أسئلة.. حول .. الحركة الاشتراكية الأمريكية ... (الأخير)


علي الأسدي
2013 / 11 / 20 - 00:33     

كنت استعرضت في الجزئين السابقين ترجمة الفصل الأول من كتاب سايمور ليبسيت أستاذ العلوم السياسية والاجتماعية في جامعة جورج مايسون وزميله غاري ماركس استاذ العلوم السياسية في جامعة نورث كارولاينا الأمريكيتين. عنوان الكتاب وموضوعه : " لم يحدث هنا : لماذا فشلت الاشتراكية في الولايات المتحدة..؟
" It Didn’t Happen Here: Why Socialism Failed In The United States " .

لقد اطلعت على الفصول الأخرى للكتاب وأحاول هنا أن أعقب على أهم أطروحاته التي ضمتها أكثر من 380 صفحة. المؤلفان حاولا الاجابة على التساؤل ، لماذا فشلت الاشتراكية في الولايات المتحدة ، فنجحا في جانب وفشلا في جوانب كثيرة أخرى. تتطلب الاجابة على هذا السؤال الالمام بتاريخ الحركة الاشتراكية منذ الربع الأخيرمن القرن التاسع عشر حتى نهاية القرن العشرين ، وهي الفترة التي شملها الكتاب.

الاشتراكية في الولايات المتحدة كانت حاضرة طوال تلك الفترة ، تنمو أحيانا بسرعة واحيانا ببطئ والحال لم يبدو انه يتغير في القرن الواحد والعشرين. القائل بأن الاشتراكية قد فشلت يجهل كمية هائلة من المعلومات عن النشاطات السياسية والاجراءات الحكومية التي تمس النشاط السياسي للجناح اليساري في الحركة الاشتراكية الأمريكية.

ما يثر اهتمام مؤلفي الكتاب هو غياب الحزب السياسي الاشتراكي القوي الملتزم بتأميم الصناعة واعادة توزيع الثروة كما حصل في اكثر الدول الغربية كالحزب الاشتراكي الفرنسي وحزب العمال البريطاني.

الأسباب الحقيقية لضعف النشاط السياسي الاشتراكي تعود بالدرجة الأولى من وجهة نظر هذا المقال الى القمع السياسي والملاحقات القضائية لقادة وأعضاء اي حزب أو حركة عمالية يسارية تبدي نشاطا يساريا ملحوظا.

الكاتبان يرفضان ذلك ويؤكدان بانه كانت هناك نشاطات اشتراكية رغم القمع لكنها لم تتوسع أو تستمر. وهو اعتراف واضح بوجود معوقات لقيام حركة اشتراكية حقيقية ، لأن الجماهير تخشى الملاحقات القضائية والأمنية بنفس الوقت الذي تضطر فيه الحركات الاشتراكية اليسارية لتبني سياسات وبرامج وسطية أو يمينية.

الأسباب الحقيقية في رأي الكاتبين ترتبط بالسمات الخاصة للمجتمع الأمريكي أو ما أطلق عليه " الاستثنائية الأمريكانية ". من بين تلك السمات عدم تقبل الأمريكيين لمركزية الدولة وكراهيتهم للاشتراكية ، فتأميم وسائل الانتاج والمساواة في الدخل تتناقض مع القيم الثقافية الأمريكية.

وكما في سويسرا وأوستراليا فان الاحزاب غير الاشتراكية هي المتأصلة في أوساط الطبقة العاملة ، مما يجعل من الصعب على أحزاب جديدة أن تنحو في برامجها نحو الاشتراكية وتكون لها قاعدة جماهيرية.

السمة الأخرى التي يعتبرها الكاتبان سببا لضعف الحركة الاشتراكية هي أن التنوع الاثني الواسع للطبقة العاملة الذي جعل العمال المنحدرين من أصول مهاجرة أكثر تأثرا بمشاعرهم الاثنية من مشاعرهم الطبقية.

بينما يختلف الأمر في الدول الأوربية حيث الوعي الطبقي شديد الوضوح في النشاطات العمالية دفاعا عن مصالحهم الطبقية امام الاحزاب الحاكمة الممثلة للطبقة البرجوازية. العكس هو الصحيح بالنسبة للعامل الأمريكي الذي من النادر ان يدعي انه عامل ، فتجده يميل الى تعريف نفسه بكونه ايطالي أو يهودي بدلا من I am a warker .

ويعزو الكاتبان ضعف الاشتراكية الى أخطاء الحزب الاشتراكي الأمريكي الذي احتل موقعا بارزا في اليسار الاشتراكي قبل ظهور الحزب الشيوعي الأمريكي عام 1919.
ومع أن للأخطاء الكبرى تأثيرها على جماهير أي حزب سياسي لكن ذلك لم يكن كافيا لتفسير الضعف في الحركة الاشتراكية الأمريكية عموما كما حاول مؤلفا الكتاب التدليل عليه ببراهين لم يزكيها واقع الحال. وكما سنرى لاحقا فان الكاتبين قد اختارا حججهما بعناية لاضفاء المصداقية على اطروحة ان الاشتراكية لا تصلح للمجتمع الأمريكي.

كانت للحزب الاشتراكي قاعدة عريضة في أوساط الأمريكيين من أصول مهاجرة كما في بنسلفانيا بين الناطقين بالهولندية ، وفي ميلوانكي بين الناطقين بالألمانية ، وفي مانهاتن بين الجالية اليهودية. لكن برغم ذلك قام قائد الحزب في ميلوانكي فكتور بيرجر بالقاء خطبة عنصرية من على منبر مجلس الكونغرس هاجم فيها المهاجرين البيض من أصول سلافية وايطالية وروسية وارمينية بينما هو نفسه مهاجر يهودي من أصول نمساوية.

وهناك خطأ جسيما آخر كان له أثره على جمهور الحزب وهو قرار قائد الحزب الاشتراكي في ولاية كاليفورنيا عام 1910بدعوة اعضاء الحزب في الولاية الى عدم التصويت بنعم على مشروع لمكافحة الفقر كان قد تبناه الحزب الديمقراطي الأمريكي. لقد أدى قرار الحزب حينها الى استقالة 90% من أعضائه في الولاية احتجاجا. لكن تلك الأخطاء لم تكن سببا في ضعف وتناقص دور الحزب الاشتراكي على المستوى الوطني. (3)

فكما جاء في الجزء الأول من هذا المقال فان قادة ومنظري الفكر الاشتراكي في أوربا من امثال أوغست ببل ، وكارل كاوتسكي وغيرهم قد توقعا أن تتحول الولايات المتحدة الى أول دولة اشتراكية. وقد اعتمد أولئك المنظرون في احكامهم تلك على تصاعد شعبية الحزب الاشتراكي الأمريكي. لم يكن ذلك التقييم خاطئا ، فقد حاز رئيسه أوجين اوغسطس كمرشح للرئاسة الأمريكية عام 1912 على 6% من أصوات الناخبين الأمريكيين وهي نسبة ليست قليلة.

لكن السبب الرئيس الذي قاد الحزب الى الانهيار ليس اخطائه كما يؤكد الكاتبان ، بل مواقفه السياسية المؤيدة لثورة أكتوبر 1917 وانحيازه لتشكيل الأممية الثالثة وادانته الحرب العالمية الأولى عام 1914. فهذه كانت وراء الملاحقات القضائية وارهاب الدولة لتقييد نشاطات الحزب. فبعد ثماني سنوات من ذلك النجاح الانتخابي صدر الحكم على زعيمه حينها Augene Debs بالسجن لمدة ثماني سنوات لادانته موقف الحكومة الأمريكية بالمشاركة في الحرب العالمية الأولى التي بدأت عام 1914.

وكنتيجة لذلك وغيره من الأسباب انقسم قادة واعضاء الحزب الاشتراكي وتوزعوا على كتل وأجنحة سياسية يسارية تحت اسم الحزب الاشتراكي اليساري واتحاد الاشتراكيين والى تجمعات انارخية واشتراكية ديمقراطية.

لكن الظروف التي أدت الى ذلك لم تعن أن الأمل في الاشتراكية في الولايات المتحدة قد تلاشى ، بل عبرت عن عمق التناقضات داخل الرأسمالية الأمريكية. فالولايات المتحدة كانت مسرحا لأعنف الصراعات الطبقية التي لم تمر بها أي من الدول الرأسمالية.

فعمال المناجم الأمريكيون خاضوا معارك حقيقية كثيرة مع أرباب العمل والحكومة حصلت فيها مذابح فظيعة ، كما حصل في جبل هيرين وجبل بلير وعددا آخر من المصادمات في أمكنة وفترات زمنية اخرى. الطبقة الحاكمة عارضت بوحشية نشاطات اتحادات العمال وأي منظمة سياسية مستقلة للطبقة العاملة ، وبنفس الوقت شجعت الأرستقراطية في القيادات العمالية الذين منحتهم الامتيازات على حساب اكثرية العمال لأجل ابقاء الحركة العمالية تحت السيطرة.(4)

الكاتبان يطالباننا بقبول حقيقة عدم امكانية وجود اشتراكية في الولايات المتحدة ، لأن الولايات المتحدة تبقى الاستثناء " exceptional” " في سياساتها واسلوب الحكم فيها مقارنة مع بقية الدول الصناعية الغربية.(5)

الكتاب الذي ناقش الحركة الاشتراكية منذ عام 1870 قد تجاهل تماما نشاط الحزب الاشتراكي والمنظمات والحركات الاشتراكية الأخرى بعد عام 1945. ولم يعر الكاتبان غير القليل من الاهتمام للسياسة الحكومية التي تأثرت بالفكر الاشتراكي خلال تلك الفترة التي انتشرت فيها النجاحات الاقتصادية للاشتراكية. حيث كان التدخل الحكومي الاقتصادي والمالي واضحا في الحياة الأمريكية الذي ازدهر من خلال القوانين والنظم لتوسيع قاعدة القطاع العام. تغييرات مثل تلك شكلت خروجا عن مبادئ نظام اقتصاد السوق القانون الأساسي للرأسمالية.

ولاثبات فشل الاشتراكية في الولايات المتحدة حشد مؤلفا الكتاب لتلك المهمة المضللة مئات المراجع والهوامش التي زيناها بأقوال عن ماركس وانجلس وغرامشي ليدعما وجهة نظرهما. حيث ركزا على دور الحزب الاشتراكي باعتباره حامل لواء الاشتراكية يمثل نجاحها في حالة نجاحه وفشلها في حالة فشله قد جانبا الحقيقة والواقع. حيث تجاهلا كلية الكفاح الذي خاضه الحزب الشيوعي الأمريكي.

فالدور المهم الذي نهض به الحزب الشيوعي الأمريكي منذ تأسيسه عام 1919 قد عبر بحق عن الحركة الاشتراكية في الولايات المتحدة بعد تضاؤل دور الحزب الاشتراكي. فبعد ثورة البلاشفة عام 1917 دبت الحياة من جديد بين الاشتراكيين السابقين فتوحدوا تحت اسم الحزب الشيوعي الأمريكي الذي تأسس رسميا في 1-9-1919. (6)

لكن سرعان ما تعرض الحزب لحملة قمع عرفت بحملة بالمر ، وهو اسم المدعي العام الأمريكي حينها A. MITCHELL PALMER الذي قاد الحملة على الحزب الشيوعي شخصيا مع بداية عام 1920. لقد عبر الهجوم عن الرعب الذي ألم بالطبقة الحاكمة من الاشتراكية وحزبها ، وبناء عليه جرى اعتقال قادة وأعضاء الحزب بهدف تدميره قبل أن يمد جذوره في المجتمع الأمريكي وبالأخص في صفوف الطبقة العاملة.(7)


الحملة والاعتداء على الحزب فشلتا في تحقيق أهدافها ، فتم اطلاق سراح جميع المعتقلين ، لكن الحملة رغم ذلك قد اضعفت الحزب في أوساط المجتمع والحركة العمالية. وفي الثلاثينيات ابان سنوات الأزمة الاقتصادية الكبرى نشط الحزب في المطالبة بتشريع نظام اقتصاد الرفاه الذي لم تعرفه الولايات المتحدة قبل ذلك التاريخ ، وقد أخذ النظام طريقه للتنفيذ في عهد الرئيس الأمريكي فرانكلن روزفيلت ضمن مشروعه الشهير NEW DEAL THE.

" While Roosevelt was a politician of undoubted skill, his New Deal policies could never have succeeded in co-opting masses of workers without the support of the US Communist Party, which threw the then considerable prestige of the Russian Revolution behind the Democratic Party administration." (8)

وبدلا من الاعتراف بدور الحزب المهم في الاصلاحات الاقتصادية لانصاف الفقراء والعاطلين عن العمل شنت السلطات الأمنية عام 1938 حملة جديدة من الاعتقالات بتهم ملفقة جديدة ، وهذه المرة بحجة محاولة الحزب تحقيق منافع من خلال برنامج روزفلت NEW DEAL THE.

لكن الحزب استمر يمارس نشاطه برغم ذلك ، حيث كان له دورا مهما في تأسيس اتحادات عمالية تبنت الدفاع عن مصالح العمال ، كما جند أعضاءه وجماهيره في مقاومة صعود النازية والفاشية في ألمانيا وايطاليا واليابان التي قادها الثلاثي هتلر وموسوليني وتوجو. وشارك اعضاء الحزب في الفرقة التي أسسها الحزب التي حملت اسم الرئيس الأمريكي الأسبق ابراهام لنكولن التي تطوعت بالسفر الى اسبانيا للقتال الى جانب الشعب الاسباني خلال انتفاضته ضد الديكتاتور الاسباني فرانسيسكو فرانكو في ثلاثينيات القرن الماضي.

وقاد حملة شعبية واسعة ضد الحرب التي قادتها الولايات المتحدة في فييتنام داعيا الى وقفها فورا ، وكان للتأييد الجماهيري الواسع داخل الولايات المتحدة وخارجها وللخسائر الكبرى في الأرواح من الجانبين اضطرت الولايات المتحدة أخيرا لوقفها.

اثناء صعود المكارئية التي ارتبطت باسم السناتور جوزيف مكارثي نهاية الأربعينيات ومنتصف الخمسينيات تعرض الشيوعيين والاشتراكيين والأنارخيين والمتعاطفين معهم لعملية قمع ومحاكمات بتهم بالتحريض لقلب الحكومة دون مسوغ قانوني. لقد اعتبرت تلك الاجراءات مخالفة للدستور والقوانين النافذة ، وسرعان ما أوقفت لأن تهم التآمر والتحريض على اسقاط الحكومة الأمريكية لم تثبت صحتها وتم اطلاق سراح كافة المعتقلين من قبل المحكمة العليا.

وتحت نفس الحجج تشكلت عام 1950 لجنة برلمانية للتحقيق في قضية نفوذ الشيوعيين في هولويود ، حيث اتهمت حوالي 300 شخصية فنية تعمل في التمثيل والادارة والاخراج وكتاب الحوار السينمائي والتصوير وغيرهم ، حيث جرى فصلهم من اعمالهم لفترة طويلة مع انه لم تثبت عليهم ارتكاب اي مخالفة قانونية. (9)

جميع مظاهر القمع السياسي تؤكد ان الاشتراكية في الولايات المتحدة مدت جذورها في المجتمع الأمريكي على عكس ما حاول ليبسيت وماركس اثباته في كتابهما. لقد حاولا اثبات ان الاشتراكية غير قابلة للحياة في مركز الراسمالية العالمية. ويتضح من هذا انهما استخدما الكتاب لاهداف أيديولوجية لتشويه صورة الماركسية. لقد تم الاعلان عن موت الاشتراكية آلاف المرات ، لكن الحقيقة المؤكدة ان الكاتبين يشعران انه من الضروري الاعلان ليس فقط عن موتها بل عدم صلاحيتها.

لقد دفع الحزب الشيوعي الأمريكي بمرشحيه للرئاسة الأمريكية ولنواب الرئيس في اعوام 1972 و 1976 و 1980 و1984 ، وكذلك فعل الاشتراكيون والمستقلون. وهو دليل على ان خيار الاشتراكية مطروح على جدول أعمال المجتمع الأمريكي.

في عام 1924 رشح للرئاسة الامريكية Robert Lafollete عن الخط التقدمي. وفي عام 1968 رشح George Wallace عن خط المستقلين. وفي عام 1992 رشح Ross Perot عن بطاقة الاصلاح. محاولات كهذه تبدو عديمة التأثير ، لكنها تعبر عن رفض المجتمع لاحتكار الحزبين الجمهوري والديمقراطي للعملية السياسية. (10)

اليوم يحظى الحزب الشيوعي بتأييد واسع في أوساط الشعب الأمريكي ، حيث تزايدت عضويته وبخاصة بعد اشاعة استخدام الانترنيت. وقد فاز بعض مرشحي الحزب الشيوعي في الانتخابات المحلية أو حصلوا على تأييد واسع من قبل الجمهور.
الحزب حاليا يعتبر واحدا من الأسرع نموا في نشاطاته والانتساب له من قبل الجماهير كأقوى قوة يسارية في الولايات المتحدة الأمريكية.
علي الأسدي
لمزيد من الاطلاع يراجع :
JANE GALT, " WHAT EXPECT NEXT IN THE USSA " UNINIZED-1 SOCIALIST STATES OF AMERICA" ,TEA PARTY, 7-11 - 2012

SEYMOUR MARIN LIPSET AND GARY MARKS, " IT DIDN’T-2 HAPPEN HERE" , WHY SOCIALISM FAILED IN THE UNITED STATES OF AMERICA , THE NEW YORK TIME`S, SEPTEMBER 200O
SOCIALIST PARTY OF USA , socialistparty-usa.net 7/1/ 2012 – 3

DAVID GLENN, " A STUDY OF SOCIALIST MOVEMENT IN - 4 AMERICA AND WHAT WENT WRONG ", THE NEW YORK TIME`S, SEPTEMBER 3-2000
KIMBLE FLETHER AINSLIE ," IT DIDN’T HAPPEN HERE- WHY- 5 SOCIALISM FAILED IN UNITED STSTES", THE INDEPENDENT REVIEW
COMMUNIST PARTY OF USA, epa.cpusa.net - 6
SHANNON JONS, THE FAILED OF REFORMISM NOT THE - 7 SOCIALISM ", WORLD SOCIALISM WEB SITE
-8 نفس المصدر السابق
PAMELA . D. TOLER, MISCONCEPTION – ABOUT SOCIALISM - 9 UNIVERSITY OF HULL, netplaces.com
-10 DID SOCIALISM FAILED IN AMERICA,FREEMAN MAGAZINE, 1/12/2012 GEORGE C. LEEF.