في ذكرى ثورة اكتوبر الاشتراكية


سامان كريم
2013 / 10 / 24 - 12:45     

الى الامام: تصادف هذه الايام ذكرى ثورة اكتوبر الاشتراكية التي اندلعت شرارتها عام 1917، ما هي الدروس التي نستخلصها بعد مرور ستة وتسعين عام عليها؟

سامان كريم: نحن على عتبة ذكرى لحدث عظيم غير وجه المعادلات السياسية وتوزان القوى بين مختلف دول العالم وتياراتها السياسية المختلفة. ثورة اكتوبر, حدث اجتماعي كبير على الصعيد العالمي, وضعت الدول الكبرى من امريكا وبريطانيا والمانيا في حالة من الصدمة, وكانهم لم يحسبوا الحساب للثورة العظيمة هذه. ان الثورة العمالية وفي بلد متخلف مقارنة بالدول الغربية, فيها دروس عظيمة وكبيرة وفيها نقاط ضعف وسلبيات كثيرة دون ان يكون لذلك اي اثر على عظمة الثورة وأهميتها العالمية والمحلية بالنسبة لروسيا, دون أن يـتاثر عنفوانها وجمالها وتغلغلها في مخيلة الملايين من العمال والكادحين في خارج روسيا وداخلها.

لابد لإنعطاف تأريخي كهذا, وهي تحول اجتماعي عظيم على الصعيد العالمي, لها دروس كبيرة وكثيرة. الدرس الاول هو وجود حزب ماركسي ذو بنية طبقية مؤثرة على صعيد النضال العمالي. وقيادة مدركة لاستراتيجيتها وتكتيكها بشكل دقيق لمراحل مختلفة من الصراع السياسي, وذو نظرة ثاقبة للتحولات التالية التي تواجه الطبقة العاملة وحزبها, واقصد بالقيادة شخص لينين ودوره في مختلف مراحل تطور الحركة العمالية وحزبها. الدرس الثاني: المركزية الحزبية الصارمة والانضباط والطاعة الحزبية, كانتا من الدرجة العالية في العمل الثوري سواء كان في الاعمال اليومية الإعتيادية او في مراحل ثورية مختلفة في سنة 1905 وثورتي شباط واكتوبر, من حيث الاداء الحزبي الداخلي وعلى الصعيد الاجتماعي, وتجسيد سياسات الحزب في العمل الأجتماعي. الدرس الثالث: دقة في تحديد ساعة الثورة, على رغم المعارضة القوية داخل القيادة البلشفية. هذا الحس القيادي مرهون بدقة القيادة في تقدير الامور على الصعيد الاجتماعي وقراءة دقيقة لتوازن القوى بين مختلف اجنحة البرجوازية من جانب والطبقة العاملة والبرجوازية من جانب اخر, وسير تطور هذه العملية لصالح الطبقة العاملة بفعل الثورة. يقول لينين في هذا الصدد "... والانتصار على البرجوازية مستحيل بدون حرب ضروس مديدة وعنيدة, حرب إستماتة, حرب تقتضي رباط’ الجاش والانضباط والصلابة والثبات ووحدة الارادة." (مرض "اليسارية" الطفولي في الشيوعية/ المختارات - الملجد/ 9- دار التقدم).

الى الامام: هناك ثورتين عظيمتين حدثتا في القرن العشرين هما ثورة اكتوبر والثورة الايرانية عام 1979، بماذا تختلف الثورتين عن الثورة المصرية والتونسية في القرن الواحد والعشرين؟

سامان كريم: لكل هذه الثورات طابعها الخاص بها. ثورة اكتوبر لها طابعها الخاص وطابعها الذي يميزها عن باقي الثورات التي ذكرتموها في سؤالكم, هي الثورة العمالية, بالمعنى الخاص لمفهوم الثورة العمالية. الثورة العمالية تعني وتهدف لإلغاء الملكية الخاصة للبرجوازية ونظام العمل المأجور. هذا الاختلاف الجوهري والمحتوائي بين ثورة اكتوبر وباقي الثورات الاخرى. من طابعها هذا, نحصل على عدة خصائص وإختلافات اخرى التي لم تكن موجودة في الثورات الثلاثة الاخرى اي في الثورة الايرانية والمصرية والتونسية... الخصيصة الاولى: هي الثورة المنظمة, قامت الثورة وفق أستراتيجية سياسية وخطة عمل – سياسي وعسكري واضح لإسقاط الحكم البرجوازي اي استلام السلطة السياسية من قبل الطبقة العاملة عبر حزبها "البلشفية". خططت لها مسبقاً من قبل قادتها الطليعة العمالية في موسكو وسان بتروسبورغ مع حلفائها الجنود والفلاحين الفقراء.. ولكي تكون لدينا مثل هذه الثورات نصل الى الخصيصة الثانية: قادت الثورة حزب طليعي للطبقة العاملة اي الحزب "البلشفي", وتم التخطيط ومراقبة ومتابعة دقيقية للاوضاع السياسية والاجتماعية في روسيا والاوضاع العالمية, ودرجة تغير توازن القوى بين الطبقة العاملة والبرجوازية الصاعدة التي تمسكت بالحكم لتوها, ومتابعة دقيقة لتنظيمات الحزب والتنظيمات العمالية الجماهيرية المجالس والتعاونيات و.... وخصوصا في المدن الكبيرة والمراكز الصناعية.... بمعنى اخر بدون وجود حزب شيوعي عمالي ثوري ماركسي ذو رؤية واضحة ليس بالإمكان القيام بالثورة العمالية. والخصيصة الثالثة نابعة من محتوى ثورة اكتوبر أيضا وهي وجود هيئات ومؤسسات تنظيمية جماهيرية وعمالية واسعة بين صفوف العمال والفلاحين الفقراء والجنود في جبهات القتال في الحرب العالمية الاولى... مثل المجالس العمالية والتعاونيات الفلاحية والعمالية وتنظيمات شتى للجنود... وهي كلها جزء من الحركة الشيوعية في اطارها العام. هذا يعني ان الثورة العمالية وبخلاف الثورات الاخرى التي تظهر وتبرز الى السطح بصورة عشوائية و"عفوية" تبنى مؤسساتها المختلفة قبل انطلاقتها.

بخصوص الثورة الايرانية هي الثورة الاولى التي قادتها الجماهير بمختلف طبقاتها وفئاتها المختلفة, التي تمت ضد "البرجوازية تحت السلطة الامبريالية". بمعنى أخر ان الثورة اساسا ليست موجه ضد الرأسمال والطبقة البرجوازية كطبقة بل الثورة كانت موجه ضد جزء من هذه الطبقة, اي التيار البرجوازي الامبريالي المتمثل بنظام حكم الشاه. من حيث المحتوى الاقتصادي للثورة كانت موجه ضد كل الاختلالات التي رافقت عملية تاريخية لتحويل إيران كنظام سياسي اجتماعي سائد فيه النظام الاقطاعي نحو نظام سياسي – إجتماعي جديد اي النظام الراسمالي. هذه العملية في هذه البلدان وهذا يشمل العراق ومصر والجزائر وسوريا وتقريبا كل البلدان التي يسميها الأدب الاقتصادي السائد بالبلدان "التابعة" ونحن نسميها "تحت السلطة الامبريالية", تمت فيها عملية التحول هذه بسرعة جنونية خارقة وفق متطلبات الراسمال على صعيد العالم, من حيث شدة انتزاع الاراضي من الفلاحين ودفعهم نحو المدن بقوة قانون "الاصلاح الزراعي" وتوسيع رقعة مدن الصفيح في حومات المدن الكبيرة, ونمو اقتصادي سريع وبالتالي تراكم الراسمال باسرع مايمكن على اثر "العمل الرخيص" ودفع النساء والاطفال نحو العمل الماجور كضرورة لدفع عجلة النظام الراسمالي الجديد, وضرب بيد من حديد معارضي هذه العملية, افرادا واحزاباً.. من هذه الزاوية ان إيران هي تتصدر القائمة في ثورات تلك البلدان, واول بلد قابع "تحت سلطة امبريالية" تم فيها الثورة, عليه تمتاز بهذه الخصوصية اي خصوصية انظلاقة الثورة فيها وما تفرزه من النواقص. لا ننسى ايضا ان الثورة في إيران تمت في مرحلة الحرب الباردة, وهذا بدوره له اثر كبير الى درجة معينة على وصول الاسلاميين الى السلطة في نهاية المطاف, خوفا من "خطر الشيوعية" من جانب امريكا والغرب التي ساعدت هذه الحركة للوصول الى الحكم, رغم ان المتضرر الكبير في هذه الثورة هي أمريكا.

كانت الثورة في إيران وفي ظل ازمة إقتصادية موجه ضد تلك الاختلالات من الفقر والبؤس والبطالة والتمهيش من جانب وضد القمع والاستبداد ونظام "الحزب الواحد" اي عدم تداول السلطة عبر عملية انتخابية برلمانية كما الحال في البلدان الاوروبية في تلك الفترة. من هنا ان جزء كبير من البرجوازية تتمتع بوضع اقتصادي مناسب ولكن ليست لها اي دور في تقرير المسائل السياسية, انها تدفع عجلة الاقتصاد دون ان تكون لها كلمة مسموعة, وهذا ادى الى مشاركتها في الثورة ومعها البرجوازية الصغيرة وخصوصا الفلاحين, الذين لا أرض لهم ولا عمل وباعة التجزئة والموطفين ذو الدرجات الادنى والمتوسطة وفئات اخرى منها في المدن, التي سحقتهم هذه العملية السريعة...الثورة إذن هي ثورة عمومية شارك فيها عموم "الشعب" من العمال والكادحين والبرجوازية الصغيرة بمختلف فئاتها, وحتى جزء من البرجوازية الكبيرة... وهذه هي خصوصية الثورات العمومية وكانت الطبقة العاملة وخصوصا في القطاع النفطي لها دور كبير في إغناء محتوى الثورة وعنفوانها الثوري.

التيار اليساري في إيران وهو تيار واسع شارك بقوة في الثورة ولكن العيب في اليسار نفسه وهو تيار برجوازي قومي حتى النخاع.. من فدائي خلق "فدائي الشعب" بأجنحتها المختلفة الى حزب تودة "الحزب الشيوعي الايراني", يضاف الى ذلك برزت داخل اليسار الايراني تيار يساري جديد ولكن متشعب ومنها تيار او منظمة "اتحاد النضال" التي تحولت في نهاية المطاف الى تيار تبنى الشيوعية العمالية بقيادة منصور حكمت..... منتقد للتيار اليساري السائد ولكن في البنية الطبقية نفسها, اكثر راديكالية منها وينطلق من الماركسية وماركس اي ارثوذكسية دون ان يكون لديه قوة مناسبة على الارض او دون ان تكون رقما في المعادلة السياسية. ان التيار اليساري السائد في التحليل الاخير اما اتفق مع السلطة الجديدة اي الاسلام السياسي مثل حزب تودة, وجزء من انشقاقات "فدائي خلق" او توجهوا الى عمليات عصاباتية في كردستان إيران.... التيار اليساري الوحيد الذي كان له دور يذكر في تلك المرحلة البدائية من الثورة وحتى اخفاقها هو "عصبة الكادحين" اي "كوملة" في كردستان.

اما بخصوص مصر وتونس ثورتان في مرحلة تاريخة مختلفة, مختلفة من مرحلة ثورة اكتوبر وثورة إيران. لا الحرب العالمية بالمعنى الواسع بين البلدان الكبرى موجودة ولا الحرب الباردة. المرحلة بمعنى ان تلك العملية التاريخية التي تمت فيها تحويل تلك البلدان الى البلدان الراسمالية تعفنت واحتضرت... ان الثورة في البلدين بهذا المعنى تأخرت, ليس لان الجماهير والعمال لم يهدفوا الى الثورة وان لم يكونوا مستعدين لها, بل ان القضية هي ان الاوضاع الاجتماعية والسياسية على الصعيد العالمي والمحلي لم تتهئ بعد لقيام الثورة. المرحلة الحالية هي مرحلة عدم وضوح الرؤية بالنسبة للبرجوازية على الصعيدين العالمي والمحلي, مرحلة يتم فيها تقسيم العالم مجدداً بين كبرى البلدان الراسمالية في العالم بين روسيا والصين وبلدان بريكس التي تشمل إضافة اليهما "الهند, وجنوب أفريقا والبرازيل" من جانب وامريكا التي تتم التقسيم على مناطق نفوذها والبلدان المتحالفة معها من الاتحاد الاوروبي الى اليابان وكوريا الجنوبية... هذه المرحلة هي مرحلة عدم وضوح الرؤية للبرحوازية العالمية... هل يركنون الى الحرب العالمية الثالثة, هل هذا هو احد الاحتمالات بالنسبة لهم؟ طبعا ان الحرب هو احد الحلول دائما بالنسبة للبرجوازية العالمية. أو هل يركنون الى المفاوضات وحل مشاكلهم بصورة سلمية؟ وهذا بعيد لا بل أن هذا الطرح غير موجود اساسا. لكن بصورة فعلية ولحد الان لا هذا ولا ذاك بل اتجهوا نحو الحرب بالوكالة في كل المناطق المتأزمة... ازمة الكوريتين, أزمة الصراع الاسرائيلي- الفلسطيني, ازمة سوريا, ازمة ليبيا ومصر والخليج والعراق... والصومال ومالي في افريقيا... حروب بالوكالة... ولكن حتى هذه "الوكالة" اصبحت مباشرة وواضحة.

في ظل هذه الاوضاع العالمية والازمة الاقتصادية العميقة التي تعاني منها البرجوازية العالمية تمت هاتين الثورتين ضد الفقر والبؤس والتهميش والبطالة وقلة الاجور وانعدام الحقوق والحريات السياسية والمدنية والفردية وخصوصا حرية التنظيم والاضراب... وقلة الاجور والتنكيل بالمراة وحقوقها... ومن الناحية الواقعية كانت كل تلك البلدان ذات نظام إستبدادي وقمعي الى درجة لا تطاق ولكن لا ننسى ابدا ان هذا الوجه من الخصوصية لتلك البلدين او تلك البلدان هي خصوصية الرأسمالية التي ترزح تحت "سلطة امبريالية" بمعنى اخر ان القمع والاستبداد ضرورة من الضرورات القصوى لبقاء هذه الانظمة على الحكم ولدفع دوران الراسمال وتراكمه. كانت الثورتان نتيجة لاعمالهما وممارساتهما السياسية والادارية والاقتصادية.. كما شرحنا في معرض طرحنا لثورة إيران. الثورتان عموميتان شاركت فيها الجماهير بصورة عامة وجزء كبير من البرجوازية المعارضة وخصوصا التيار الاسلامي منها الذي برز وراء ثورة إيران وكاحد إفرازات سقوط الثورة فيها.

شاركت الطبقة العاملة في الثورة وقبل الثورتين كان لها حضور مستمر عبر الاضرابات والتظاهرات وثورات "الجياع" المختلفة في المنطقة... ولكن الاطر السياسي والايديولجي السائد في الثورتين هو اطر فكري برجوازي والسائد فيها القومي والاسلامي بدرجات مختلفة... اليسار شارك في الثورتين بصورة واسعة وخصوصا في تونس شاركت الطبقة العاملة عبر "اتحاد الشغل" بصورة مؤثرة وكبيرة ولكن ان اليسار والتنظيمات العمالية هذه في كلتا البلدين... يسار وتنظيمات سائد فيهما الاطر الفكري والسياسي والتقاليد النضالية لليسار القومي ولا تعبر عن اي وجه من وجوه مصالح الطبقة العاملة... وهكذا رأينا مثلا "إتحاد الشغل " في الاونة الاخيرة تحول بسبب التقليد السياسي السائد فيها إلى جزء من عملية بقاء النهضة الاسلامية في الحكم ومثل دور الوسيط بين مختلف اجنحة البرجوازية... ان فقدان الحزب الطليعي العمالي الماركسي الثوري... هو ضعف كبير لهذين الثورتين في مصر وتونس, التي ادى بدروه الى سيادة اوهام الفكر القومي وتقليده على الثورتين باشكال مختلفة, ومن هنا وصلت الامر الى تمجيد وتقديس "الجيش" في مصر مثلا.

أخيراً: بدون حزب عمالي ذو بينة طبقية قوية ومؤثرة, اي لديه أو معه الجزء الطليعي والقيادي من الطبقة العاملة, وذو رؤية سياسية وإستراتيجية واضحة لقيادة الثورة وتحديد موعدها في ظل اوضاع ثورية مناسبة "وهذا ليس بيد الاحزاب", وذو رؤية واضحة لاستلام السلطة وكيفية السيطرة على الثورة المضادة, وبالتالي رؤية واضحة حول تحول الاقتصادي الى اقتصاد إشتراكي "وليس راسمالية الدولة" كما حصل في روسيا, ليس بامكان إنتصار الثورة العمالية, وبراي ليس بامكان مشاركة فعالة في الثورات العمومية وتسخيرها لصالح الطبقة العاملة واكثرية الجماهير الكادحة بدون حزب كهذا.... هذه هي براي لب او عمق الذي نصله عبر تلك التجارب السابقة اعلاه. والكلمة الاخيرة هنا هي ان ثورتي مصر وتونس لحد الان لم تخمدا بعد بصورة نهائية, بل بقيت كجمرة تحت الرماد, لعل في الاشهر القادمة سنرى تحولات جديدة.

الى الامام: سؤال طرحناه من قبل وهو ان قادة الحزب البلشفي قد ردوا على الكثير من المعضلات النظرية امام الطبقة العاملة الروسية، مثلما جاء في كتابات لينين على سبيل المثال لا الحصر "المادية والنقد التجريبي، الامبريالة اعلى مراحل الراسمالية، الدولة والثورة.." هل كما يقول عدد من الكتاب والمحللين القوميين بأن احدى مشكلات او معضلات ثورتي مصر وتونس التي حالت دون تطورهما هي عدم وجود منظرين للثوريتين مقارنة مع ثورة اكتوبر؟ او اذا طرحنا الى السؤال بشكل اخر هل ان اية ثورة لا تنجح بدون منظرين او الرد على المعضلات النظرية التي تقف حائلا امام تطور الثورة؟

سامان كريم: الثورة لا تنتظر المفكرين ولا تنتظر اي حزب او اي قائد. هذا هو قانون التاريخ. نحن هنا نتحدث عن الثورة العمومية التي شاركت فيها الجماهير بصورة واسعة جدا, الاوضاوع الاجتماعية وتوازن القوى والصراع بين مختلف اجنحة البرجوازية من جانب وتوازن القوى بين الطبقة العاملة والقوى الثورية الاخرى من جانب والبرجوازية كطبقة وكصاحبة للحكم من جانب اخر كلها مسائل مادية وموضوعية خارجة عن اطر تفكير المفكر... هذا يجب ان ندركه بدقة.

في الثورات العمومية كالتي حصلت في تونس ومصر, مشكلتنا ليس مع وجود او عدم وجود المفكرين او المنظرين, بل قبل ذلك بكثير عدم وجود منظم لهذه الحركة, منظم لقانون حركة هذه المرحلة. لكل المراحل التاريخية وخصوصا في المراحل الانتقالية والمراحل الثورية هي مرحلة انتقالية, يجب معرفة وادراك حركة قانون تلك المرحلة التاريخية. عليه حتى اذا كان مفكر الثورة موجودة, عليه ان ينظم والتنظيم هنا لا أقصده التنظيم الحزبي فقط ولو هذا هو لبه, ولكن اقصد تنظيم المبادرة بالكامل... بامكاني ان اشرح هذا الامر على النحو التالي: اذا كان مفكرنا وانا اقصد المفكر القيادي على غرار قادة البروليتاريا... مثل لينين وبيبيل وروزا لوكسمبورغ وتروتسكي, وليبنخنت.... عليه ان ينظم حتى قبل ان ينشر افكاره لان المفكرين الثوريين في تلك المراحل الثورية لا يركنون الى التنظير بل الى العمل المباشر, او العمل الشيوعي المباشر.. هذا هو قصدي.

على رغم كل ذلك انا اؤيد ومع تلك الفكرة التأريخية والتي برهنتها التجارب التاريخية وهي "لا حركة ثورية بدون نظرية ثورية"... ولكن اضيف ان النظرية الثورية كانت ومنذ كتابة "مانفيست" ماركس وانجلز موجودة... المشكلة اذن نوعية ترجمة هذه الافكار الى تجسيد عملي واقعي, يتجاوب مع مشكلات المرحلة وفي بلد معني. وهذا التجسيد لا يتم الا عبر منظم وهنا ارجع الى الحزب المنظم الماركسي الثوري على غرار تقاليد ماركس.

اما بخصوص الكتاب والمفكرين القوميين والليبرالين في العالم العربي وفي الغرب... وقعوا في الصدمة جراء تلك الموجات الثورية العظيمة في تونس ومصر, وقعوا في حالة الهيستريا لان هؤلاء ليس في بالهم ولا في فكرهم لا ثورات ولا انتفاضات جماهيرية تطيح بتلك الانظمة المستبدة اللعينة. هؤلاء لا اقول كلهم ولكن اكثريتهم جزء من هذه الانظمة من ناحية الاطر الفكرية وخصوصا من ناحية تقوية التقاليد الاجتماعية القومية "العربية", أنظروا الى اطروحاتهم واستنتاجاتهم, نرى ان اكثريتها سلفية ومتخلفة, عبر الرجوع الى الدين والتراث القومي وحتى بعضهم يرجع الى التراث العربي الخالص وفق تفكيرهم في الجزيرة العربية قبل الاسلام... هذه هي نوعية هؤلاء المفكرين. هؤلاء عبء كبير على مخيلة الملايين من البشر في العالم العربي, عليه يجب انتقادهم ورميهم الى خارج حلبة الصراع الفكري.

الى الامام: واذا صح هذا ما هي اهم المعضلات النظرية امام الطبقة العاملة في مصر وتونس كي تنتصر ثورتها؟

سامان كريم: أقول ان النظرية الثورية موجودة ولكن منظم لهذه النظرية غائب وهذه هي مشكلتنا. انا لا أقرأ التأريخ عبر تأويل وتفسير وتحليل وحتى اطروحات المفكرين سواء كانوا قوميين او ماركسين. أقراءه من خلال النضال الطبقي الدائر في بلد معني وفي مرحلة معينة من التأريخ. في هذه المرحلة اقول وأوكد ان النقص ليس في عدم وجود النظرية الثورية, وهي موجودة, بل في تجسيد تنظيم لهذه النظرية, اي الحزب الطبقي العمالي الذي بامكانه وفقط من خلاله يترجم هذه النظرية الى فعل ثوري.

مع هذا هناك معضلات فكرية ونطرية كبيرة امام الطبقة العاملة, وبالتحديد امام جزئها الطليعي. اهمها سيادة الفكر القومي العربي بجزئيه اليساري واليميني. سيادة الفكر تعني أيضا سيادة التقاليد النضالية والاجتماعية لقومية العربية على هذه الجزء من طبقتنا في العالمي العربي. نرى ذلك في مصر عبر رفرفة الاعلام المصري على النضالات الثورية وعبر تقديس الجيش وعبر تمجيد الفراعنة وهنا "تخلط القومية بالوطنية", وعبر تقديس مصر "ككيان وطني" بغض النظر عن محتوى هذا الكيان وهكذا نرى في تونس نراها عبر "الاتحاد العام للشغل" او عبر حزب العمال الشيوعي... نراهما منظمتان قوميان يساريتان.يجب تقع تلك الافكار والتقاليد تحت رحمة الانتقاد الماركسي, إنتقاد لاسس الفكر القومي العربي, ماهي اسسها؟ يجب نقدها بلا رحمة: اللغة , الارض, التأريخ.... وأظهار بطلان هذه الاسس من حيث الواقع التاريخي, ومن حيث الفكر القومي العربي في العالم العربي التي تشتت الى اكثر من عشرين بلد.. وهذا يكفي لبطلان هذه الاسس, ولكن يكفي لمن يدرك هذا الامر. يجب نقد التقاليد النضالية للطبقة العاملة, التوجه النقابوي, واقصد إبتعاده عن السياسة, التقليد النقابي بمعنى العمل التنظيمي ايضا, تقليد محتوى الشعارات والمطالب واكثريتها نابع من الاطار القومي.... وهذا ليس في مصر وتونس بل نحن ايضا في العراق نعاني منه بشدة عجيبة.... راينا تظاهرات واضرابات عمالية كبيرة خلال السنوات والاشهر السابقة ولكن السائد فيها هو هذه الافكار القومية والوطنية المعجونة معها.

من الطبيعي هناك معضلات كثيرة اخرى ومنها نقد اسس الاسلام السياسي والطائفية السياسية "وهي خطر جديد"... ولكن في البداية يجب التركيز على نقد القومية العربية, لان الجزء الطليعي للطبقة العاملة لحد الان على الاقل لم تتمرض بمرض الاسلام السياسي والتخلف السلفي. ناهيك عن تلك المعضلات التي تشاركها الطبقة العاملة على الصعيد العالمي... نقد الديمقراطية كتيار فكري وسياسي برجوازي وكنظام للحكم ورؤيتها للانسان.... هذه العملية الانتقادية اذا لم تمر بموازاة عملية بناء تنظيم سياسي او بمعنى اخر اذا لم تكن جزء من هذه العملية ليس بامكانها ان تصل الى اهدافها.

الى الامام: الا تعتقدون ان الظروف الاقتصادية والسياسية التي يمر بها العالم الرأسمالي هي نفس الظروف عشية ثورة اكتوبر ومن الممكن ان تتطور الثورة في مصر او تونس او اي بلد اخر الى ثورة اكتوبر؟

سامان كريم: الظروف السياسية والاقتصادية والاجتماعية على الصعيد العالمي في مرحلتنا الراهنة تختلف كثيرا عما هي قبل قرن وعشية ثورة اكتوبر. كانت في تلك المرحلة الراسمالية تحولت او صعدت للتو الى اعلى مراحلها اي الامبريالية, هذا من جانب ومن جانب اخر, كانت اكثرية البلدان في العالم في تلك المرحلة لم تصل الى المرحلة الراسمالية بعد الحرب العالمية الاولى وقبلها بمدة قليلة, نشاهد الثورات الوطنية, نشاهد الثورات ضد الاستعمار للتحرير الوطني , ونرى السيادة في اكثرية البلدان وخصوصا في اسيا وافريقا لصالح الاقطاعية وسيادتها... اي ان الراسمال كنظام سياسي اجتماعي لم يمدد اوصاله مثل الاخطبوط الى كافة ارجاء المعمورة. اليوم بالعكس, نرى ان الرأسمال وعلاقاتها السائدة وصل الى كل مكان ليس الراسمال فقط بل شكل ادارته على الصعيد العالمي اصبحت واحدة تقريبا في كل بلدان العالم, اي انتشر موديل رأسمال السوق، وصلت الراسمالية الى عولمتها بالتمام والكمال.... من الطبيعي خلال التحولات الكبيرة التي حصلت على صعيد السياسي والاجتماعي خلال هذا القرن هنالك مسائل وقضايا كبيرة اخرى مثل التطور التكنلوجي على كافة الاصعدة العلمية, من الاتصالات الى الفضاء والفيزياء والكيمياء وعلوم الطبيعية كافة... هذا ناهيك عن فقدان لمعة ايديولوجيات البرجوازية على رغم سيادتها مثل الديمقراطية التي شاعت ابان الحرب الباردة, والقومية بصورة عامة التي ظهرت بشاعتها وفاشيتها ورجعيتها خلال الثلاثين سنة الماضية وبالتحديد بعد تحولات سقوط جدار برلين وما تلاه من الاحداث. والرأسمالية بصورة عامة كنظام سياسي اجتماعي, برهنت انها احتضرت وتعنفت جراء ممارساتها السياسية من الحروب واستخدام الاسلحة النووية والكيمياوية, والبايولوجية المختلفة في اليابان والعراق وسوريا وفيتنام ومارافق تلك الاعمال الوحشية من التذمر والإستياء لدى المجتمع البشري....

هذه المرحلة تشبه مرحلة السنوات قبل ثورة اكتوبر, بمعنى خاص وهو الصراع الضاري بين القوى الراسمالية الكبرى على تقسيم العالم مجدداً. ان العالم مقسم يراد وعبر هذا الصراع تقسيمه مجددا بين القوى الكبرى وعلى حساب قوة ونفود الامبرطوارية الراسمالية الامريكية, قبل قرن امريكا برزت وظهرت كقوة وبعد فترة وجيزة اي بعد الحرب العالمية الاولى ظهرت كقوة اولى في العالم وحسمت امرها كزعيمة لعالم راسمالي غربي بعد الحرب العالمية الثانية. اما اليوم نحن نمر بمرحلة غروب هذه القوة كقوة اولى في العالم, كل التحليلات والمعطيات الموضوعية على الصعيد العالمي تؤشر الى عالم جديد. نظام عالمي جديد تديره اقطاب عالمية مختلفة.

خلال هذا القرن تعلمت البرجوازية ما معنى الثورة العمالية, وتراكمت خبرتها لإعاقتها, ووضع كافة العوائق امامها. من هنا... وصل الامر الى التمسك بكل التقاليد الرجعية وتوجهت الى أحياء الموتى... من القومية الثقافية الى الاسلام السياسي والطائفية السياسية والتقاليد الرجعية البالية, والفاشية والتمييز على اسس العرق والقوم والجنس. الشمال والجنوب، الغرب والشرق, تقوية المسيحية ومركزها في العالم... لتمزيق وهدم الاتحاد بين ابناء الطبقة العاملة, ناهيك عن القتل والاغتيالات والقوانين الجائرة.... وخصوصا ان الثورة العلمية تساعدها اي البرجوازية على مراقبة كافة مرافق الحياة بما فيها الاتصالات التلفونية والأنترنيتية.... وشبكة واسعة من المفاصل الامنية المختلفة... كل هذه الامور لصالح البرجوازية.

هناك اختلاف اهم بين مرحلتنا الحاضرة ومرحلة عشية ثورة اكتوبر. كانت تلك المرحلة هي مرحلة نضوج الصراع الطبقي بصورة ساطعة وواضحة وعبر احزاب شيوعية وعمالية كبيرة في روسيا والمانيا وفرنسا وبريطانيا وحتى امريكا, اي كان الحضور العمالي كقوة منافسة للبرجوازية ورقم حاضر ومؤثر على الصعيد العالمي ولكن اليوم وفي مرحلتنا لا نرى هذه القوة وتأثير النضال العمالي على المعادلات الدولية, بل بالعكس نرى ان الطبقة العاملة ونضالاتها بعيدة عن النضال السياسي والصراع حول السلطة السياسية, بحيث تموضعت كافة نضالاتها في اطار الاقتصادي. وحتى من هذه الزاوية نضالاتها دفاعية, اي تدافع عن نفسها امام هجمات وضربات متتالية للبرجوازية كالتقشف, ومنع الحريات السياسية والمدنية, ورفع سن التقاعدي.... والمحور الاخر هو تعفن الديمقراطية كمنطومة فكرية وسياسية واقتصادية وكشكل للحكم ومنهج لادارة الدولة في مرحلتنا, ولكن في عشية ثورة اكتوبر كان الديمقراطية تعني قضايا اجتماعية كبيرة من الحريات السياسية والفردية والمدنية وحقوق المراة والتحرير من الاستبداد السافر.. تعني كل هذه المسائل, تعنيها ولكن دون ان تتضمنها... هذا براي اهم اختلاف بين المرحلتين.

اما من حيث تطور الثورة في مصر او تونس او انبثاق ثورة جديدة على غرار ثورة اكتوبر هذه قضية موضوعية. موضوعية بمعنى لا بد من وجود حزب شيوعي عمالي, حزب يمثل طليعة الطبقة العاملة, ولكن حزب سياسي له مكانته ومؤثر على المعادلات السياسية وخصوصا له دور في قيادة نضالات الطبقة العاملة... بوجود حزب كهذا بامكاننا ان نتحدث عن الثورة او تكرار ثورة اكتوبر مع الاخذ بنظر الاعتبار عدم تكرار اخطائها الكثيرة. في مصر وتونس ليس لدينا حزب كهذا اذن ولحد هذه اللحظة ليس بامكاني ان اتحدث عن تطور هذه المرحلة الى ثورة عمالية.

الى الامام: ما هي المسافة بين اندلاع ثورة في العراق وثورة اكتوبر وخاصة هناك تقليد او محاولة لمحاكاة لما حدث في مصر او تونس وبلدان اخرى واعادته في العراق؟

سامان كريم: سؤال افتراضي. اولا انا ليس مع المحاكات واستنساخ التجارب, هذا يوقع الطبقة العاملة والحركات الثورية في خطأ سياسي وعملي خطير. وايضا ليس بامكاننا ان نحاكي التجربة الروسية. ثورة اكتوبر ثورة عمالية لها طابعها الخاصة بها كثورة قامت في بلد معين وفي مرحلة تأريخية معينة.

المسافة بين اندلاع الثورة في العراق وثورة شبيه بأوكتوبر مسافة موضوعية, ليس بامكاننا ان نحدد المدة الزمنية. ان الثورات عادة لا تخلقها الاحزاب. الاحزاب جزء من هذه العملية ربما تعيقها او تقدمها, وفق منهج هذا الحزب او ذاك. ولكن قبل اندلاع الثورة وقبل الثورة عمالية علينا رفع هيبة شيوعية ماركس, رفع الاستعداد السياسي والنظري والتنظمي للجزء الطليعي من الطبقة العاملة, وهذا يعني تحويل الحزب الى الحزب السياسي, الى حزب له اثر على المعادلات السياسية, اي في البداية يجب علينا تحويل الحزب الى قوة عمالية, حينذاك يجب إنتهاز اية تحولات ثورية لصالح الثورة العمالية, وقيادتها نحو سيادة عمالية. هذه هي المسافة وهذه المسافة تتطلب جملة واسعة من الاعمال السياسية والفكرية والتنظيمية. حتى اذا التحولات الثورية موجودة في بلد ما ولكن حزب الطبقة ليس حزبا مؤثرا, براي ليس بامكانها ان تستفيد من هذه المرحلة. 15.10.2013