الماركسية في فلسطين فراغ سياسي، وطور زمني يحذر من التجدد

سليم النجار
2005 / 6 / 2 - 14:01     

شكلت الأيديولوجيا الماركسية في المنظمة الفكرية العربية، سؤالين متلازمين لا إنفصال بينهما، فالماركسية هي الصراع الطبقي تعريفا في جوهرها ومجالا المعرفي الحيوي، تنتج تاريخ الظلم الذي وقع على الانسان من قبل سلطة الظلم، الذي يتمظهر بنظم سياسية، وطبقات اجتماعية تدعي أنها تملك حق التسلط، دون مبررمنطقي أو موضوعي، بل قائمة من ميثولوجيا ساذجة، يتواطؤ معها عدد لا بأس به من المثقفين، لا من عدم دراية بقدر ما هو سلوك انتهازي لتحقيق مكاسب شخصية آنية ولحظية.
إذ الماركسية في هذه المنظومة، سؤال صارم لا يقبل القسمة على قيمة اجتماعية تتعارض مع صفتها المعرفية، في الثقافة العربية، هذا التصادم ينتج معنا سؤال ثاني: التاريخ الاجتماعي العربي، الذي بقي متمرحلا في منظومة اسلامية سياسية استلبت كل معارفه، وهيمنت عليه عقود أربعة، وعرفت بالتاريخ العربي الحديث "الاستعمار العثماني- الحكم العثماني".
هاتان الصفتان، ولدت خلافات جذرية في النشاط السياسي العربي، التي حاولت الماركسية قراءة المصطلحات قراءة موضوعية، لكن في بعض أطيافهاالسياسية، وقعوا في فخ ردة الفعل والتشنج، مما دفع بقوى الظلام ان تصطاد الماركسية وتقدمها على أنها غريبة عن ثقافتنا وتقديمها على أنها استلاب، وقد نجحت قوى الظلام في السؤال الثاني، وحققت خطوات كبيرة في الهجوم على الماركسية.
وهنالك أمثلة عديدة في هذا المجال، وسأحاول في هذا المقال ان أقرأ الماركسية وتجربتها في القضية الفلسطينية وأثرها على القضية الفلسطينية، وكما سأتطرق للحالات التي حققت فيها نجاحات والحالات الأخرى، التي أخفقت فيها.
ولن أدخل في قراءة منهجية تاريخية، بمعنى من بداية تأسيس الحزب الشيوعي الفلسطيني، في بدايات القرن الماضي، وتحديدا عام 1979إذا صحت المراجع التي تؤكد على هذا التاريخ، أي بعد نجاح الثورة البلشفية بعامين فقط، طبعا البعض يرى هذا التطور انفتاح فكري سياسي كبير في الأوساط السياسية الفلسطينية، والبعض الآخر يرى عكس ذلك تماما، ويرى ان اليهود لهم الدور الأكبر في تأسيس الحزب الشيوعي الفلسطيني، وبالتالي هذا حزب غير عربي، ولا معني بالقضايا العربية، وطبعا هناك خلافات كبيرة أصلا على التسمية، وفي نهاية المطاف استقر الأمر على تسميات ثلاث للحزب الشيوعي الفلسطينين الحزب الشيوعي الاسرائيلي، الحزب الشيوعي الفلسطيني، الذي أصبح فيما بعد حزب الشعب الفلسطيني مع اصرار عدد لا بأس به من الرفاق على الحفاظ على اسم الحزب، الحزب الشيوعي الفلسطيني "في أراضي الضفة الغربية وقطاع غزة"، مع الأخذ بعين الاعتبار ان الشيوعيين الفلسطينيين الذين أصبحوا تحت الحكم الاردني عام 1948 رفضوا في بداية الأمر هذا الانضمام، واعتبروا هذا الانضمام القسري تفويت فرصة تاريخية بقبول بالدولة الفلسطينية، التي أقرتها قرارات هيئة الأمم المتحدة، لكن الواقع فرض عليهم التعاطي مع الواقع الجديد، وأصبح يعرف بالحزب الشيوعي الأردني الذي عاد وإنشق في بدايات السبعينات على أثر حرب أيلول عام 1970، وأصبح هناك حزب شيوعي أردني، والكادر الليني، اللذان عادا وتوحدا في نهاية الثمانينات من القرن الماضي، وعادا وانقسما في بدايات القرن الجديدن وأصبحا هنالك حزب شيوعي أردني، وحزب الشغيلة الشيوعي، يضاف لذلك كله ان عدد كبير من الكوادر الشيوعية الفلسطينية كانوا وما زالوا العصب الرئيسي للفصائل الفلسطينية، التي شكلت العمود الفقري لمنظمة التحرير الفلسطينية.
هذا الشيوع للأيديولوجيا الماركسية في البنية الاجتماعية الفلسطينية، لم يجعلها تحظى بقوة سياسية رئيسة، بل خضعت لقوانين المد والجزر، وانتعشت الايديولوجيا الماركسية مرة أخرى في بداية السبعينات من القرن الماضي، يد القوى المسلحة الفلسطينية، التي تبنت الايديولوجيا الماركسية، وللمرة الثانية استفادت قوى الظلام، وروجت مقولات عديدة عن الماركسيين الفلسطينين، واعتبرتهم كفرة ملحدين لا قيمة لهم، وهؤلاء ليسوا شهداء من أجل فلسطينن بل ذهب الكثير عن الناطقين بقوى الظلام وأكدوا ان الشهداء الماركسيين "فطايس".
وتحولت الايديولوجيا الماركسية في البنية الاجتماعية الفلسطينية، الى منطق الضرورة لنمو قوى الظلام وتسيرها في ساحة العمل السياسي الفلسطيني، والى قاض عادل، وقوة خفية تزيل ما يجب زواله.
والغريب في الأمر ان الماركسيين الفلسطينيين، لم يتعلموا الدرس جيدا، ويحذروا من قوى الظلام، التي كانت دائما لهم بالمرصاد، وقد نفذت قوى الظلام الى البنية الاجتماعية الفلسطينية، مستفيدة من الأرث العثماني الذي كان لصالح تلك القوى التي بشرت بالخلاص عن طريق ممارسة الطقوس الدينية، فلم يكن مستغربا في الوقت الذي استطاعت تلك القوى في بداية العشرينات والثلاثينات ان تروج وتحديدا في شمال فلسطين، حيفا- يافا- عكا- الناصرة- مقولات مفادها ان الشيوعي يتزوج أخته، ولا محرمات له وانتشرت هذه المقولات بسرعة البرق بين الأوساط الاجتماعية الفلسطينية، في هذا الوقت بالذات، انتشرت قرق الدراويش، وإعادة إحياء نشاطها الهستيري مرة أخرى.
ولم تكتف هذه القوى بترديد هذ المقولات، بل تواطأت مع الاستعمار البريطاني، وتحالفت مع العائلات الفلسطينية صاحبة النفوذ المالي في القدس، لتشكل بذلك قوة فعالة في مواجهة أي حالة من حالات التنوير داخل المجتمع الفلسطيني، الذي عانى من الإرث العثماني، ما عانته باقي المجتمعات العربية، وأصبحت هذه القوى الظلامية هي العمود الفقري للمقاومة ضد الاستعمار البريطاني، وفيما بعد ضد المشروع الاستيطاني، لكن ليس على أرضية الصراع الوطني، بل على خلفية تقاسم النفوذ الاقتصادي، فكما هو معروف، ان المشروع الصهيوني عندما قدمت الأفواج الأولى من المستوطنين الصهاينة شكلوا مستوطنات زراعية وصناعية، وهذا يعني عمليا، ان تغيرا قادما سيتعرض له الاقتصاد الفلسطيني، الذي كان اقتصادا بدائيا وزراعيا، مما يعني فعليا ان القوى الظلامية ستفقد مواقعها الاجتماعية والسياسية داخل المجتمع الفلسطيني، وهذا الوعي البدائي وعلى أهميته، إلا أنه بقي وعيا بدائيا، لم يتطور بقي أسيرا للرموز الظلامية في المجتمع الفلسطيني حتى عام 1948، وهنا يجب ذكر حالة من الضرورة ذكرها، وان صحت الرواية فهي رواية شفاهية، أنه في بداية قدوم الأفواج الصهيونية الى فلسطين عن طريق حيفا، كان بعض من المشايخ يستقبلوهم في الميناء، على اعتبار ان اليهود أولاد عمومة حسب الرواية الدينية، وأعود وأكرر ان هذه رواية شفاهية منتشرة في الأوساط الاجتماعية الفلسطينية الذين عاصروا النكبة، لكن هذه الرواية مسكوت عنها، وبقيت محجوزة في فئات اجتماعية محددة تتداولها بحذر شديد، لكن في كل الأحوال، ان صحت أو لم تصح هذه الرواية تبقى لها دلالاتها، في الوعي السياسي الفلسطيني، الذي آثر السلامة بدلا من التأكد من صحتها أو عدم صحتها، وعلى كل حال هنالك عشرات الروايات التي تحمل هذه الصفة المنتشرة في الأوساط الاجتماعية الفلسطينية، نذكر منها على سبيل المثال، ان النساء الشيوعيات غير ملتزمات أخلاقيا، ويذكر في هذا المجال، ان بنات شاهين وهن من عائلة فلسطينية لها وزن اجتماعي معقول، من مدينة نابلس خلعوا الملابس المحتشمة، وارتدوا ملابس غير محتشمة وتثير الغرائز، وهي بالمناسبة رواية شفاهية أخرى ضد الشيوعيين الفلسطينين قد يبدو الأمر عادي، إذا ما تم النظر لهذه الروايات بشكل جزئي، لكن إذا ما تم تجميعها وقرائتها بشكل جماعي تبدو الصورة مختلفة تماما، ونستطيع من خلال هذا التجميع ان نتعرف بشكل أكثر تنظيم عن القوى الظلامية التي مارست وما زالت تمارس حربها العشوائي على الايديولوجيا الماركسية بوضعها عددا رئيسا، ولم ينته مفعول الرواية الشفاهية عند نكبة عام 1948، بل عادت وانتشرت مرة أخرى، مع انطلاق الثورة الفلسطينية المعاصرة، فقد روجت القوى الظلامية مقولات كريهة وتدل على انحطاط اجتماعي وفكري، عندما انتشرت مقولات- "الرفيق للرفيقة والولد للتنظيم" والمقصود بذلك الفصائل الفلسطينية التي تبنت الايديولوجيا الماركسية، حيث ركزت هذه المقولات على تفش ظاهرة ألا أخلاق بين أوساط الرفاق والرفيقات، وأنه ليس هناك محرمات، أو قيم اجتماعية يؤمنون بها، طبعا هذا الترويج ليس فقط للتشهير، بل أخبث من ذلك بكثير، فالمطلوب، ترويج مقولات خطيرة مفادها ان الشيوعيين الفلسطينيين لا يؤمنون بالأسرة، ويضربون عرض الحائط كل القيم الاخلاقية ليصلوا لسؤال هام، هل البوهميين هم من سيحررون فلسطين؟! بكل أسف الماركسيين الفلسطينيين الذين تعاطوا مع هذه المقولات، تعاطوا معها بفوقية متعالية، واعتبروا ان الرد على هؤلاء نوع من أنواع التخلف الاجتماعي! إذا كيف نقرأ الايديولوجيا الماركسية في الساحة السياسية الفلسطينية اليوم؟! يدرج جدل الحداثة العالمية والسياسية ذات القطب الواحد، في المنظومةالفكرية الاجتماعية الفلسطينية، التي ربطت بين الوعي السياسي، وغياب الوعي الاجتماعي، سببا نقديا لممارسة الايديولوجيا الماركسية دورا حيويا في إثراء الحالة النقدية في البنية الاجتماعية الفلسطينية، التي بقيت محافظة على الرغم من التطور في الوعي السياسي الفلسطيني، وهذه مفارقة لافتة في المجتمع الفلسطيني، فهنالك فصل كبير بين الوعي السياسي والوعي الاجتماعي، فالوعي السياسي سابق بمراحل الوعي الاجتماعي الفلسطيني، ونتج عن هذا الفصل فلسفة سياسية تبريرية للتخلف الاجتماعي الفلسطيني، قام الماركسيون بجزء منه في تأسيس جزء لا يستهان منه لفلسفة التبرير، وأخطر ما قام به الماركسيون الفلسطينيون بفصل تعسفي بين زمان النكبة الاجتماعي، وزمان الإرث العثماني الاستعماري، وزمان الدويلات العربية التي تشكلت بعد اتفاقات سايكس بيكو، لعل هذا التأطير النظري جعل من الفلسطيني البعثي منغلقا على وعيه الاجتماعي، وبإعتبار أيقونة مقدسة، إذا ليس من باب المصادفة ان يعيش الفلسطيني في الشتات في حارات خاصة به، كما هو حاصل في المجتمعات، فليس صحيحا عندما يتحسن الحال الاقتصادي للفلسطيني ينتقل من المخيم، هو ينتقل شكلا من جغرافيا ضيقة، الى جغرافيا اكثر فسحة لكنه يبقى يعيش نفس الحالة الاجتماعية، وليس كذلك فقط، بل ينتقل الى جغرافيا تمتلء بالفلسطينين، هذا هو الحال الاجتماعي الفلسطيني، والشواهد في هذا المجال كثيرة ومتعددة.
كما ان جعل الأزمنة منفصلة، بدت الصورة مختلفة، وهذا ليس صحيحا، فالتخلف وان اختلفت أنظمته السياسية والايديولوجية تبقى واحدة، وان تنوعت أساليب نشر تخلفها وبغض النظر عن الأدوات المستخدمة في الترويج لهذا التخلف.
يمكن القول استنادا لما تقدم ان هذه قراءة أولية في النقد السياسي الاجتماعي الفلسطيني، ودور الايديولوجيا الماركسية في إثراء المشهد النقدي، في ظل التمييز الواضح، أننا الآن نعيش في زمانين متميزين، زمن السلطة الوطنية الفلسطينية،وزمن الشتات الفلسطيني، هما صورتان من زمن بنية اجتماعية واحدة، سمتها الرئيسية التخلف! لذا علينا تحديد هذا الزمان، ومن ثم التنظير لحركة نقدية اجتماعية، تأسس لبنية زمنية اجتماعية فلسطينية متجددة يمكن اطلاق عليه زمن التجدد.