تناقضات العمل الجسدي والذهني.


عقيل صالح
2013 / 11 / 16 - 00:15     

1-الموضوعة الفكرية للعمل الجسدي والذهني.

احتلت مسألة الفروقات ما بين العمل الجسدي(Physical/Manual Labour) والعمل الذهني (Mental/Intellectual Labour)موضوعاً لدى الماركسيين منذ فترة طويلة, فلقد تحدث عنها ماركس وانجلز ولينين,و طرحت هذه المسألة ايضاً في نقاش اللجنة المركزية للحزب الشيوعي السوفيتي في العام 1951,وإزاء ذلك نشر ستالين كتابه الاخير (القضايا الاقتصادية للاشتراكية في الاتحاد السوفيتي), وتطور هذا الموضوع إلى خلاف ما بين ماو تسي تونغ (Mao Zedong) ونيكيتا خروتشوف (Nikita Khrushchev), ايّ خلاف ما بين الخط الماوي والخط السوفيتي.

واليوم,تلعب مسألة العمل الجسدي والعمل الذهني دوراً هاماً في تحديد نمط التفكير الماركسي. خصوصاً وقد تطورت التناقضات المجتمعية الاقتصادية بشكل هائل ونوعي منذ الربع الاخير من القرن الماضي إلى القرن الحادي والعشرين الراهن. لا يرى اغلب الماركسيون ان هناك فروقات كبيرة ما بين العمل الجسدي والعمل الذهني,أو بمعنى اخر, ما بين العامل البروليتاري والعامل البورجوازي,من حيث كليهما العامل البورجوازي والعامل البروليتاري يتعرضون للإستغلال في ظل الرأسمالية.

ولكن من اجل فك هذا الطلسم, قام ماركس بالكتابة عن الفرق ما بين العامل المنتج والعامل غير المنتج,من حيث العامل الصناعي البروليتاري ينتج سلعاً ذات قيمة استعمالية وتبادلية, بينما العامل المأجور الغير منتج لا ينتج فائض القيمة ولا يحتاجه الرأسمالي لأنه عامل غير منتج ,بل يستعين به,من اجل خدمة حركة رأس المال. وايضاً علل ماركس في الجزء الثاني من كتابه (رأس المال) ان هناك فروع اخرى في الانتاج الرأسمالي لا تشمل الانتاج السلعي, بل تعمل تلك الفروع في خدمة حركة رأس المال ,ومنها فقط صناعة المواصلات التي تشكل اهمية اقتصادية.

ويعود هذا التعقيد,الذي نواجهه اليوم,في التفريق ما بين العمل الجسدي والذهني, إلى الخط السوفيتي الذي فرض هذه الفكرة,أعني فكرة وئام العمل الجسدي والذهني في الاشتراكية في خلق المجتمع الشيوعي. صحيح ان الفروقات ما بين العمل الجسدي والذهني لن تزول إلا في مراحل متقدمة من المجتمع الشيوعي ويتحول العمل إلى عمل شيوعي خالص, إلا ان لا يمكن اعتبار ان العمل الجسدي والعمل الذهني هما ذات الصفة وذات الهدف المشترك. اطلق خروتشوف دولة الشعب كله وساند هذه الدولة بفكرة ان "الشيوعية هي وعاء متناول للجميع يفيض فيه منتجات العمل الذهني والعمل الجسدي", مما يعني ان يمكن تحقيق الشيوعية بتحالف البروليتاريا والانتلجنسيا (!).وفي هذا المقام نذكر ان اللجنة المركزية للحزب الشيوعي السوفيتي ناقشت كيفية الغاء طبقة الفلاحين التعاونيين الذين يعملون في الكولوخوزات (Kolkhozy) وجعلهم يعملون في السفوخوزات (Sovkhozy) التابعة للدولة,ونذكر بهذا لأن الفلاحين اقوى حلفاء البروليتاريا,وبالرغم من هذا التحالف الوثيق إلا ان لابد من المحو الطبقي,فكيف ينطبق المحو الطبقي على الفلاحين وليس على البروليتاريا والانتلجنسيا؟. اقتطف خروتشوف هذه الفكرة من ستالين التي وردت في كتابه الاخير(المذكور آنفاً) حين قال :((الشغيلة اليدويون وهيئة الإدارة ليسوا اليوم أعداء، بل رفاق أصدقاء، أعضاء تعاونية واحدة من المنتجين)) هذه الفكرة لا تعطي اي اعتبار للفروقات الطبقية ما بين العمل الذهني والعمل الجسدي, وكان يجب عدم درجها في حال من الاحوال لأن الزمن اثبت عكس هذه المقولة.

من المشكلات الرئيسية التي يعاني منها,ليس فقط الشيوعيين العرب,بل شيوعيو العالم,هو عدم امتلاك النضج الفكري الكافي لنقد تحريفية الاتحاد السوفيتي منذ وقت مبكر,أيّ منذ 1956,أو على الاقل منذ الغاء الاشتراكية في العام 1961.الوقوف مع الاتحاد السوفيتي يعني الوقوف مع اكبر مركز اشتراكي,الوقوف مع الاتحاد السوفيتي يعني دعم مركزي كبير للثورات الاشتراكية والتحررية لتحقيق مشروع لينين في دحر الإمبريالية , ولكن هذا الموقف تم بناؤه على اساس فكري علمي ماركسي لينيني رصين,وأن انحرف المسار السوفيتي عن هذا الفكر,فلا بد من رصد هذا الانحراف ونقده اشد النقد. وقلة هم فقط من انتقدوا هذا الانحراف, مثل ماوتسي تونغ,وأنور خوجة,وتشي جيفارا,والتوسير,وفؤاد النمري,وسمير أمين,وغيرهم (لا ننوي ان ننشأ قائمة). الاساس الماركسي اللينيني الراسخ هو الذي يجعل المرء ان يحدد اذ كان الخط السوفيتي يسير على المنهج الاشتراكي ام لا.

ولكن,كما يتبين اليوم,ان اغلب الشيوعيين(المنتسبين إلى في الحزب الشيوعي) كانوا مجرد وكلاء او موظفين للقيادة السوفيتية, سواء كانت هذه القيادة ماركسية لينينية او قيادة عسكرية مخالفة للماركسية اللينينية.


2/الطبيعة الانتاجية للعمل الجسدي والعمل الذهني.


لا يمكن للمرء,سواء كان ملماً بالماركسية او لا, ان يزعم بأن لا توجد خصائص مغايرة ومتباينه ما بين العمل الجسدي والذهني. ولكن الامر لا ينحصر في خصائص متابينة ما بين نوعين من العمل,او ما بين شكلين , بل ما بين اسلوب عمل لطبقتين مغايرتين,او بمعنى اخر, شكل انتاجي لطبقتين مختلفتين.
الطبيعة الانتاجية للعمل الجسدي,أيّ,حصراً الطبيعة الانتاجية لطبقة البروليتاريا, هي طبيعة جماعية او مشتركة (Social/Mass Production), تعتاش فقط من خلال بيع قوة عملها لمشتريها الوحيد وهو الرأسمالي. وهذه الطبيعة الجماعية قد اكتسبت شكلها بسبب ادخال الآلة في الانتاج وهذه الآلة بطبيعتها تحتاج الى العمل المشترك في شكل انتاجي واسع النطاق (Large-Scale Production), وفي هذا الشكل الانتاجي يظل البروليتاريا غارقاً في العمل الجسدي المرهق.

الطبيعة الانتاجية للبروليتاريا, سواء كانت البروليتاريا الصناعية (Industrial Proletariat) أو البروليتاريا الزراعية (Agricultural Proletariat) ,تفرض الطبيعة الجماعية اللافردية في الانتاج,تفرض انتاج فائض القيمة (Surplus Value) للرأسمالي الذي يشتري قوة العمل.

العمل الجسدي لا يعني, بأي شكل من الاشكال,انعدام العقل,البروليتاري لا يعمل من دون عقله بالطبع, ولكن انتاجه هو غير انتاج ذهني بل قائم كلياً على الانتاج الجسدي في الصناعة التي وحدها تصنع سلعاً ذات قيمة استعمالية وتبادلية,ووحدها التي تنتج فائض القيمة اساس المجتمع الرأسمالي.

اما الطبيعة الانتاجية للعمل الذهني,التي بشكل حصري الطبيعة الانتاجية للطبقة البورجوازية الوضيعة / الطبقة الوسطى (أو كما يطلق عليها الغالبية: البورجوازية الصغيرة) , تتسم بالإنتاج الفردي (Individual Production). البورجوازي الوضيع,سواء كان فلاحاً فقيراً, او مهنياً ,او ادارياً ,او مكتبياً ,او مبرمجاً,او خادماً (وغيرها من مهن الطبقة الوسطى) دائماً ينتج بشكل فردي,وانتاجه يتم استهلاكه في ذات الوقت.

هذا البورجوازي الوضيع,يستخدم ذهنه في الإنتاج,وهذا لا يعني انه يستغني عن جسده, فكيف المبرمج,على سبيل المثال, ان يوظف عمله الذهني الاساسي من دون ان يضغط على الازرار الموجودة في لوحة مفاتيح الحاسوب ؟.ولكن هذه العملية ككل,تتسم بعملية انتاج ذهني وفردي,وليس جماعي. وكذلك يقع الامر على الفلاح,الذي يشكل استثناءا في مسألة العمل الذهني. انتاج الفلاح الفقير (Poor Rural Worker/Poor Peasant) يسيطر عليه طابع العمل الجسدي أكثر من الذهني, ولكن يظل هذا الانتاج صغيراً وفردياً ولا يتسم بالجماعية, وبهذا السبب عندما شكلت الآلة ثورة صناعية وهددت الشكل الفلاحي الانتاجي العائلي , وعندها قام الفلاحون ببيع قوة عملهم ليتحولوا إلى بروليتاريين زراعيين يعملون في ظل انتاج موسع النطاق وجماعي. ولهذا تحالف العمال والفلاحين لا يعد تحالفاً واهماً,من حيث الفلاحين ايضاً ينتجون سلعاً ولكن في نطاق صغير, وفي الدول المتخلفة رأسمالياً يسود الطابع الانتاجي الفلاحي ويصبح ملحاً للطبقة العاملة ان تتحالف مع الفلاحين وتحوليهم شيئاً فشيئاً من فلاحين فرديين إلى تعاونيين واخيراً إلى جماعيين من اجل الوصول إلى المجتمع الشيوعي. بإستثناء هذا, الانتاج البورجوازي الوضيع,طبعاً من ضمنهم الانتاج الفلاحي, هو انتاج فردي وصغير,ويتهدد مصيره في كلتا النظامين: الرأسمالي والاشتراكية (المرحلة الاولى من النظام الشيوعي).

للخدمات –التي تخلقها الطبقة الوسطى- دورين, دور في الرأسمالية, من حيث تسهيل حركة رأس المال, مثل المواصلات او الخدمات المصرفية, ايّ في تسهيل وتنمية حركة رأس المال. اما في الاشتراكية تلعب الخدمات دوراً مغايراً, مثل خدمات الرعاية, او الصحية,او الإدارية, او التعليمية , من اجل التنمية الانتاجية,وخصوصاً تنمية البروليتاريا, من حيث صحتها وتعليمها ورفاهيتها.

تأخذ الطبقة الوسطى الخدماتية دائماً المنصب الوسطي في الهيكل الاجتماعي, سواء كان هذا الهيكل هيكلاً رأسمالياً أو اشتراكياً,فهي دائماً ما بين طبقتين انتاجيتين كبيرتين,وفلهذا اقتصادها,بالمقابل ليس اقتصاداً رأسمالياً ولا اشتراكياً, بل اقتصادها هو اقتصاداً استهلاكياً, يجسد في دولة الرفاه الاجتماعي, او ما يسمى بإقتصاد الخط الثالث.

وهذا الخط الوسطي لا يمكن ابداً ان يلعب دوراً انتاجياً مهماً يضيف شيئاً في الثروة الوطنية ,وتم تسميتها, في ادبيات الماركسية اللينينية بالفرع الغير انتاجي (Non-Productive Branch) ايّ لا يخلق الثروة بأي شكل من الاشكال.


3/ قانون القيمة والعمل الذهني.

قانون القيمة هو ليس قانون منحصر في نمط الانتاج الرأسمالي وحسب,بل فعالية قانون القيمة تسري اينما وجد الانتاج السلعي. قيمة السلعة لا تحددها سوى ساعات العمل المبذوله فيها , وإزاء ذلك يتم تنفيذ تبادل السلع وفقاً لكمية العمل الاجتماعي المبذول لإنتاجها.

قيمة السلع تكتسب من خلال الجمع ما بين "الرأسمال الثابت والرأسمال المتغير وفائض القيمة" وتلك القيم تخضع لمعدل الربح (Average Rate of Profit) وتتحول إلى اسعار الإنتاج (Price of Production) ويختلف معدلها او يتساوى مع متوسط معدل الربح.

فائض القيمة,بهذا الخصوص, يستخرج من خلال الرأسمال الصناعي وحسب,لا يمكن استخراج فائض القيمة في اي فرع اخر غير الفرع الصناعي السلعي واسع النطاق, العمل الجسدي, وحده, ولا شريك له, يمكنه ان ينتج فائض القيمة,اساس النظام الرأسمالي. كيف يمكن تفسير حياة النظام الرأسمالي من دون فائض القيمة وبالتالي من دون العمل الجسدي.

ولهذا العمل الجسدي عندما يسود,يسود معه قوانين الانتاج السلعي,واذا كان الانتاج السلعي في اعلى مراحله, مثل الرأسمالية, يكون العمل الجسدي هو السائد وهو المهم, لانه العمل الوحيد الذي من الممكن ان ينتج فائض القيمة. ولهذا نجد في النظام الرأسمالي عندما يقلل الرأسمالي من رأس المال من قيمة رأس المال المتحرك(Variable Capital) بالمقابل مضاعفة قيمة رأس المال الثابت (Constant Capital) يؤدي إلى انخفاض معدل الربح,وقام ماركس بتسميته بقانون ميل معدل الربح للإنخفاض. بهذا,قوة العمل,بشكل حصري,وبالضرورة,وحدها تخلق القيمة الحقيقية للسلعة,ووحدها يمكنها ان تنتج فائض القيمة, عامود النظام الرأسمالي.

ولكن ان يسود العمل الذهني,ويفوق العمل الجسدي, وتصبح الخدمات الاستهلاكية هي الاسلوب الانتاجي الطاغي في الرأسماليات الكلاسيكية,يعني عدم فعالية قانون القيمة في الرأسماليات السابقة,وهذه الحقيقة ليست بأي شكل من الاشكال تفند نظرية ماركس العلمية, بل هي تعزز وجودها وعلميتها وكلية صحتها, لان قانون القيمة لا يكون فعالاً إلا في انماط الانتاجية السلعية,وفي هذه الحالة, الانماط الانتاجية السلعية فقط موجودة لدى الدول الانتاجية الشبه رأسمالية, على رأسها الصين, ويكون قانون القيمة في تلك الدول فعالاً. اما حول الرأسماليات السابقة فإذا لا نريد ان نقول انعدام قانون القيمة,ونكون اكثر معتدلين في الكلام,نستطيع ان نقول ضعف قانون القيمة فيها إلى درجة عالية جداً.

وهكذا هي تجليات العمل الذهني المجرد, فهو عمل لا يخلق من ثروة شيء,بل يخدم حركة رأس المال, في الرأسمالية, وينمي طبقة البروليتاريا,في الاشتراكية,ولكن لا يضيف إلى الثروة القومية اي شيء.

ان تكون ماركسياً,يعني ان تكون قارئاً لنمط الانتاجي للمجتمعات المحاطة بك, ان تكون ماركسياً يعني ان تكون قارئاً لهياكل العلاقات الانتاجية والقوى الانتاجية. الماركسي لا يقدم خدماته للإنسانية على اساس اجوف,فهو لا يعمل في جمعية خيرية, بل يقدم خدمته للإنسانية من خلال القراءة المادية التاريخية للمجتمعات.