المنظِّر المتمركس


عبدالنبي العكري
2013 / 12 / 25 - 14:55     


اعتدل المنظر المتمركس في جلسته، وتناول قدحاً من شرابه المعتق والمفضل، فلكل زمان مشروبه، واستغرق في التنظير للمتناقضات الكيفية والكمية.

كان عليه وهو الماركسي السابق المؤمن بالنظرية المادية وعلم الديالكتيك والحتمية التاريخية، التي تنظر إلى مقولة انتصار الطبقة العاملة النهائي على البرجوازية الرأسمالية وتكنس النظام الرأسمالي الذي كنس بدوره النظام الإقطاعي، ليقيم الاشتراكية حيث تسود الطبقة العاملة وحزبها الشيوعي، استطاع أن يشقلب هذه النظرية، للتنظير إلى أفضلية النظام القبلي الطائفي الرأسمالي المشوّه على البديل المدني الديمقراطي... فكيف السبيل إلى ذلك؟

أخذ رشفةً أخرى من شرابه، وقلَّب الأفكار. وجد الحل بوصم النضال المدني الديمقراطي بالقفز على المراحل والمغامرة، ووصم المعارضة الوطنية بالطائفية والظلامية، وأنها مغامرة لا تستوعب التحولات الإصلاحية الكمية التي تقود إلى تحولات كيفية، تحدث تغييراً شاملاً في بنية المجتمع والدولة باتجاه المملكة الدستورية الديمقراطية كمرحلة متوسطة نحو الديمقراطية الشعبية التي بدورها تمهد الطريق نحو النظام الشيوعي حيث تسود الطبقة العاملة!

وبموجب القوانين العلمية، فإن طليعة الطبقة العاملة في حزبها الشيوعي يجب أن تستوعب المراحل المختلفة وتقيم التحالفات مع المتنورين في النظام الإقطاعي القبلي، لتصفية القاعدة الاقتصادية الاجتماعية للاقطاع، والتحول نحو الرأسمالية والتي تحفر قبرها بنفسها في إنتاجها للطبقة العاملة، التي لا تحرّر نفسها فقط بل تحرّر جميع الطبقات.

إذاً الأولوية هي شن حرب لا هوادة فيها ضد من يدعون للثورة الآن قبل أوانها، وتعريتهم وفضح مغامراتهم فهم يحرقون المراحل ولا يدركون قوانين الثورة العلمية التي تمرحل التحولات بحيث تنضج كل مرحلة قبل الانتقال إلى مرحلة أخرى.

وهكذا تحول المنظر الماركسي والمتقاعد الشيوعي إلى منظّر بائس للأنظمة الاستبدادية وخصماً عنيداً لرفاقه الماركسيين واليساريين المتمسكين بمبادئهم والقابضين على الجمر في زمن الأنظمة الرأسمالية، حيث اغتالت الثروة النفطية الثورة الشعبية، ولكن وحسب قانون الماركسية، فإن القاعدة المادية هي التي تنتج الأفكار الفوقية!

لقد انحاز صاحبنا للقاعدة المادية الذهبية، قاعدة المصالح النفطية، وهو قد تعود على حياة النفقة والهبات والمكرمات، وملذات حياة البرجوازية التي لا تُقاوم، فقد تحوّلت أفكاره بالطبع، وكتاباته وتنظيراته، وهو شيء طبيعي. هؤلاء الرعاع بنظره لا يفهمون قوانين الثورة والتحوّلات، فالثورة تحتاج إلى تحولات طبقية عميقة تحدثها التحولات الاقتصادية المديدة، والتي بدورها تنتج أفكاراً قومية تقدمية، هي ضرورية لإقامة النظام السياسي الجديد.

هؤلاء الرعاع يستلهمون نموذجهم من مصلحين مثل النبي محمد (ص) وثوار إسلاميين مثل الإمام الحسين (ع)، ويستلهمون العدل من الخليفة الفاروق، والنزاهة من الإمام علي (ع). هؤلاء يستحضرون ثورة القرامطة والزنج العفويتين، ويستذكرون مناضلين شعبويين مثل الباكر والشملان، ويستغرقون في الأوهام الدينية والعبادات التقليدية.

كيف سيحررون المرأة ونساؤهم تلبسن السواد؟ كيف سيحرّرون الطبقة العاملة المتديّنة؟ كيف ستقودهم نخب لا تعرف الراح بل «الشربت» و«الشاهي»؟ مطلوب منه أن يسفّه اليسار المناضل والإسلام المكافح، وأن يبجّل اليسار المستأنس ووعاظ السلاطين. كيف؟ بوصم الأوائل بالرجعية والتخلف، ونعت الثاني بالعقلانية والموضوعية.

صاحبنا قطع كل خيوطه مع الرفاق السابقين، مع الفكر الذي تربي عليه، عن الطبقات الشعبية التي خاطبها، عن العمال الذين وصل إلى الزعامة باسمهم إلى الحزب الذي قاد صفوفه، وعمل على تجنيد الشباب المتفتح إلى صفوفه. قطع صلاته بالآلاف الذين صدّقوه ووثقوا به وناضلوا مضحّين بأرواحهم من أجل أن ينتصر الشعب والوطن، وترتفع الراية الحمراء المرصّعة بالنجمة والمنجل، واستبدلها براية السيف والخنجر.

ما العيب في ذلك؟ إنها المراجعة. نعم، المراجعة لكل شيء... للمبادئ والقيم والعقيدة، فنحن في زمن الردة، «حيث الواحد يحمل في الداخل ضده» كما قال مظفر النواب، في أفضل توصيف لما قاله المرحوم الشاعر أحمد فؤاد نجم: يتمركس بعض الأيام ويتمسلم بعض الأيام ويصاحب كل الحكام». فما دامت هذه أيام الإسلام النفطي، فلم لا حسب مقولة «إذا هبت رياحك فاغتنمها»، وأنت لا تعيش الحياة مرتين. فلتعش حياتك حتى الثمالة.