حوار في مشكلة المصطلح في الكتابات الماركسية


باقر جاسم محمد
2005 / 6 / 10 - 13:24     

أظهر المحور الذي نشره موقع " الحوار المتمدن " حول الماركسية في العدد (1215) بتاريخ 1/6/2005 حاجة ملحة إلى تأسيس أرضية من المفاهيم و المصطلحات المشتركة يستند إليها المهتمون بالفلسفة الماركسية و الإيديولوجيا المستمدة منها في حوارهم الذي نفترض أنه سيكون موضوعيا و معمقا و دقيقا حتى يؤدي غرضه في نشر الوعي العلمي بماهية المشكلات التي يتناولها الحوار. و تأسيسا على ذلك سأقصر كلامي على مناقشة المشكلة الاصطلاحية كما ظهرت جلية في أغلب البحوث المنشورة في المحور المذكور آنفا.
لعل القارئ المدقق لمواد المحور المختلفة منهجا و رؤيا قد لاحظ اختلافا في استعمال المصطلح نفسه بين كاتب و آخر و تباينا في الدقة الاصطلاحية ، فضلا عن اضطراب الصوغ اللغوي لبعض المقالات. و مثل هذا الاختلاف و التباين و الاضطراب يكون عادة مبعث تشويش و عدم وضوح بين الكتاب أنفسهم و كذا لدى القراء أيضا . و قد اخترت بعضا المقالات المنشورة لمناقشة ما ورد فيها من مصطلحات على سبيل المثال لا الحصر مراعيا أن تكون هذه المقالات المختارة ممثلة لاتجاهات مختلفة في الموقف من المسألة موضوع النقاش.
يبدأ عارف معروف مقالته " هل الماركسية علم أم عقيدة ؟ " بالتركيز على الفروق الدقيقة بين العلم و العقيدة أو الإيديولوجيا ليصل إلى تأكيد الاختلاف الجوهري بين العلم و العقيدة . و هذا الجزء من المقالة يتميز بالدقة الاصطلاحية. و لكن المشكلة الاصطلاحية تنشأ حين نفهم من كلام الكاتب أنه يعد الماركسية علما ! و قد ورد ذلك ضمنا في عنوان المقالة . و قد يقول قائل إن لا مشاحة في المصطلح ، و إن من حق الكاتب أن يستعمل ما يشاء من المصطلحات بالكيفية التي يراها ، فأرد بالقول أن كاتب هذه المقالة الممتازة هو أولى الناس بمراعاة الدقة الاصطلاحية. فمصطلح العلم حين يستعمل معرفا أو نكرة مقصودة فإنما يستعمل للإشارة إلى الدلالة العامة للعلم مجردا ، أو من حيث هو. و ذلك حين يكون بمقابلة مصطلحات أخرى مغايرة مثل مصطلح الأدب . أما الاستعمال بالتخصيص فيجب أن يعرف المصطلح بالإضافة أو الإسناد إلى ما يسهم في تحديد ماهيته . فمن المعروف إن لكل علم موضوع ؛ فنقول " علم الفيزياء " الذي يدرس خواص المواد ، و " علم الكيمياء " الذي يدرس تركيب المواد ، و " علم الأحياء " الذي يدرس المادة الحية و تجلياتها ، و " علم اللغة " الذي يدرس اللغة الطبيعية … و هكذا. فما هو موضوع الماركسية ؟
قد يجيب أحدهم بالقول إنها علم عام يتضمن كل العلوم ، أو إن موضوعها هو كل ما تختص به العلوم الأخرى . و لكن هذه الأقوال غير كافية في دفع تهمة عدم الدقة في إطلاق مصطلح "علم " على الماركسية . فنحن نعرف جيدا أن هذا الوصف ينطبق إلى حد بعيد على الفلسفة التي وصفت بأنها أم العلوم ؛ كما ينطبق بدرجة أقل على نظرية المعرفة . فلماذا لا يصف الكاتب الماركسية بالفلسفة ؟ أعتقد أن استنكاف الكتاب الماركسيين من وصف الماركسية بالفلسفة ينبع من جذر تاريخي . فقد خاض مؤسسا الماركسية نضالا فكريا ضد الفلسفة بوصفها تأملا خالصا ينتمي إلى الفكر المجرد . ونعرف من تاريخ الماركسية أن إنجلس قد ألف كتابا عنوانه " بؤس الفلسفة " ردا على كتاب " فلسفة البؤس " لبوبر . و لكن كل ذلك لا يغني من الحقيقة شيئا ، ألا وهي أن الماركسية فلسفة أنتجت إيديولوجيا.
و ظهرت تجليات لعدم الاستقرار الاصطلاحي في المقالة نفسها ؛ فنجد الكاتب يقول في موضع من مقالته ما نصه :" ولقد عرف مؤسسو الماركسية ، نظريتهم ، بكونها معرفة علمية " ، ثم يقول في موضع آخر : " فإذا كانت الماركســية علما ، أو معرفة علمية … "
فهل الماركسية نظرية أم معرفة علمية أم علم ؟ و في تقديري أن الاضطراب الاصطلاحي هذا يعود إلى مسعى الكاتب في تجنب إسناد مصطلح الفلسفة إلى الماركسية مما دفعه إلى تعميمات تفتقر إلى الدقة . فنراه يقول في موضع ثالث :
" ولم تكن الماركسية نظرية في الاقتصاد او في الفلسفة او الاجتماع فقط بل كانت اضافة الى كل ذلك كشفا لحقائق اجتماعية وقوانين معادية وناقدة لاسس الهيئة الاجتماعية القائمة ففي الاقتصاد كان حجر الزاوية فيها حقيقة كون العمل ، والعمل الزائد غير المدفوع الاجر بالذات هو المصدر الوحيد لثروة المجتمع الراسمالي . وفي الفلسفة اعتمدت المادية التاريخية و الديالكتيك اساسا في بناء نظرتها وفهمها للعالم نافية
صفة الثبات والخلود عن أي شيء ومعلنة أن الخلود للحركة وحدها . وفي الاجتماع خلصت إلى ان الصراع الطبقي هو حقيقة الحقائق والدينمو المحرك للتاريخ البشري . انها اذن نظرية نقدية وثورية في كل هذه الميادين , والتي تشمل كل واقع الحياة الاجتماعية. وهي لم تتصد فقط لتفسير العالم ، على حد تعبير مؤسسها ، كارل ماركس، وانما لتغييره وكاداة عملية للتغيير اعتمدت طبقة العمال الاجراء ، البروليتاريا،أداة تكمن مصلحتها النهائية في التغيير لانها خالقة الثروة والتي تشكل عملية التغيير رسالتها التاريخية ، وهي ان خسرت لن تخسر سوى عبوديتها وان ربحت ، ربحت العالم كله. "
و الواقع أن هذا الجزء من المقالة يخلط بين ما هو من الفلسفة مثل قوله أن الماركسية اعتمدت الديالتكيك ( جدل الأضداد :باقر )و نفت الثبات و الخلود عن أي شيء و تمسكت بمبدأ خلود الحركة ، و هو ما قال به فلاسفة آخرون قبل ماركس؛ و ما هو من الإيديولوجيا كما في قوله إن الماركسية أسندت للطبقة العاملة لتغيير المجتمع لأن هذا التغيير يمثل " رسالتها التاريخية " . وهي أقوال ذات طابع عقدي إيديولوجي محض ، و تذكرنا بما زعمه البعثيون بعد عدة عقود من " رسالة خالدة " أسندت للأمة بدلا من الطبقة . على أن ما سقناه من ملاحظات لا يعني أننا لا نتفق مع الكاتب في كثير من الآراء الرصينة التي وردت في مقالته القيمة هذه .
و تتجلى مشكلة الاضطراب الاصطلاحي في أوضح صورها فيما كتبه السيد حسقيل قوجمان الذي أسهم بمقالتين في المحور هما: " الماركسية نظرية الطبقة العاملة " و
" هل الماركسية في أزمة أم … ؟ " . و يكفي للتدليل على هذا الزعم ما سنورده من مقتطفات . ففي المقالة يقول الكاتب :
"ان قوانين حركة المجتمع التي نسميها اليوم "ماركسية" كانت دائما في مصلحة الطبقة الناشئة المتطورة التي القى عليها التاريخ مهمة تطوير المجتمع وتحقيق قانون مطابقة علاقات الانتاج مع مستوى قوى الانتاج."
فالماركسية ، على ما يرى الكاتب ، هي اختصار لقوانين حركة المجتمع . و القوانين هذه لمصلحة الطبقة الناشئة المتطورة ( العاملة : باقر ) التي " ألقى عليها التاريخ مهمة تطوير المجتمع . و (واقعة) أن التاريخ قد ألقى على كاهل الطبقة العاملة مهمة تغيير المجتمع هي (واقعة) مزعومة لم يشهدها أحد ، وهي مشتقة من فهم معين للتاريخ . ذلك الفهم المستمد من المادية التاريخية التي تمثل أحد الأسس المهمة في بنية الإيديولوجيا الشيوعية . و هي ليست من القوانين في شيء لأن من أهم خصائص القوانين كونها قابلة للإثبات لكل ذي عقل و بصرف النظر عن عقيدته الخاصة . و هو ما لا يمكن وصف الدور التاريخي المفترض للطبقة العاملة به إطلاقا. و لعل تخلي الطبقة العاملة البولندية عن الحزب الشيوعي ( حزب العمال البولندي الموحد )، هو يعتمد عقيدة مماثلة لما ذهب إليه الكاتب بشأن دور الطبقة العاملة ، في بداية الثمانينيات من القرن الماضي خير دليل على ما نقول.
وفي المقالة الثانية و يقول الكاتب :
"جاء هذا السؤال في المواضيع التي اقترحها الحوار المتمدن للنقاش في العدد الخاص
لليوم الاول من حزيران. ان وضع السؤال ذاته مبهم فيما يتعلق بالماركسية باعتبارها
علم طبيعي كسائر العلوم الطبيعية الاخرى.
لنتصور اننا نضع نفس السؤال في مجال علمي غير الماركسية. لنسأل مثلا هل قانون
الجاذبية يمر في ازمة؟ او هل قانون تحول الماء لدى تسخينه الى بخار يمر في ازمة؟ لا
شك ان قارئ مثل هذا السؤال يعجب حتى من امكانية وضع سؤال كهذا. فكيف يمر قانون الجاذبية بازمة؟ولكن السؤال يبدو مهما حين يسأل عن الماركسية. وسبب ذلك يرجع الى ان الكثير من المتحدثين عن الماركسية لا يتحدثون عنها وكأنها علم طبيعي ولا يعتبرونها علما طبيعيا. ولكننا إذا اعتبرنا الماركسية علما طبيعيا يصبح هذا السؤال عجيبا كما كان السؤال عن أزمة قانون الجاذبية.
فما سبب هذا التباين في معالجة القوانين الطبيعية كلها من جهة وفي معالجة القوانين
الماركسية من جهة أخرى؟ "
و نلاحظ هنا إن الكاتب يوغل في نزعته العقدية ( الإيديولوجية)جاعلا من الماركسية علما طبيعيا. ناسيا إن التفريق بين العلوم الطبيعية و العلوم الاجتماعية من حيث الموضوع و المنهج و المصطلح قد أصبح من أساسيات فلسفة العلوم عامة و نظرية المعرفة خاصة . فنحن ندرس في العلوم الطبيعية عن موضوعات بأعيانها ، و نتبع مناهج و نستعمل مصطلحات خاصة بكل علم . كما يتسم العلم الطبيعي بوجود كم كبير من القوانين القابلة للإثبات مثل عشرات القوانين في الفيزياء مثل " قانون الجذب العام " و مثلها الكثير في الكيمياء ، كما نتحدث عن " قوانين مندل " في الوراثة التي هي جزء من علم الأحياء . و لكن القوانين تكون أكثر ندرة في العلوم الاجتماعية. ففي علم الاقتصاد نتحدث عن " قانون الغلة المتناقصة " و " قانون العرض و الطلب " و ثمة جدل معرفي غير محسوم بصدد مسألة وجود القوانين في التاريخ .
إن السيد قوجمان ، في معتقداته التي تعكسها كتاباته الغزيرة ، يقدم تصورات تفصح عن حالة خاصة جدا تستحق النظر بشكل منفرد لأنه يمثل آخر أمثلة الفهم الستاليني للماركسية في عصر غدت فيه حقيقة الستالينية أمرا لا يكاد يتخلف فيه اثنان .
لقد أشرنا في البداية إلى اضطراب الصوغ اللغوي بوصفه قرينا للاضطراب الاصطلاحي انطلاقا من مبدأ جوهري يرى في اللغة المادة الأساسية التي تشتق منها المصطلحات كما أن الأخيرة تعرّف و تشرح بوساطة اللغة . و يمكن القول بأن اللغة الدقيقة المحكمة تمثل بنية دقيقة و محكمة اصطلاحيا. فلا نتوقع الدقة الاصطلاحية مع الاضطراب في الصوغ اللغوي . و كان لينين يستشهد بمقولة للفيلسوف الألماني فيخته و نصها " من يفكر بوضوح يطرح بوضوح " مما يعني ربط وضوح التفكير ، و هو صفة جوهرية قد تكون قرينة العمق و النسقية في الفكر العلمي، بالصوغ اللغوي على وفق ما أستقر للغة المستعملة من أسس نحوية و صرفية و دلالية. و لسوف أورد مقالة بوصفها نموذجا للصوغ اللغوي المضطرب طامحا أن يغفر لي صاحب المقالة ذلك لأن المقصود منه تنمية الحوار العلمي الرصين بعيدا عن المجاملات . و المقالة المقصودة هي للسيد جورج المصري التي حملت العنوان " الديمقراطية لا تتفق مع الشيوعية فكيف يتحدون ؟ " و بداية أقول أن العنوان نفسه مضطرب . و يمكن أن تعاد صياغته على النحو الآتي " الديمقراطية لا تتفق مع الشيوعية فكيف يتحدان ؟ و سوف أكتفي بمناقشة الفقرة الأولى من المقالة و نصها :
" لا يمكن أن تتحد الشيوعيه و الديموقراطيه لان الأثنان مختلفان إختلافاً كلياً و
جزئياً في مفاهيم حقوق الأنسان و قواعدها و تطبيقاتها ، علي الرغم من أنهم متشابهين
إلي حد عظيم. من المؤكد ان الأنسان الذي أتيحت له فرصة الحياة في أى من هذه الأنظمه يستطيع ان يصف لنا النظام. ومن عاش فتره تحت حكم الأثنان يستطيع أن يقارن بينهما. أما الشخص الذي عاش تحت الرأسماليه الديموقراطيه أو الاشتراكية الشيوعيه أو الشيوعيه الرأسماليه الاسلاميه يستطيع أن يتحدث عنهم من وجهه نظره كاديموفراطي علماني في الأنظمه الثلاثه. "
و يلاحظ هنا أن النص يفتقر إلى أبسط قواعد النحو العربي فضلا عن اضطراب في الأفكار المعبر عنها . فهو يقول " لأن الأثنان متشابهان " و الصحيح لأن الاثنين متشابهان " و يقول " علي الرغم من أنهم متشابهين " و الصحيح " على الرغم من أنهما متشابهين " . و قس على ذلك في الأخطاء النحوية التي وضعنا خطا تحت بعضها. و لكن الأهم من ذلك كله اضطراب الأفكار المعبر عنها . فالكاتب يؤكد " أنهما مختلفان كليا و جزئيا " غير عارف بأن ما يختلف كليا هو بالضرورة مختلف جزئيا . كما يتحدث عن "الشيوعية الرأسمالية الإسلامية " ، و هو مصطلح لا وجود له إلا في ذهن الكاتب .
أخيرا ، أود أن أعتذر من السادة الكتاب الذين لم أتناول ما كتبوه لأن مثل ذلك يقتضي تأليف كتاب . كما أود القول بأنني قد تجنبت الإشارة فيما سبق إلى مقالتي المنشورة في العدد نفسه و الموسومة " الماركسية : فلسفة أم إيديولوجيا ؟ " رغبة مني في سماع رأي الآخرين فيها سلبا أو إيجابا . فنحن نعتقد أن الحوار يعني بالضرورة الاختلاف في وجهات النظر . فعسى أن يتصدى لمناقشتها من يجد في ذلك فائدة للكاتب و للقراء على حد سواء .