أسئلة حول... الحركة الاشتراكية الأمريكية... ؟ .. (1)


علي الأسدي
2013 / 11 / 12 - 21:30     

الباحث في موضوع الحركة الاشتراكية في الولايات المتحدة لابد ويأخذ في اعتباره الدور الذي اضطلعت به في محاربة الاشتراكية محليا وعالميا خلال حقبة ما بعد ثورة أكتوبر وخلال الحرب الباردة بوجه خاص. وكان لذلك الدور تأثيرا بالغا في الحد من انتشار الشيوعية في العالم وعلى وجه التحديد في البلدان الحديثة التحرر.

فقد نجح الأمريكيون في اجهاض أي محاولة قامت بها دول أوربية لتبني الاشتراكية أو حتى صيغة مخففة للنموذج الاشتراكي الذي انتهجته بلدان أوربا الشرقية ، البرتغال واسبانيا واليونان مثالا. وتنفيذا لهذه السياسة عاقبت الولايات المتحدة الدول التي اختارت الاشتراكية أو عززت من صلاتها السياسية والاقتصادية مع المعسكر الاشتراكي قبل انهياره ربع قرن مضى ومثال ذلك الشيلي اندنوسيا العراق كوبا السلفادور موزمبيق اليمن الجنوبي غرينادا وغيرها.

تلك كانت سياسة واضحة اعتمدتها ايضا ضد دول المنظومة الاشتراكية بهدف اثارة الاضطرابات وتعزيز الاتجاهات الانفصالية داخل حكوماتها وتحريض مجتمعاتها ضد النظام الاشتراكي وخلق صورة مشوهة عن منجزات الاشتراكية بنفس الوقت الذي تظهر الرأسمالية كرمز للرخاء المطلق والديمقراطية.

أمام تلك التوجهات االمفرطة في العداء للاشتراكية يتولد الاعتقاد لدى الباحث السياسي في تاريخ الحركة الاشتراكية الأمريكية ان الأرض الأمريكية صالحة لزراعة كافة البذور عدا بذور الشيوعية ، فهذه لا تصلح للانبات في تلك الأرض أبدا.

وبالقاء نظرة الى الوراء عبر التاريخ الأمريكي قبل الحرب الباردة ، ومقارنة بعض ما نتعرف عليه من سمات للمجتمع والحياة الأمريكية حينها بواقع أمريكا اليوم لا تبدو السياسات الأمريكية خلال حقبة الحرب الباردة تصرفا غريبا أو شاذا.

فغالبية التيارات الاشتراكية والأحزاب السياسية الأمريكية بمختلف تسمياتها تنظر بريبة وشك للتجربة الاشتراكية اللنينية ، ومع أن بعض التنظيمات السياسية قد تبنت النهج الاشتراكي اللنيني بعد ثورة اكتوبر عام 1917كتجربة يمكن الاستفادة منها ، لكنها تبدي نفورا واضحا من الحقبة الستالينية مع كل ما انجز في تلك الحقبة من تقدم في المجال الاقتصادي وفي الدفاع عن الدولة الاشتراكية.

لكن تلك التنظيمات لم تستمر طويلا فما أن تباشر نشاطا يكسب لها الجماهير حتى تقوم السلطات الحكومية بكبحها وملاحقة أنصارها. ونعني هنا الحزب الاشتراكي الأمريكي والتنظيمات التي انشقت عنه وكونت الحزب الشيوعي الأمريكي فيما بعد ، فهذه بدون شك وبغالبيتها تبنت الفكر الاشتراكي ودافعت عنه في ظل ظروف بالغة القسوة تعرضت خلالها قياداتها وأعضائها للاعتقال والملاحقة والقمع السياسي.

وأفضل الفترات التي عزز فيها الحزب الشيوعي الأمريكي من نفوذه الجماهيري هي فترة ماقبل الحرب الباردة وحتى منتصف الخمسينيات عندما كانت العلاقات الأمريكية السوفييتية في افضل مناخاتها. ما عدا ذلك فقد نظرت السلطات الأمريكية الى نشاط الحزب الشيوعي الأمريكي المعروف بخطه الماركسي اللنيني بعين الشك فتعرضت ممتلكاته وصحفه واعضائه للرقابة والمضايقات بهدف ابعاد الجماهير عن الالتفاف حوله والمشاركة في نشاطاته.

وكان انهيار النظام الاشتراكي قد عزز اكثر من اي وقت مضى الاتجاهات الانعزالية داخل صفوف اليسار الاشتراكي ، فتفرقت كوادره السياسية بين التيارات الأنارخية والتروتسكية و الليبرالية والاشتراكية الديمقراطية.

تهيمن على الحياة السياسية في الولايات المتحدة اليوم الاتجاهات اليمينية موزعة بين الحزبين الرئيسيين الديمقراطي والجمهوري ، ومما يثير الفضول في الوضع الراهن الصعود السياسي السريع لما يسمى بحركة حزب الشاي. وبحسب المعلومات الشحيحة التي ظهرت للعلن فهم مجموعة محدودة متطرفة في نهجها السياسي المخالف أحيانا لأكثرية أعضاء الحزب الحمهوري الذي تنتمي له. لكن ظاهرة حزب الشاي ليست طارئة في الحياة السياسية الأمريكية ، فلها جذورها في وعي وثقافة المجتمع الأمريكي ، كما سنرى لاحقا عند التعرض الى تاريخ الحركة الاشتراكية الأمريكية.

نهج حزب الشاي يقتفي اثر الاتجاهات العنصرية المتأصلة في ثقافة اليمين الأمريكي ضد الملونين والمهاجرين من أصول أفريقية أو شرق أوسطية وأمريكو- لاتينية ، وفي الاتجاهات المعادية للشيوعية التي نشأت بعد النجاح الذي احرزه البلاشفة في تعزيز سلطتهم والمباشرة بتنفيذ التغييرات الاقتصادية والاجتماعية في روسيا.

والواجهة التي يعملون تحت رايتها اليوم هي وقف ما يطلقون عليه " السياسة الاشتراكية للرئيس أوباما " ، وهي المهمة التي لا يتحرجون من الاعلان عنها في كل وقت وكل مناسبة. وحقيقة الدوافع وراء كل ذلك هو الدفاع عن مصالح المؤسسات المالية والشركات الكبرى بمنحها المزيد من الاعفائات الضريبية واطلاق الحرية لها لتعظيم ارباحها على حساب الأكثرية الساحقة من الأمريكيين.

وقبل أن أتناول تاريخ الحركة الاشتراكية الأمريكية أعرض على القارئ العزيز نموذجا واحدا لمستوى ثقافة ووعي جماعة حزب الشاي الممثلة لوسط اجتماعي يفكر ويعيش مرحلة تاريخية أزفت منذ عهد طويل نسبيا. الحركة بالنسبة لنا أبناء المجتمعات النامية ظاهرة ليست عابرة ، فنحن نعيشها حاليا لسوء الحظ بالرغم منا ، ممثلة في التيارات والحركات الدينية الغريبة المغرقة في التخلف الفكري والاخلاقي ، وفي القسوة ضد مخالفيها والتي لا يجمعها جامع مع الحياة الانسانية.

فوفق وجهة نظر جماعة حزب الشاي فان الرئيس الأمريكي أوباما ينفذ برنامجا اشتراكيا في حين تخلت الدول الاشتركية عنها ، ويعلنون عن ذلك نتيجة قناعة فكرية ، وهم مقتنعون تماما بأن الرئيس يسعى لتأسيس " اتحاد الولايات الاشتراكية المتحدة الامريكية ". --union--IZED SOCIALIST STATES OF AMERIKA" "

وقد كتب JANE GALAT وهو واحد من أعضاء الحزب المذكور مقالا في موقع حزب الشاي على الانترنيت جاء فيه: " الأمل الوحيد الذي راودني في السنين الأربعة الأخيرة عندما توقعت فوز ROMNY والحصول على الأكثرية في مجلس الشيوخ للانتهاء من هذا الكابوس ويبعدنا عن هذا الخراب الذي سببه أوباما والتقدميون ، ولكن أملي قد تحطم."

ويدرج الكاتب في مقاله صورة لمواطنين فرنسيين يبكون وهم يتطلعون للجنود الألمان أثناء غزوهم واحتلالهم لفرنسا إبان الحرب العالمية الثانية ، ويضع تحت الصورة مقتطفات من خطبة لنكيتا خروتشوف في مجلس الشيوخ الأمريكي أثناء زيارته للولايات المتحدة عام 1959جاء فيها :

" لن نتوقع من الشعب الأمريكي أن يقفز من الرأسمالية الى الشيوعية ، لكننا سنعطيكم جرعات منها ، فنحن لن نحاربكم ولن نضعف اقتصادكم حتى تسقطون كثمرة قاكهة ناضجة في أيدينا ".

وينهي الكاتب جين كالت مقاله قائلا : " ستحصل ايران على القنبلة الذرية ، وكذلك مصر والسعودية وتركيا ، وربما ستمسح اسرائيل عن وجه الأرض ، لكنها لن تنتهي من دون مقاومة بطولية. أوباما لن يدعمهم ، وسيرفض قبول الاسرائيليين كلاجئين في الولايات المتحدة. الكل سيقول انها غلطتهم بسبب قمعهم للفلسطينيين. يفترض بي أن أتحلى بالحكمة وأن لا أواصل كتابة هذه الآراء ، لأنها تحرج الرئيس الحبيب ورفاقه الميامين ، لكن هل هناك من يهتم بعد كل هذا ..؟ "

أوردت جزءا من المقال اعلاه تمهيدا للتطرق لتاريخ الاشتراكية في الولايات المتحدة التي كانت موضوعا لكتاب تحت عنوان : " IT DIDN’T HAPPENED HERE " لمؤلفيه سايمور مارتن ليبست و غاري ماركس. وقد قام جين غلين بتقييم الكتاب الذي نشرته الصحيفة الأمريكية نيويورك تايمز على حلقات. قمت بترجمة التقييم لأهميته ولكونه اعتمد على مصادر ماركسية وهو ما شجعني لوضعه تحت نظر قراء العربية الباحثين عن تفسير لضعف الحركة الاشتراكية في أهم وأكثر الدول الرأسمالية تقدما. تعقيبي على المقال ستأتي في نهاية الترجمة استكمالا للموضوع وستكون واضحة ومميزة عن النص الأصلي ضمانا والتزاما بالأمانة العلمية.

انفردت الولايات المتحدة بسماتها الطبقية والسياسية والتاريخية وبنظامها السياسي ، وكان لهذه السمات تأثيرها المباشر وغير المباشر على نمو وانتشار الفكر والحركات السياسية الاشتراكية في أوساط الطبقة العاملة وبقية المجتمع الأمريكي ، وهذا بالذات ما حاول المؤلفان اثباته.

فالولايات المتحدة كما عبر عنها ALEXIS DE TOCQUEVIELLE و FIEDRICH ENGELS وآخرون زاروا الولايات المتحدة بانها بلدا " استثنائيا " مميزا عن بقية العالم بسبب ما يسودها من علاقات وتقاليد اجتماعية. وكان أول من اطلق مصطلح " الاستثنائية " على المجتمع الأمريكي هو توكفيلي في عام 1830. ومنذ ذلك الحين باشرت الدراسات المقارنة بحث السمات الاجتماعية للمجتمع الأمريكي ، واتسعت كثيرا بعد الحرب العالمية الأولى كجزء من دراسة لأسباب ضعف الحركة العمالية الثورية في الولايات المتحدة.

كما طرح هذا الموضوع في المناقشات التي دارت داخل الحركة الشيوعية العالمية في اجتماع الكومنترن عام 1920، وبصورة خاصة بين جوني ليفستون وجوزيف ستالين في سكرتارية الكومنترن. فبالنسبة للاشتراكيين بما فيهم ماركسيين وغير ماركسيين " الاستثنائية الأمريكية " تعني سؤالا محددا :

لماذا الولايات المتحدة وحدها من دون المجتمعات الصناعية ينقصها حركة اشتراكية متميزة أو حزبا عماليا..؟

لقد شغل هذا السؤال المنظرين الاشتراكيين منذ نهاية القرن التاسع عشر وما بعدها. لقد حاول أنجلس الاجابة على السؤال في آخر عقد من حياته. كما قام الاشتراكي وعالم الاجتماع الألماني WERNER SAMBERT بمناقشة الموضوع في كتابه الذي صدر بالألمانية عام 1906 تحت عنوان : " لماذا لم تكن هناك اشتراكية في أمريكا...؟ "

WHY IS THERE NO SOCIALISM IN AMERICA..?

كذلك نوقش الموضوع من قبل الاشتراكي الفابي H.G.WELLS في كتابه :
" THE FUTURE IN AMERICA " كما احتلت " الاستثنائية الأمريكية " حيزا مهما من اهتمام لينين وتروتسكي لعلاقتها بتنبؤات ماركس التي عبر عنها في مقدمة كتابه " رأس المال " حيث يقول فيه : " البلد الأكثر تقدما صناعيا ينقل للبلدان الأقل تطورا الصورة التي سيكون عليها المستقبل". لكن الواضح أنه منذ الربع الأخير للقرن التاسع عشر وللوقت الحاضر ما تزال الولايات المتحدة البلد الأكثر تقدما.

وفي محاولة لتفسير غياب حركة اشتراكية فان عددا من الكتاب الاشتراكيين قد وصفوا الولايات المتحدة بنفس الصفات التي تحدث عنها الفرنسي توكوفيلي ، حيث لاحظ هذا عام 1831 بأن الولايات المتحدة مختلفة في أسس نظامها ومؤسساتها السياسية والدينية عن بقية المجتمعات الغربية. فهو يعتقد بأن الناس فيها متساوون ويستحقون المساواة في الحقوق والفرص ، كما تتميز بارتفاع مستوى الانتاجية الاقتصادية وعمق وقوة التأثير الديني ، ولامركزية الدولة واقرارها مبدأ الانتخابات الذي طبقته بصورة مبكرة وبغياب مرحلة النظام الاقطاعي من تاريخها.

وكان أدوارد بيرنشتاين قد أعلن قبل أن يتحول الى ماركسي اصلاحي بقوله " نحن نرى ان الاشتراكية تتجذر في الولايات المتحدة لعلاقة ذلك مباشرة باتساع الرأسمالية وظهور البروليتاريا." كما بين كارل كاوتسكي في عام 1902 " ان أمريكا هي مرآة لمستقبلنا "، وأكد ايضا في عام 1910" ان التناقضات الطبقية تزداد حدة وقوة في الولايات المتحدة أكثر من أي بلد آخر".

وذكر الماركسي البريطاني H.M. HINDMAN في عام 1904 " بأن الولايات المتحدة بسبب تطورها الاقتصادي والاجتماعي فستجد الاشتراكية فيها بلدا مفتوحا للتعبير عن نفسها ". وبين AUGUST BEBEL زعيم الحزب الاشتراكي الديمقراطي الألماني عام 1907 بان " الأمريكيين سيكونون أول من يعلن جمهورية اشتراكية."

لقد قال ذلك في وقت كان لحزبه في مجلس النواب الألماني عددا من الأعضاء بنفس الوقت الذي يحظى حزبه بتأييد شعبي واسع. بينما لم يحصل الحزب الاشتراكي الأمريكي الا على أقل من 2% من أصوات الناخبين.

وفي عام 1906 أعلن دي ليون DAVID DELION زعيم الحزب الاشتراكي العمالي الأمريكي الذي وصفه لينين " بالماركسي المبدع " ، أعلن في اجتماع الحركة العمالية الصناعية العالمية في شيكاغو : " اذا كانت قراءتي للتاريخ صحيحة فان نبوءة ماركس ستتحقق ، وان الولايات المتحدة ستشهد انهيار الرأسمالية في العالم ".

فشل الاشتراكيين في ايجاد حركة قوية في الولايات المتحدة قد أحرجت المنظرين الماركسيين الذين اعتبروا البنية الاقتصادية والسياسية الأمريكية ناضجة للاشتراكية.
وكان MAX BEER الذي انفق من عمره 50 عاما في النشاط الاشتراكي العالمي ، اضافة الى مساهماته في نشاطات الاحزاب الاشتراكية والعمالية في كل من بريطانيا وألمانيا والنمسا قد اشار الى قلق الماركسيين الأوربيين حول ضعف الاشتراكية في أمريكا. فالمناقشات الخاصة التي جرت بين بعضهم البعض قد خلصت الى رأي مفاده " بان مثال الولايات المتحدة عبر عن تناقض في النظرية الماركسية وهو ما طرح أسئلة أساسية حول صلاحيتها."

فالرأي الذي كان سائدا بأن الولايات المتحدة متهيأة لتكون أول بلد اشتراكي قد تضاءل بعد الثورة البولشفية في عام 1917. وقد بدأ الاشتراكيون الأوربيون النظر الى أمريكا كتعبير عن مستقبلهم المحزن ، وبعكس ما كان يتصور بكونها استثناء أو شيئا من هذا ، وبدلا أن تكون نموذجا اشتراكيا يمكن الحذو حذوه ، مازالت دولة رأسمالية. والآن ينظر الاشتراكيون في أمريكا الى الجانب الآخر من الأطلسي ( أوربا) ليتمعنوا في مستقبل حركتهم.