رأسمالية متأخرة أم ما بعد الرأسمالية ؟


عقيل صالح
2013 / 10 / 28 - 01:04     

كتبنا مقالة تحت عنوان (( النقد والنقد الذاتي)) في 17/10/2013 , والحق يقال أننا لم نتوقع هذا التفاعل القوي وهيجان الصراع الفكري الحاد في أوساط كتبة ومعلقو جريدة الحوار المتمدن. التفاعلات والردود والتعليقات كانت تتجه في مختلف الطرق والوجهات, فهناك من تحدث عن أمور لا علاقة لها بالموضوع بتاتاً, وهناك من رأى ان التحدث عن ستالين والاتحاد السوفيتي افضل من التحدث عن ماهية النص, وهناك من ناقش المضمون.

السيد جاسم الزيرجاوي هو احد الكتاب الذين ناقشوا المضمون ونقل هذا النقاش من خانة التعليقات الصغيرة إلى مقالة تتناول موضوع مقالتي بشكل خاص تحت عنوان (( نقد :النقد والنقد الذاتي)).

مقالة السيد الزيرجاوي قد ذكت نار المناقشة والجدل حيث كردة فعل كتب الرفيق فؤاد النمري مقالة أخرى وكذلك السيد علي الأسدي, هذا الامر جيد واعتبره اثارة للديناميكية الفكرية في ظل الستاتيكية الدوغماتية السائدة.

النقطتان الأوليتان من مقالة السيد الزيرجاوي تتحدث عن نظرة ماركس,وأنجلز,ولينين, وجدانوف حول النقد والنقد الذاتي. قدم السيد الزيرجاوي فكرة عامة حول ذلك, بالرغم انه قدم رأيه الشخصي – نظرتنا خارج الموضوع – حول النقد والنقد الذاتي لدى ستالين وجدانوف.

أما باقي المقالة فأرى أنها تتضمن الأساس لنقده لمقالتي , وهي التي يمكنها تفتعل نقاشاً تحت أسم : رأسمالية متأخرة أم ما بعد الرأسمالية ؟ (Late Capitalism´-or-Post-Capitalism?).

يلخص السيد الزيرجاوي مقالتي : ((حل أحزاب الأممية الثالثة, بإستخدام سلاح النقد والنقد الذاتي.)) لسببين : ((أن تلك الاحزاب تجاوزت المدة المطلوبة لأنها مصممة لهدف معين آنذك)) و : ((ان تنتقد الاحزاب الشيوعية ذاتها وتعتذر على وقوفها مع القيادة الرجعية البروجوازية الوضيعة السوفيتية منذ العام 1953)).

وملخص رأيه :((لا يهتم السيد عقيل , لا, بمشروع لينين , ولا بسقوط الامبريالية والراسمالية !!. (...)بل المهم عند السيد عقيل (...)لماذا وقفت الاحزاب الشيوعية مع خرتشوف ضد ستالين!!!!)).

يعتقد السيد الزيرجاوي, بشكل خاطئ تماماً, أنني ادعو إلى حل احزاب الاممية الثالثة لأنها لم تعتذر على وقوفها مع القيادة الرجعية البورجوازية الوضيعة السوفيتية منذ العام 1953 -بالرغم من هذا السبب الرئيسي للدور الخياني للأحزاب-. سيدنا يحاول ان يضلل القراء, ويحاول ان يغطي الحوار الأساسي بالتمويه والتورية. القارئ الناقد الأمين إما لم يفهم مقالتي - وانا اعلم أنه قارئ جيد- أو إما يحاول ان يلبسها عباءة مشرمطة غير مجدية.

في الحقيقة في مقالتي عللت أن السبب الوحيد لحل احزاب الأممية الثالثة هو تجاوز المدة المطلوبة لتلك الاحزاب, لأن تلك الاحزاب هي وليدة عصر معين, عصر الامبريالية والاستعمار. اما حول اعتذار تلك الاحزاب عن وقوفها مع القيادة العسكرية السوفيتية منذ 1953 فكان في سياق آخر لا علاقة له لسبب لحل احزاب الاممية الثالثة.

لم يعطِ السيد الزيرجاوي اي رأي, مخالف ام مؤيد, لمسألة حل احزاب الأممية الثالثة, بل ذهب- في هذه التورية – ليصورني كستاليني مجنون بحب ستالين, اقوم بالمناقشة والمهايطة والصراخ واكتب المقالات فقط لأن في قلبي الوغر والغيظ تجاه خروتشوف لأنه انتقد ستالين فقط!. لنفترض هذا الكلام, بشكله المجرد, صحيح فلماذا لم يحقد ولم يشتم عقيل صالح في مقالة من مقالاته مولوتوف, أو ياروشينكو,أو اللجنة المركزية للحزب الشيوعي السوفيتي, أو حتى لينين؟. الناقد الأمين يحاول ان يقول بكل بساطة ان هذا الشاب اليافع (التسمية التي يطلقها علي) يحب ستالين فقط كمن يحب فرقة البيتلز, يعادي من يعاديه ويحب من يحبه.

السيد الزيرجاوي يفصل, بشكل مضحك, ما بين نقده التلقائي ونظرته الحقيقة, فهو يرفض من جانب تصديق حقيقة الإنقلاب العسكري على الاشتراكية وتخريب مسار التنمية الاشتراكية في الاتحاد السوفيتي والدول الديموقراطية الشعبية, ومن الجانب الآخر يستنكر متسائلاً اذ قامت الاحزاب الشيوعية بواجبها في التحرر الوطني :

((فهل قامت هذه الاحزاب بثورات التحرر الوطني ,( أما اليوم بعد ثورة التحرر الوطني....), أم العسكريتاريا هي التي قامت بانقلابات عسكرية , مصر 1953, العراق 1958.))

ما يفوت السيد الزيرجاوي, ان الانقلاب العسكري في مصر بقيادة عبدالناصر اتجه نحو التماثل والتوحد مع المركز الاشتراكي, بل انطلق إلى ان يؤسس حركة عدم الانحياز التي كانت دولها تتحرر وطنياً آنذاك ووحدت نفسها مع الاتحاد السوفيتي. أما عبدالكريم قاسم فقد رفض ان يتوحد مع الشيوعيين الذي طالب الشعب العراقي بحكمه في مظاهرة هائلة في بغداد. ما الذي يبرر تواري الحزب الشيوعي العراقي عن الانظار بينما كان في يده الفرصة في ان يتولى زمام الامورغير الأمر السوفيتي ؟.

للأسف الناقد الأمين انزلقت رجله في الوحل ليمحور المقالة نحو قصة آخرى تماماً,بوعي أو دونه, ذاهباً إلى تحليل أكثر لسايكولوجية الكاتب فضلاً عن تحليل الوحدات والتكوينات والتفاعلات الاجتماعية الراهنة. فهو يحاول ان يؤسس انطباعا لقرائه حول الكاتب ,ويحاول ان يعطي لنفسه دور الفارس المقدام محارب الدوغماتية والجمود, بينما هو يورط نفسه في القوالب الدوغماتية والجمود.
أحد الجمل التي تشع بالجمود العقائدي هي :

((أن انهيار الرأسمالية هي ضربة قاصمة لنظرية ماركس.))

اذن, صاحبنا يخاف على ذاته, هو لا يريد ان يقول لأحد انه على خطأ , لا يريد ان يقول للناس انه ناضل كل السنوات هذه من أجل ان تنهار الرأسمالية على يد الطبقة الوسطى وليس على يد الزيرجاوي الشيوعي. لهذا, لا يمكن ان تنهار الرأسمالية ! لأن اذا انهارت حرب الزيرجاوي القادمة ستكون ضد من؟ سيناضل ضد من ؟ وسيكتب ضد ماذا ؟.

صحيح ان ماركس لم يتوقع ابداً –ولم يكن بوسعه ان يتوقع- سقوط الرأسمالية على يد الطبقة الوسطى, ولكن هذه الحقيقة بحد ذاتها ليست مخالفة لنظرية ماركس العلمية. أنطلق ماركس اولاً من الديالكتيك المادي (Materialist Dialectics)في المجتمع والطبيعة والتاريخ والكون, كل حركة محكومة بالحركة الديالكتيكية وحدها. إذن لا توجد حقيقة مطلقة مانعة ثابتة, المجتمعات دائماً في سيرورة التطور, البشر دائماً يقعون في تفاعلات اجتماعية, مكونات المجتمعة كلها ترتبط ببعضها البعض في حلقة الصراع, حقائق الامس يمكنها ان تختفي اليوم, الواقع الماضي يختلف عن الواقع الحاضر.

وعلماء الاجتماع (الماركسيون) اذا ارادوا ان يتعرفوا على المجتمعات لابد ان يتعمقوا في صلب المجتمع.يجب عليهم ان يدرسوا التحركات والأفعال الاجتماعية الموجودة اليوم, في عالمنا الراهن, وكارل ماركس كان من اوائل العلماء الذين نظروا إلى العالم كما ينبغي رؤيته, بشكله الواقعي الحقيقي.

هذا ما ينبغي للسيد الزيرجاوي ان يفعله ايضاً, ولكنه يرفض انهيار الرأسمالية ويدرج احصائيات رسمية -التالية- للقوى العاملة الامريكية ليأتي بعكس ما قلته حول عدد البروليتاريا في الدول الرأسمالية الكلاسيكية التي تبلغ نسبتها اقل من 20%:

((78.6% في قطاع الخدمات.
19.9% في قطاع الصناعة
1.5% في قطاع الزراعة))

ويواصل :

(( هذه ال 20% (في الدول الرأسمالية الكلاسيكية ),من الخيال الخصب للسيد عقيل.))

لا تظلموا السيد الزيرجاوي بعد ! فأنه يستطيع ان يعلل هذا الكلام الاستنكاري على هذا النحو:

((نعم , أن قطاع الصناعة في امريكا, واكرر في امريكا فقط ولعام 2011 فقط, يشكل تقريباً 20% في حين أن قطاع الخدمات , في امريكا, لسنة 2011 ,فقط, يشكل 78%.لكن هذه ال (78.6% في قطاع الخدمات), ماذا تعني(...)جميع الصناعات, All industries, باستثناء تلك الموجودة في الزراعة والتعدين والبناء والصناعة التحويلية.(...)يشمل : وسائل النقل والاتصالات والخدمات العامة , وتجارة الجملة والتجزئة،و التمويل، و التأمين,و العقارات، وغيرها من الخدمات الشخصية والتجارية و الحكومية))

ما يحاول السيد الزيرجاوي ان يقوله هنا هو ان لا فرق ما بين القطاع الصناعي الامريكي الذي يشتغل فيه العمال الصناعيون- الذين يشكلون 20% -, و القطاع الخدماتي الذي يشتغل فيه عمال خدميين -الذين يشكلون 80%- إلا طبعاً في ((الزراعة)) و((التعدين)) و((البناء)) و((الصناعة التحويلية)).يريد ان يقول أن الـ 80% هم عمالاً لكنهم يشتغلون بأماكن أخرى, أيّ, حالهم حال العمال صناعيين يصنعون سلعاً ذات القيمة التبادلية التي تدخل السوق وتكتسب صفة الفيتشية. ولكن ما نعرفه هو ان عمال الخدمات يتميزون بالعمل المعرفي (Mental Work) أو على حسب تعبير الامريكان : عمال ذو الياقة البيضاء (White Collared Workers), هم لا ينتجون اي قيمة تبادلية تدخل إلى السوق, بل الخدمات وجدت للإستهلاك الشخصي (Personal Consumption) .

في السابق كانت الخدمات تلعب دور محرك رأس المال, فمع تضخم المشاريع الرأسمالية قامت البنوك بإتاحة الفرصة للمساهمة في تطوير تلك المشاريع الرأسمالية التي من الممكن الجميع ان يشارك فيها بشراء الأسهم التي تعطي شاريها جزء من الربح. فالخدمات , مثل الخدمات المصرفية, وجدت لتخدم الحركة الرأسمالية بشكل أكثر سهولة.

الانتاج الخدماتي اليوم يحتل الدول الرأسمالية الكلاسيكية, ليس فقط في العام 2011 , وليس فقط في الولايات المتحدة. الإحصائيات للعام 2012 للولايات المتحدة,وفرنسا,وبريطانيا هي كالتالي:

بريطانيا:

قطاع الخدمات: 78.2%
القطاع الصناعي: 21.1
القطاع الزراعي: 0.7%
الولايات المتحدة:

قطاع الخدمات: 79,9%
القطاع الصناعي: 19.1
القطاع الزراعي: 1.2%

فرنسا:

قطاع الخدمات: 79,8%
القطاع الصناعي: 18,3%
القطاع الزراعي: 1,9%


ينهي السيد الزيرجاوي مقالته بسؤال في غاية الأهمية :

((هل تنطبق شروط المجتمع الرأسمالي, التي رسمها ماركس على الاقتصاد الامريكي و الاوروبي؟))

ولكنه رأى ان اذا كان الجواب بالنفي فإذن هذه محاولة لنقض ماركس ويرجح ان يكون حامل هذا الجواب من بقايا المكارثية (لا تضحكوا! ), ويرى ان الجواب الصحيح هو طبعاً جوابه ((نعم)).

جواب السيد الزيرجاوي جواب واجف تمجه لغة العلم , لا يرصد المجتمع كما ينبغي رصده. المجتمعات الرأسمالية قومية تصدر سلعها القومية من المركز إلى الاطراف, ولكن المجتمعات الرأسمالية التي يتحدث عنها السيد الزيرجاوي هي مجتمعات لا تصدر السلع, بل تستورد السلع , المجتمع الرأسمالي الخاص بالسيد الزيرجاوي هو مجتمع لا عمال صناعيين فيه بل عمال خدميين لا يصنعون اي سلعة من السلع. المجتمع الرأسمالي الخاص بالسيد الزيرجاوي يستدين بشكل فلكي من الصين. إذ كان يصعب على السيد الزيرجاوي لغة العلم فلا بأس, ولكننا ندعوه إلى ان يتخذ لغة المنطق كأساس.

السيد الزيرجاوي معروف بعقلانيته, وقد نصحته كتابة هذه المقالة لأنني كنت اتمنى عودة رفيقي الزيرجاوي الناقد الأمين المحافظ على النزاهة الفكرية, ولكنه في مقالته أدخل الفكر إلى السواد الحالك إلى غرابيب سود. الفكر يتطلب التشريح الاقتصادي للمجتمعات, لكي يكون فكراً, حقيقياً ملموساً. أما الفكر الذي يفرض نفسه من دون اي اساس فهو فكر مرتجف ومضطرب وأجوف.

نصيحتي للسيد الزيرجاوي : أنزع الفكر من الظلمات الحالكة !.