم مسوخ حقيقيون مقارنة بعمالقة مثقفي البورجوازية الأوروبية زمن صعودها التاريخي، فإنه ما كان لهم أن يمثلوا امتدادا للفكر الثوري للطبقات الكادحة العربية والشرقية عموما مثلما يدعون. وهذا يجد تفسيره لا في محدوديتهم المعرفية (وهذا أمر واقع لامحالة) بل في كون الطبقة التي يمثلونها (البورجوازية "التونسية") ليست سوى الوريث الشرعي لكل الطبقات المضطهدة (بكسر الهاء) السابقة، وأنها منذ ولادتها، مثلما أسلفنا، وجدت مصيرها التاريخي المحتوم في مواجهتها مباشرة. أي أن واقع تفسخها التاريخي لم يكن حصيلة تطورها الخاص، بل وجدته كمعطى مادي جاهز وشرط مسبق لنشأتها بالذات. وهكذا فان تمسكها بتلابيب الإيديولوجية الدينية لم يكن نكوصا لإيديولوجية قديمة في مواجهة انسداد الأفاق التاريخية أمام نظامها، مثلما حصل للبورجوازية الأوروبية خاصة في النصف الثاني من القرن العشرين، بل هي وجدت نفسها تمثل نظاما اجتماعيا في طور أزماته وإختلالاته وتناقضاته المستعصية، أي في مواجهة القوة الثورية التي لم تعد تناصرها بصفتها "عدو عدوها" على حد تعبير ماركس، بل تعارضها بصفتها عدوها المباشر. والهمامي في محاولاته لإعادة بث الروح في الإيديولوجية الدينية لا يفعل سوى ما تمليه الظروف التاريخية على بورجوازية "تونسية" حكم عليها التاريخ أن يكون إعلان ميلادها هو بالضبط إعلان دخولها في احتضارها الأخير.
وحمة الهمامي لا يعثر على الباب الذي منه يدخل الى نقد الإيديولوجية الدينية، ذلك أن هذا الباب يفتح على الجحيم الذي يخشاه الهمامي وعموم اليساريين. لكن الجحيم هنا ليس جحيم الآلهة بل جحيم القوة الهدامة للثورة الاجتماعية. فالمدخل السري الذي لا تستطيع عيون الهمامي رؤيته لنقد الإيديولوجية الدينية هو بالضبط نقد النظام الرأسمالي، نظام عبودية الأجر، نظام الملكية الخاصة، وكل البناء السياسي البورجوازي، أي الجمهورية الديمقراطية التي يحلم بها الهمامي، كما يحلم أي بورجوازي صغير بضربة حظ ترفعه من جحيم البروليتاريا الذي يترصده نحو مصاف عالم الأسياد البورجوازيين.
وإذا كان الاسلاميون (الأكثر ذكاء في كل الأحوال) قد فهموا أنه لن يكون بمقدورهم مشاركة البورجوازية حفلتها التنكرية والسيرك الانتخابي بدون التخلي الذليل عن كل الشعارات التي حشدوا بها أنصارهم المتحمسين في اغترابهم المضاعف، وفهموا أن الإيديولوجية الدينية قد أصبحت جثة متفسخة، ليس بمفعول تطور العلوم التجريبية فحسب، بل خاصة في مواجهة المطالبات الاجتماعية التي ترفعها الطبقات الاجتماعية التي هم غرباء عنها. لذلك فإنهم إختاروا الإقتراب من حمة الهمامي وأضرابه من النخبة "الحداثية" مصورين ذلك في قالب تنازلات "لمصلحة الوطن"، وهي في الواقع تنازلات الإيديولوجية الدينية نفسها للحفاظ على ما بقي لها من شرف مهدور، وحتى يمكنها أن تقوم بأعباء الدفاع عن النظام البورجوازي السائد بعد أن كانت قد خدمت لقرون نظام الأسياد الإقطاعيين. إذا كان الإسلاميون يجرون أذيال أنصارهم "لدار الوسط"، حيث يمكنهم مشاطرة زملائهم من ممثلي البورجوازية "الحداثيين" إدارة الرأسمال ودولته، فإن الهمامي يجر يساره وجبهته حيث يمكنه الحفاظ على شرف مهدور هو أيضا ليسارية أعلنت إفلاسها التاريخي، وفي نفس الوقت المشاركة في وليمة الحكم التي بدأت بشائرها بالحماية الرسمية للدولة التونسية لشخصه وسيارات البورش والمارسيدس....ووراء الأكمة ما وراءها. وهكذا فالهمامي، ككل أبطال ما بعد عصر الفروسية، وبعد أن تخلى عن اشتراكيته الديمقراطية، أي عن الإصلاحية الراديكالية اللينينية التي مثلت عصر الفروسية بالنسبة للحركة العمالية بكل بريقها الجذاب وخساستها الواقعية، ها هو يجاهد أن يكون "مسلما حداثيا"، أي بورجوازيا منافقا. وبما أن نقد الدين في عصرنا البورجوازي غير ممكن بدون نقد النظام الرأسمالي، فإن الهمامي يقف كحمار الشيخ في العتبة لا هو قادر على التدين بجبة حرمل، زمن قيادته للحزب الشيوعي التونسي، ولا هو قادر على الحفاظ على اشتراكيته الديمقراطية (رأسمالية الدولة) التي أصبحت مزحة يتندر بها الاقتصاديون، وبديلا احتياطيا للرأسمال وقت أزماته.
لا شك وأن النضال ضد الاغتراب الديني، بما هو التعبير الإيديولوجي عن الاغتراب الاقتصادي والاجتماعي، هو في الواقع النضال ضد الشروط الواقعية التي تنتج هذا الاغتراب. كما لا شك وأن النضال ضد الإيديولوجية الدينية لا يمكن أن يأخذ طابعه الثوري بدون النضال ضد كل الإيديولوجيات البورجوازية، وخاصة ضد تقسيم طبقة المفقرين الى مسلمين/ كفار، هوية/ علمانية، مؤمنين/ كفار....وإبراز الانقسام الطبقي الفعلي بين مالكي وسائل إنتاج الثروة الاجتماعية وبين منتجيها الفعليين. لكن هذا لا يعني البتة أن نمسخ الفكر الثوري النقدي الى ملحق من ملاحق الإيديولوجية الدينية، أو التنازل عن نقد الدين نفسه بصفته أرقى أشكال الاغتراب التي يمكن أن يصل إليها البشر بتبريرات شعبوية لم تعد تنطلي حتى على الجمهور المستهدف من مثل هذه الخطابات. لكن حمة الهمامي معذور طبعا. فالانخراط في النظام السياسي الرسمي بانتخاباته وبرلماناته وأحزابه وتداوله السلمي على السلطة....الخ لا يترك له خيارا آخر غير الإندماج في الإيديولوجية الرسمية للنظام. أما سوء حظ الهمامي فيكمن في كون كل تكتيكاته التي يعتقد أنها تقربه من الكرسي الموعود، إنما هي في الواقع، إضافة لكونها تدفعه الى المستنقع أكثر فأكثر، فإنها تبعده كل يوم خطوة عن هدفه المأمول، بما أن "العمال" يعرفون مسبقا، وسيعرفون أكثر من خلال تجربتهم، أن حمة الهمامي، مثله مثل غريمه الودود الشيخ راشد الغنوشي، مسلمون حقيقيون، أي متسولو أصوات انتخابية، وممثلون أوفياء لنظام رأس المال الذي يستعبدهم.
أما الدين فسيبقى (حتى إن اتخذ زفرة الكائن المضطهد) مجرد "ماعون صنعة" لكل حشرات السلطويين يمينا ويسارا ووسطا، معتدلين ومتشددين، سلفيين وليبراليين....