اليسارالحقيقي ويسار بروكوست


محمد الخباشي
2005 / 6 / 16 - 13:10     

هل كان ماوتسيتونغ ماركسيا؟ وهل كان هوشي منه غيفاريا؟ وهل كان غيفارا اشتراكيا؟ ... وتتناسل الاسئلة الى ما لا نهاية. لا اعتقد ان نقاش من هو اليساري ومن هو الماركسي... يجب عليه ان ينغمس في هذه الاسئلة العنكبوتية الى ما لا نهاية. ان نعرف ان كان ماركس ماركسيا ام لا، قد لا يجدي. وأن نعرف ان كان فيدل كاسترو اورتودوكسيا قبل ان يقول بأنه شيوعي، قد لا تكون له فائدة على الثورة العربية. بالنسبة لي، هذا النقاش هو في الحقيقة مجرد تمارين في الانشاء. ولكي انأى بنفسي عن التمارين الانشائية، اطمح الى تقديم رؤية قد لا تكون بالضرورة صحيحة، وقد لا تروق الجميع، حول تحديد وتدقيق في مفهوم اليسار.

1- تحديد الطبقة:
تتحدد الطبقة اساسا من خلال موقع عناصرها في عملية الانتاج، فنقول طبقة العمال، طبقة الرأسمال.... أي ان العامل الاقتصادي هو المحدد للطبقة. ولكن اعتقد أن المستوى الاقتصادي، لم يعد وحده المحدد، في التشكيلات الاجتماعية المعقدة، بل ينضاف الى المتوى السياسي والايديولوجي، بل أن الاخيرن قد يغلبان على الاول فيما يخص التحديد الطبقي في تشكيلة اجتماعية معينة. والطبقات الاجتماعية لاتوجد الا في الصراع الطبقي ومن خلاله، اذ يستحيل تصور وجود طبقات خارج الصراع وقبل وجودها في الصراع الطبقي. والقول بأن طبقة معينة تحتل موقعا في العملية الانتاجية، ويعني ذلك تحديدها الاقتصادي، يجعلها تتوفر على موقع نوعي في العلاقات الايديولوجية والسياسية. وهذا معناه ايضا أن الطبقة تتحدد بنيويا بالصراع الاقتصادي والايديولوجي والسياسي، وهي محددات الصراع الطبقي في بنية اجتماعية ما. بمعنى ان الطبقة تتحدد بموقعها في مجمل الممارسات الاجتماعية وبموقعها في التقسيم الاجتماعي للعمل.
يجب التمييز بين وضع الطبقة وتحديدها: إذ يحدث أن يختلف وضعها عن تحديدها البنيوي حين يكون لها وضع لا يتطابق وهذا التحديد: كأن يكون لقسم، ينتمي إلى الطبقة العاملة في تحديده، وضع برجوازي (الأرستقراطية العمالية كمثال ) ويبقى القسم، رغم وضعه البرجوازي، جزءا من الطبقة العاملة، نظرا لأن تحديده لا يرد إلى وضعه الطبقي. كما أن البرجوازية الصغيرة، قد تتبنى في ظروف ملموسة/محددة من الصراع الطبقي، مواقف الطبقة العاملة، إلا أن هذا لا يعني أنها تصبح مكونا لهذه الطبقة أو جزءا (Fraction) منها. وقد تتبنى، في ظروف مغايرة، مواقف البرجوازية، فيكون لها وضع برجوازي. إن دخول الطبقات في شكل من التحالفات، لا يعني أنها قد فقدت تحديدها الخاص، فانتماء البرجوازية الصغيرة، في المجتمعات التابعة، إلى التحالف الشعبي، لا يلغي تحديدها الخاص. بمعنى أن التناقض الثانوي يبقى قائما بينها وبين مكونات هذا التحالف.
أما التناقض الرئيسي في تشكيلة اجتماعية معينة، فيكون بين الطبقتين الرئيسيتين فيها. وتتميز التشكيلة عن نمط الإنتاج، بكونها تشمل عدة أنماط وأشكال من الإنتاج تخضع لنمط مسيطر. أي أن العلاقة بين الأنماط هي علاقة سيطرة، وليست علاقة تجاوز. والطبقتين الرئيسيتين في الصراع الطبقي، في مثل هذه التشكيلة هما طبقتا النمط المسيطر: البرجوازية والطبقة العاملة في نمط الإنتاج الرأسمالي.
ولا تستقل العلاقات بين الطبقات في تشكيلة اجتماعية معينة، عن علاقة هذه الأخيرة بالتشكيلات الأخرى. مثلا، لا يمكن فهم العلاقة بين الطبقات في التشكيلة الكولونيالية( لا ضير ان استعير تعبير مهدي عامل في اشارة الى علاقة التبعية البنيوية بين البنية الاجتماعية في البلدان التابعة مع البرجوازة او الامبريالية تحديدا) إلا من خلال علاقة هذه الأخيرة بالتشكيلات الاجتماعية الإمبريالية. وتحدد العلاقة بين التشكيلتين في إطار العلاقة السببية بين البنيتين المتميزتين، أي في إطار علاقة إنتاج بنيوي، من حيث أن الرأسمالية في مرحلة تطورها الإمبريالي وتوسعها عالميا، قد أدى إلى تحويل البنيات ما قبل رأسمالية في المستعمرات إلى بنيات كولونيالية/رأسمالية تبعية. والتمايز لا يعني أنهما منفصلتين تماما، وإنما يعني غياب التماثل في ظل وحدة بنيوية بين البنيتين.سوف أستعمل البرجوازية الكولونيالية بدون تمييز بين أقسامها(قطاعية، أفقية، منتجة، طفيلية). وأستند إلى علاقة التبعية كمعيارفقط.
كما أنني أستبعد وجود ما يمكن تسميته "بالبرجوازية الوطنية"، لأن هذه الطبقة لم تتبلور أصلا في التشكيلات الاجتماعية الكولونيالية، نظرا لأن بنية علاقات الإنتاج الكولونيالية قد سدت الطريق أمام صيرورتها طبقة مهيمنة وطبقة رأسمالية على النمط الأوربي. ويستند البعض في اعتبار "الطبقة المتوسطة" "برجوازية وطنية"، إلى كونها رأسمالية صناعية "تتناقض" مع برجوازية كولونيالية تتكون من زراعيين كبار. في حين أن هذا التناقض ليس تناحريا، لأن لهذه الطبقة المتوسطة ذاتها طابعا كولونياليا. والخطأ في هذا التحديد يعود إلى منطق التماثل بين البنيتين الكولونيالية والإمبريالية.
إن طبيعة تكون البرجوازية الكولونيالية تنفي إمكانية التماثل بين البنيتين، فالبنية البرجوازية الكولونيالية، تكونت على أثر التغلغل الإمبريالي، كإعادة إنتاج للرأسمالية في التشكيلات غير الرأسمالية، والذي أدى إلى إجهاض التطور الطبيعي للبنيات ما قبل رأسمالية في هذه التشكيلات وتحولت العناصر المكونة لها إلى برجوازية دون القطع الثوري مع أصلها في النمط السابق، فالبرجوازية الكولونيالية بالنسبة (للإقطاع مثلا) في نمط الإنتاج الكولونيالي، تشكل استمرارية له. أي أنها الشكل الطبقي له في ظل علاقات إنتاج كولونيالية.
في حين أن البرجوازية في أوربا، نشأت عبر ثورة اجتماعية ضد النظام الإقطاعي. وقامت بتحويل ثوري للبنيات الاجتماعية، وإقامة علاقات إنتاج جديدة على أنقاض العلاقات الإقطاعية، فتحولت بذلك إلى طبقة مهيمنة. من هنا يمكن استنتاج أنه يستحيل الحديث عن "برجوازية وطنية" مناقضة لبرجوازية كولونيالية في ظل التبعية القائمة بين البنية الكولونيالية والبنية الإمبريالية، والتي هي علاقة تبعية بنيوية تنتمي فيها البنيتين إلى وحدة بنيوية، هي الرأسمالية العالمية. كما أنه لا يمكن إطلاقا أن تتضمن صيرورة البنية الكولونيالية إمكانية تطور حقيقي نحو رأسمالية مماثلة للرأسمالية الغربية. ذلك أن البرجوازية الكولونيالية لم تصل إلى الهيمنة الطبقية بفعل ثورتها على النظام السابق ، بل بفضل السيطرة الاستعمارية التي أقامت علاقات إنتاج جديدة هي العلاقات الكولونيالية، دون القضاء الكلي على العلاقات الإنتاجية ما قبل رأسمالية والسبب يعود إلى حاجة نمط الإنتاج الكولونيالي إلى العلاقات ما قبل رأسمالية لإعادة إنتاج ذاته كنمط مسيطر في هذه البنية. ولحاجة البرجوازية الكولونيالية إلى إعادة إنتاج العلاقات الاجتماعية الكولونيالية من أجل الإبقاء على سيطرتها الطبقية. إن هذه السيطرة، تبقى متوقفة على تبعيتها الطبقية، من جهة الامبريالية، وبشكل رئيسي على التبعية البنيوية بين البنيتين. فالتبعية هي شرط سيطرتها الطبقية وهي تبعية طبقية بنيوية. إلا أن التبعية الطبقية ليست هي المحدد الرئيسي، إذ أنه في ظروف الأزمة السياسية للبرجوازية الكولونيالية، أي ازمة سيطرتها الطبقية، يحدث أن تصل الطبقة المتوسطة/البرجوازية الصغيرة إلى السلطة وإلى فرض سيطرتها الطبقية كطبقة مسيطرة. ورغم أنها في حالة ملموسة، تكن العداء للامبريالية، فهي تتموقع على نفس الأرضية الأيديولوجية للبرجوازية الكولونيالية، وان لم تكن لها علاقة تبعية طبقية بالامبريالية. أي أنها تدور في نفس حلقة التبعية البنيوية لأنها لم تقطع الأساس المادي لهذه التبعية وهي العلاقات الكولونيالية التي هي نفسها أساس سيطرتها الطبقية. اذ يستحيل بمنطق التاريخ، أن تتحول طبقة سند(Classe-Appui) ليس لها مشروع مجتمعي بديل إلى الهيمنة الطبقية. وحلول البرجوازية الصغيرة محل البرجوازية الكولونيالية في السلطة، وفي السيطرة الطبقية هو مجرد استبدال طبقي ليس إلا.
ومما سبق يتضح أن التبعية البنيوية هي شرط السيطرة الطبقية لكل من البرجوازية الكولونيالية والبرجوازية الصغيرة. وتبقى هذه التبعية قائمة باستمرار علاقات الإنتاج الكولونيالية. ولا يغير الاستبدال من طبيعة هذه التبعية، إذ أن حلول سلطة/سيطرة طبقة محل البرجوازية الكولونيالية، مع الإبقاء على علاقات الإنتاج، لا يؤدي قطعا إلى فك التبعية، بل إلى تجدد البرجوازية الكولونيالية. وذلك لأن إعادة إنتاج الطبقات الاجتماعية يكون بإنتاج عناصرها، ولكن ليس حسب إرادتها، بل حسب مواقعها. لذلك فإعادة الإنتاج تكون بشكل رئيسي بإعادة إنتاج الأماكن التي تحتلها هذه العناصر.
إن فك التبعية لن يكون من فعل البرجوازية الكولونيالية ولا البرجوازية الصغيرة/الطبقة المتوسطة، وإنما بتحطيم أساس السيطرة الطبقية لهذه الطبقت بالذات. وهو التحويل الثوري لعلاقات الانتاج الكولونيالية، أي بالانتقال الى الاشتراكية.

لماذا كل هذا الكلام النظري؟
برزت تنظيرات تسعى الى تحديد مفهوم يساري كوعاء مرن ومطاطي، يتسع لكل تيار يقول "لا"، وهذا طرح غير سليم. ونقرأ لدى البعض ان اليسار تحدده ثلاثة ابعاد : بعد دولي تجلى سابقا في الارتباط بالاتحاد السوفياتي، وبعد اقتصادي واجتماعي، وبعد تنظيمي. وبالنسبة لهذه التنظيرات، يعني سقوط الاتحاد السوفياتي، وعودة الرأسمالية الى روسيا، الغاءا للبعد الدولي في تحديد اليسار. والاخطر من ذلك حين نقرأ ان البعد الاقتصادي والاجتماعي يلغيه ميل الصراع الطبقي في الدول المصنعة الى صراع من اجل التوازن بين الطبقات ولم يعد تناحريا. أما الايديولوجي، فيلغيه انهزام الطبقة البديل، مجسدة في الطبقة العاملة، امام القومية والدين. ولذلك تسعى هذه التنظيرات الى البحث عن تحديد جديد لمفهوم اليسار، ومنهم للاسف من سقط في مطب التمارين الانشائية، ومنهم من فقد توازنه بعدما مالت كفة التيارات الدينية فوجد نفسه امام مشكلة عدم التطابق بين الموقع الاقتصادي والاجتماعي وبين الموقع التنظمي المرتبط بالاديولوجي. ويتجلى ذلك في بروز تيارات دينية تبني قاعدتها من مواقع اقتصادية واجتماعية يفترض ان تكون قاعدة لايديولوجية مختلفة. فتنبني ادن مفهوم اليسار على تحالف شعبي يجمع كل التنظيمات التي تمثل المتضررين من الاوضاع القائمة، دون الرجوع الى المعيار الايديولوجي. وهذه نتيجة خاطئة، إذ تم احلال البعد الوطني محل الابعاد السالفة الدكر.
الغاء الابعاد الثلاثة للصراع الطبقي عن تحديد مفهوم اليسار ادى الى نتائج سياسية معاقة ومجرد تصورات على الورق غير قابلة للترجمة على ارض الواقع. لأن الارتكاز على الاوضاع الحالية وسقوط الاتحاد السوفياتي وميل الصراع في اوروبا الى ما سمي تضليلا بالتوازن.... بهدف الوصول الى تيار هلامي ومطاطي يطلق عليه اسم اليسار، ينطوي على خلط بين الصراع الطبقي وشكل من اشكال ممارسته. للتوضيح اكثر، فان القول بأن ميول الصراع في اوروبا الى التوازن واعتباره صراعا غير طبقي، يعد خطأ. فهو صراع طبقي تمارسه الطبقة العاملة الاوروبية، في شكله الاقتصادوي الاصلاحي . ويعود الى وقوعها تحت السيطرة الايديولوجية للبرجوازية. ويشكل ذلك استمرارا للممارسات الخاطئة للصراع التي يمكن اجمالها في تسميات البرودونية واليعقوبية والفوضوية النقابية الضيقة (syndicalisme apolitique) . ويشكل استمرارا لمبدإ التوازن بين الاقتصادي والاجتماعي في ظل الرأسمالية، والذي يعد دعامة من الدعامات الاساسية للاديولوجية البرجوازية. كما انه يشكل كذلك استمرارا لنظرية "الجماعات الاجتماعية" و "التفاوتات الفردية" ذات الاصل الوظيفي (Fonctionnalisme) التي ترى بأن الرأسمالية تتطور نحو التوازن عبر خلق طبقات وسطى موسعة ومتقاربة الوضع الاجتماعي.
الخطأ الفادح الذي نقرأه في مثل هذه التحليلات هو اعتبار عدم التوافق بين الموقع الاقتصادي/ الاجتماعي والموقع الايديولوجي/التنظيمي، حالة عادية في المجتمع . والحقيقة ان عدم التوفق هذا يعتبر خللا(dysfonctionnement) ناتجا عن عدم قدرة اليسارالتقليدي، مجسدا في الاحزاب القائمة وضمنها العمالية، على تأطير القاعدة الاجتماعية التي اصبحت تستقطبها قوى سياسية اخرى بما فيها قوى الاسلام السياسي او نشوء الحركات العنصرية في اوروبا..... وهذا العجز عن التأطير ناتج عن شكل ممارستها الاقتصادوية والاصلاحية للصراع الطبقي. والذي يعود الى ثلاثة عوامل اساسية ومترابطة وهي الضعف الايديولوجي/التوجهي، القيادة البرجوازية الصغيرة و حصر الصراع في مستواه الاقتصادي الاجتماعي دون القدرة على الرقي به الى مستواه السياسي.
ان بروز الدين كايديولوجية احتجاجية والقومية بدل الاممية، جعل بعض التنظيرات تطلق مفهوم اليسار على كل الحركات الاحتجاجية وقفزت على كل الابعاد الاخرى للصراع الذي تتحدد به طبيعة كل حركة. وبدأت تبنى تحالفات تحت شعار توحيد اليسار .... في الوقت الذي تضم هذه التحالفات اطرافا متناقضة. ويشكل معضمها تكثلا هلاميا دون نواة غير قادرة على قيادته. وتجد حقيقة ذلك التحالف مثلا، أنه تحالف قوى يسارية مع قوى وطنية وديمقراطية. يجب التفريق اذن بين الوطني والقومي والديمقراطي.
عندما سعيت الى تحديد مفهوم اليسار لم يكن غرضي السعي الى الحديث عن التحالفات اطلاقا. بل اطرح تحديدا لليسار سواء كان تنظيما سياسيا اوتحالف قوى يسارية. وبالنسبة لي، اليسار هو التنظيم، أو مجموع التنظيمات القادرة على انجاز المهام التي حددتها من الناحية النظرية. لا يوجد يسار خارج الممارسة السياسية الحقيقية للصراع الطبقي. اليسار هو اشتراكي بالضرورة، وما عداه يصبح تيارا يلف حول اليسار الحقيقي في تحالف من اجل انجاز مهام محددة في ظرف محدد.
فمفهوم اليسار يجب ان تضيق دائرته حتى يلفظ العناصر التي تكبح حركة الصراع الطبقي، لا أن يتمطط على طريقة بروكوست. ويكون بمقدوره ان يستوعبها في تحالف اوسع يضم القوى الوطنية والديمقراطية