نحو تصور للتناقض بين السياسة والدولة


محمد بوجنال
2014 / 1 / 20 - 08:18     


يقول ماركس أن الدولة بناء طبقي يقتضي المنطق تجاوزها إلى السياسي؛ ويقول ماكس فيبر بأسبقية السياسة عن الدولة على مستويي الزمان والمكان .بناء وانطلاقا من ذلك، فالدولة بالمعنى الضيق والطبقي ليست سوى أحد المظاهر السلبية للسياسة التي عمل ويعمل، وفق المسار التاريخي، على مجابهتها وكذا الصراع لإبراز تسلطها وعدوانيتها وطبقية أدوارها وتنظيماتها ومشاريعها مختلف الفئات والطبقات كلما كان هناك وعي بدلالة الوجود. لذا، رأينا انتقال الدولة تلك من مظهر الدولة المقدسة –الملك خليفة الله في الأرض أو أنه أمير المؤمنين -، بفعل صراع الفئات التي من أهمها الشباب، والطبقات رغم تواضع كمها ، الى الدولة/الوطن إنه المظهر الجديد الذي من داخله أصبح يتم تحديد وتحليل القضايا المجتمعية. وفي هذه العملية لا بد من التركيز على"المكان" مفهوما بالشكل البنيوي: المكان الفزيائي،أشكال العلاقات، أشكال العقد الاجتماعي أو الاقتصادي، أشكال الوعي، الفئة ، الطبقة ،المرأة، الإنسان...الخ. بناء على ذلك، فمواجهة الدولة كأحد الأشكال السلبية للسياسة قد تمت وتتم من خلال الشارع في تناقضاته والتربية الاجتماعية بتنميطها، والقواعد السائدة بتقديسها أحيانا وتشريعها احيانا أخرى، واللغة المستعملة بتغميضها وتحنيطها. ومعلوم أن الشارع والبيت والمصنع والإدارة والمقهى والخبر والمدينة والبادية والإنسان هو "المكان" الذي تشكله وتراقبه الدولة تجنبا للإحتجاجات والانتفاضات والثورات؛ هكذا يمكننا القول وباختصار أن "المكان" هو الصراع في شكل وحدة جدلية بين المادي والثقافي التي تفرز لنا حتما شكلا فكريا وعقلانية محددة يتجسدان في حيوية الفواعل الحية من فئات وطبقات التي يتم تصريفها في شكل احتجاجات وانتفاضات في عالمنا الراهن؛ إنها فواعل تتبنى بوعي أو بغيره، أسبقية السياسة على الدولة وأن هذه الأخيرة ما هي إلا الشكل السلبي من أشكال الأولى أو قل تسلطا تمكن من السيطرة على "المكان" واستثماره ومراقبته بشتى الوسائل –يمكن استحضار ماركس، ميشيل فوكو، بورديو،الان باديو، سلافوي زيزيك...الخ – للمحافظة على تنميطه ودلالته الفئوية والطبقبة. بهذا المعنى المادي/الثقافي، عرفت الفواعل الحية، التي منها الشباب، غليانا ترجمته وحولته إلى أشكال احتجاجية وانتفاضات .
هذا الوضع يفرض علينا طرح السؤال: ما معنى الربع الأخير من القرن العشرين وبداية القرن الواحد والعشرين ك"مكان"؟ وبلغة أخرى: ما معنى العالم اليوم ك"مكان"؟ لا شك أنه يمكننا القول بكونه" زمن الانتفاضات وفق تناقضات المكان". هكذا نصل إلى تصور يمكن اعتباره معطى يختلف باختلاف "المكان" الذي هو الفئات والطبقات والجنس والمصنع والأرض وفي نفس الآن يتميز بالتقاطع بين كل تلك المتغيرات، تصور نلخصه في صيغة:" الإنسان يفكر"؛ لكن فيم يفكر؟ ما هو موضوع تفكيره واهتماماته؟ يفكر في كرامته وحريته التي لا يمكن أن تحصل إلا بمواجهة الدولة باعتبارها أحد الأشكال السلبية للسياسة والذي يقتضي،ضرورة، مستوى ما من الوعي لإمكان حصول تحرير "المكان" الذي منه الإنسان ذاته. وعندما نقول أن الإنسان يفكر بحثا عن الأشكال الأرقى للسياسة، فإننا نعاكس الفكرة الشائعة المتمثلة في صيغة:" العالم يفكر"-بكسر اللام- بمعنى أن هذه الصيغة الأخيرة ليست سوى جزء من أجزاء من أجزاء المجموعة- بالمعنى الرياضي- التي هي " الإنسان" الذي ليس من المفروض، ليفكر في أرقى أشكال السياسة،أن يكون عالما بالمعنى الذي تحدده الدولة وهو ما يعني، وبالكاد، استدعاء التعدد والاختلاف الذي تعتبر المعرفة العالمة –بكسر اللام – جزء منه لا كليته.
تباعا لما سبق، يتجسد فكر الإنسان/المكان – الذي يضم الفئات والأجناس والطبقات – في استخدامه اللغة التي ليست، بطبيعة الحال، سوى التعبير عن مكونات"المكان" الذي يترجم في المعيش؛ لذا، فالمطلوب هو ضبط اللغة باعتبارها حامل معيش الإنسان في" المكان"، معيش يتجسد في تجاربه ومذى فعاليته ومعتقداته وايديولوجيته. ومن هنا أهمية تحرير وحماية العلوم الإنسانية لتخليصها من كونها " مكانا" للدولة، وبالتالي خلق شروط "مكان آخر" يمكنها من الصياغة الجادة للمنهج الذي يمكنها من التأسيس لحياة كريمة لكن وفق أحد الأشكال المتميزة والغنية للسياسة أو قل مستقلة عن العلاقة بالدولة. ولا شك أن اللغة، باعتبارها حامل معرفة الإنسان" كمكان"، تتميز بتعدد الاستعمال وبالتالي تعدد مجالات المعرفة. إلا أنه في مجال المعرفة العلمية بالإمكان استعارة وإبداع المفهوم والكلمة على السواء معطيا إياهم دلالة محددة تسمى ب" التعريف" وهو النهج الذي يربط دلالة اللغة بشيء – بموضوع – وبالتالي التخلص من تعدد الدلالات اللغوية؛ هكدا تكلم اينشتين عن السرعة وهيزنبيرغ عن المكان وفوكو عن البيوسلطة والابستيمي وبورديو عن الأيتوس والمجال...الخ. فكل مفهوم لهة دلالته المرتبطة بالمفكر الذي هو "مكان" . أما عندما نستحضر الإنسان المفكر كمجموعة – بالمعنى الرياضي – فالوضع ذاك يستبعد اعتماد أدوات وآليات حصول القطائع بالتعريف والمفهمة ، لكن باعتماد عملية "الإمكان" الذي يتضمن الإمكان المتميز بفعل التجربة المتميزة .
هكذا ، فبالنسبة للدولة كشكل سلبي للسياسة، فالإنسان لا يمكن اعتباره يفكر ما دام خارج دائرة العلماء بمعنى أن الإنسان، بهذا التحديد غير العالم –بكسر اللام – يوجد في مجالات الانخداع والعموميات التي لن تؤدي سوى إلى أشكال من الأخطاء أو قل أنه فكر سلبي شوه ويشوه الحقيقة. لذا، ففي نظر الدولة تلك، المعرفة العلمية هي معرفة الإيمان ب"الواحد" لا الإيمان في أن معطى الوجود يتحدد انطولوجيا في التعدد والاختلاف؛ في حين، واحتراما لطبيعة كرامة الإنسان وتحريره ك"مكان" من تسلط الدولة، تحدده السياسة، باعتباره"المكان" الذي يجب، بمقتضى القوانين الطبيعية، ناهيك عن الاجتماعية، تحريره من قبضة" الواحد". إنه الشكل أو الأشكال السياسية الأرقى التي تمارسها اليوم مكونات المجتمعات، التي منها العربية الراهنة، في مختلف القارات في شكل اتفاضات واحتجاجات للتخلص من "مكان" الدولة والتأسيس الأشكال الأعلى للسياسة التي هي ،حقيقة، طبيعة الوجود المجتمعي والبشري.