الفكر الاقتصادي للماركسية التحليلية - سكريبانتي & زاماجني


مجدى عبد الهادى
2013 / 10 / 18 - 04:34     

الماركسية التحليلية

إرنستو سكريبانتي ، ستيفانو زاماجني

ترجمة وتقديم : مجـدي عبد الهـادي

نُشر بكتاب : An Outline of the History of Economic Thought - Ernesto Screpanti and Stefano Zamagni, 2nd Edition, Oxford University Press , 2005 .

-------------------------------------------------------

تقديم :

هذا مُوجز حول الأفكار الإقتصادية لمنظري مدرسة الماركسية التحليلية وتخومها ، وهى كما نرى تحوي بعض الأفكار الجيدة والأصيلة ، كما تحوي بعض الأفكار غير المجدية ، فلنتعامل معها كمنطلق لمزيد من البحث ، وكجزء من عملية طرح التساؤلات وكشف القصورات ، تلك العملية الشاملة التي تفرضها الأزمة الفكرية لليسار عموماً والحركة الإشتراكية الجذرية خصوصاً !!

-------------------------------------------------------


الفكر الاقتصادي للماركسية التحليلية

سكريبانتي & زاماجني



واحد من الأسباب (أو الحجج) الأساسية لميل الأكاديمية الرسمية الدائم لعزل الاقتصاديين الماركسيين يمكن إرجاعه للمستوى المتواضع جداً من الأدوات التحليلية المستخدم في النظرية الاقتصادية الراديكالية . حيث تكون المسائل السياسية الحية في بؤرة الإهتمام أكثر من المشاكل الرياضية المجردة ؛ فالماركسيون كانوا ميالين دائماً لإحتقار البراعة الشكلية ، تلك البراعة التي تسوغ وحتى تتلذذ بممارسة التهميش .

لكن بدأت الأمور تتغير منذ الستينات ، عندما انتشر المنهج السرافاوي [1] ، داعماً تطور اقتصاديين ماركسيين متميزين تحليلياً ولا غبار عليهم من الوجهة الرسمية . ثم حدثت تغيرات أكبر في السبعينات عندما دخل إلى المشهد الأكاديمي جيل جديد من الاقتصاديين الراديكاليين ، ممن حازوا تأهيل منهجي عظيم ، جيل متحرر من التحيزات المُسبقة والدوجمائية ، ولم يتردد في الدخول إلى معقل المبادئ الماركسية الأساسية مُعتمداً على أدوات تحليلية ومفاهيمية مُستمدة من الاقتصاد "البرجوازي" . وكان نتاج ذلك هو "الماركسية التحليلية" أو منهج "ماركسية الإختيار العقلاني" .

وتم إعتماد مُسلمتين أساسيتين من النظرية النيوكلاسيكية ، واحدة منهجية والأخرى موضوعية : المنهاجية الفردانية وعقلانية السلوك الفردي . وتمسكت الماركسية التحليلية بأن هاتين المُسلمتين تخدمان فقط كعرض أكثر وضوحاً لافتراضات موجودة فعلاً في التحليل الماركسي . وكان جون إليستر وجون رومر الممثلين الرئيسيين لهذا التيار الفكري ، بينما كان سامويل بووليز وهيربرت جينتس وجيري كوهين – مع بعض الخلافات البسيطة – قريبين منه فحسب .

وبدأ برنامج البحث الخاص بكوهين في الإثمار عام 1995 بنشر "إمتلاك الذات والحرية والمساواة" ، وهو عمل هام بدأ بنقد نظرية نوزيك [2] في الحرية ثم سلط الضوء على قصورات جدية في النظرية الماركسية . ويجادل فيه بأنه إذا تم قبول مُسلمة إمتلاك الذات ، تلك الفكرة القاضية بأن الأفراد يمتلكون ذواتهم ، فإن النتائج غير التقدمية والمعادية للمساواة للفلسفة الليبرتارية نوزيك يجب قبولها بالتبعية . فإذا لم يكن الأفراد مُعرضين للإستغلال ؛ فإنهم يحب أن يكونوا قادرين على الاستخدام الحر لمواردهم البشرية . بحيث أنهم ما داموا أحراراً لكونهم يمتلكون ذواتهم ؛ فإنهم يجب أن يكونوا قادرين على استخدام رأسمالهم البشري كما يشاؤون ، وإذا كان ذلك سينتج أفراداً أكثر موهبةً وبالتالي أكثر ثراءاً وحرية مما هو موجود ؛ فلا أحد يستطيع الإعتراض . كما يصبح بديهياً إعتبار التوزيع اللامتساوي للسلع مجرد نتيجة للتوزيع اللامتساوي للمواهب . وبذاك المنظور تكون الضرائب التصاعدية وتوفير السلع والخدمات العامة نوعاً من الظلم .

لكن مُسلمة إمتلاك الذات هى مُسلمة غير واقعية أو متناقضة . ذلك أن حرية الفرد يجب أن تُعرّف بمجموعة من الحقوق غير القابلة للتصرف ؛ وهى لذلك لا يمكن أن تقوم على أرضية حق الملكية ، بحكم كونه بالتعريف ، قابل للتصرف . فإذا كانت السلع - التي يعتبر الفرد المالك الطبيعي لها - تتكون من المواهب الشخصية ورأس المال البشري ، فلا يوجد سوي بديلين : إما أن الفرد لا يملك الحق ببيع رصيده من هذه السلع باعتبار ذلك بيعاً لنفسه كعبد ؛ حيث لا يتحقق له في هذه الحالة إمتلاك الذات ، وإما أنه يمتلك هذا الحق ، وفي هذه الحالة يجب قبول التعاقد على العبودية كشرط أساسي للحرية الإنسانية .

وفي الحالة السابقة ، فإن مُسلمة إمتلاك الذات كأساس للحرية غير واقعية ، ومتناقضة في نهاية المطاف .

ثم تحول كوهين لنقد المدخل الماركسي ، مُشيراً لأن مفهوم الإستغلال والإشتراكية يفترض مُسبقاً مُسلمة إمتلاك الذات . فهناك استغلال حقيقي للعامل ، الذي هو مالك قوة وإمكانات عمله الخاصة ، والذي يُصادر منه فائض القيمة الذي يعود له وحده ، والذي هو نتاج لرأسماله البشري الخاص .

من جهة أخرى تقضي القواعد الإشتراكية بأنه يجب الدفع لكل شخص بحسب قدراته الشخصية . فإذا كانت هذه القدرات غير متساوية ؛ فإن الإشتراكية تصبح نظاماً يجعل اللامساوة مبدأً للعدالة . ويقترح كوهين أن يتم تطهير الماركسية من أي إشارة أو استناد لمُسلمة امتلاك الذات ؛ كي يكون ممكناً إيجاد نظرية للعدالة والحرية يتأسس عليها مجتمع شيوعي . ففقط حينما لا يُكافئ الأفراد على أساس امتلاك الذات ؛ يكون ممكناً تصور نظام اجتماعي يؤمن أقصى حرية فردية وأقصى مساواة اجتماعية وفقاً لمبدأ التوزيع : "من كل بقدر طاقته ، ولكل بقدر حاجته" .

وفي عام 1978 نشر كوهين كتاباً يقترح فيه تفسيراً وضعياً محدثاً neo-positivist للمادية التاريخية . وذكر أن التاريخ يتحرك بفعل العمل البشري باتجاه توسيع القدرات الإنتاجية ، ذلك العمل الذي توجهه العقلانية الفردية الطبيعية والرغبة في تحسين ظروف الحياة . وعلاقات الإنتاج الإجتماعية التي تمثل الأطر المؤسسية التي تجري وتُنظم داخها عملية الإنتاج يمكن أن تدفع أو تعوق تطور القوى الإنتاجية . حيث يكتسح التاريخ تلك التي تعوق ذلك التطور ، فيما تسود تلك التي تدعمه وتدفعه . وبناءاً على ذلك ، يمكن القول أن تطور العلاقات الإجتماعية هو مسألة وظيفية بالنسبة لتطور القوى الإنتاجية في الأجل الطويل .

وقد أعطى هذا التفسير الوظيفي دفعة للإنتقادات والنقاشات حول دور النظرية الوظيفية في العلوم الإجتماعية ؛ مُتيحاً للماركسيين التحليليين الفرصة لتوضيح مواقفهم المنهجية .

وقدم إليستر مساهمة حاسمة في ذلك النقاش بالتأكيد في مقالة كتبها عام 1982 على أن ذلك النوع الوظيفي من "التفسيرات" قد ورد بشكل واسع في كلٍ من عمل ماركس وأعمال كثير من الماركسيين . لكن خطأ "التفسير" الوظيفي للظواهر يتلخص في كونه يفسر القضية بوسائل هى من ضمن نتائجها . ويقع الكثير من الماركسيين في هذا النوع من الخطأ عندما يقومون بدراسة كلية للسلوك الجماعي والصراع الطبقي والوعي الطبقي .. إلخ .

وبحسب إليستر ، يجب لتجنب ذلك الخطأ تأسيس دراسة السلوك الجماعي على أرضية من الدراسة الجزئية للسلوك الفردي . فيجب تجنب الإنزلاق إلى التخمينات الكلية ، ويجب دراسة المجتمع إبتداءاً من السلوكيات الفردية ، مع إفتراض أن هؤلاء الأفراد مُقيدون على الأقل بإختيارات عقلانية مُحتملة .

ومع ذلك ، فالمنهجية الفردانية المُقترحة من قبل إليستر ليست من النوع القوي السائد في المنهج الفالراسي الحديث neo-Walrasian [3] . فالناس يتخذون القرارات في بيئة من التفاعل الإجتماعي الكثيف وعدم تجانس الأهداف والإنتشار الواسع للآثار الخارجية externalities[4] والمعلومات غير الكاملة ، كما أن عقلانيتهم ذاتها ليست مُبرأة من العيوب .

ويرى إليستر أن نظرية الألعاب تمثل أداة تحليلية مفيدة في مثل هذا السياق الفلسفي ، خصوصاً في تحليل الصراع الطبقي . وهذا النوع من التحليل قادر في الواقع على حساب الترابطات الفردية المعقدة التي ينشأ عنها السلوك الجماعي وعمل الجماعة ووعي الطبقة ، كذا حساب التفاعلات الإستراتيجية بين طبقات مختلفة ترتبط ببعضها البعض في مواقف من التعاون والصراع .

وفي عام 1985 ، نشر إليستر كتاباً تأمل فيه الفكر الماركسي في ضوء المنهجية الفردانية ونظرية الإختيار العقلاني ؛ وكانت النتيجة أن العديد من نظريات ماركس – كما كان مُتوقعاً – قد عجزت عن إجتياز الإختبار ؛ لتصبح إما خاطئة أو غير ذات صلة بالموضوع . بينما بدت بعض جوانب تحليله للرأسمالية ، وتحديداً نظريات الإغتراب والإستغلال والصراع الطبقي والإيديولوجية ، لاتزال صالحة .

وبالتوازي مع التفسيرات ماركسية المنطق Marxological والنقاشات حول المنهج ، قدم إليستر دراسات أوسع حول نظرية الإختيار العقلاني في بعض أعماله (1979 ، 1983) من خلال رؤية مُنقاة ومُفصلة للعقل البشري وما ينشأ عنه من آثار سلوكية . فالعقلانية غير كاملة لأنها تتعرض باستمرار لضغط مشاعر متغيرة وعواطف قوية . والأفراد واعين لهذا الضعف ؛ ولذا يقبلون في الغالب التقيد بالأعراف الإجتماعية . بل أن بعض القيود السلوكية مفروضة ومقبولة فقط لكونها تسهم في تأكيد التوقعات المُسبقة ؛ تلك التوقعات التي تمكن الأفراد من السلوك وفقاً للنتائج المترتبة على أفعالهم . ولكن رغم أن اللاعبين الإجتماعيين يختارون قيودهم ، إلا أنهم غالباً ما يفعلون ذلك بشكل غير عقلاني . فللعقل البشري حدود جدية وربما يرتكب الأخطاء ، وهذا هو السبب في كون نظرية الإختيار العقلاني غير قابلة للتطبيق . وقد أظهر إليستر براعة فلسفية نادرة في استخدام تلك النظرية لتسليط الضوء على أوجه القصور بها .

وفي عمل آخر من أعمال 1989 ، أُستخدمت نظرية الإختيار العقلاني مع نظرية القواعد الإجتماعية لمعالجة مشكلة التماسك الإجتماعي ، أي تلك الظروف التي تجعل نظاماً من التعاون الإجتماعي أمراً ممكناً . وفكرة إليستر أن بعض أنواع التعاون يتم تحقيقها بعمل اجتماعي يهدف للسيطرة على مشكلة الراكب المجاني [5] وبعضها الآخر يتم تحقيقه من خلال المساومة . والطريقتين مترابطتين بشدة ؛ ولذلك فالعمل الجماعي يمكن أن يفشل إذا لم تكن المساومة مستمرة .

وعلى سبيل المثال ، يقرر الإختيار الإجتماعي أي السلع يجب توفيرها كسلع عامة . فبما أن المواطنين لا يدفعون ضرائباً بما يتناسب مع الفائدة العائدة على كل منهم - على حدة - من السلع العامة ؛ فمن الضروري اللجوء للمساومة لتقرير كيفية تقاسم العبء الضريبي . فالمسألة هنا هى أنه إذا فشلت المساومة نتيجة لعدم توصل المواطنين لإتفاق مشترك ؛ فإن العمل الإجتماعي سوف يفشل ولن يتم إنتاج السلع العامة .

وعلى عكس إليستر ، الذي بدأ بنظرية الإختيار العقلاني لإثبات حدودها وسخافتها ، وإستخدم نظرية الألعاب لإظهار التعارضات بين التوازن العام واليد الخفية والإنسان الإقتصادي ، نقول على عكس كل ذلك ، فإن رومر تبنى بلا تردد كافة النظريات والمعتقدات النيوليبرالية .

فمتأثراً بالعالم الأمريكي ميشيو موريشيما ، كان رومر مفتوناً بشكل خاص بأرفع الفضائل النيوكلاسيكية ، وهى القدرة على التعميم . وبدأ في عام 1977 بتعميم مُبرهنة أوكيشيو [6] حول معدل الربح المتناقص ، موضحاً أنه لا يوجد مثل هذا الميل حتى في وجود رأس المال الثابت . ثم في الثمانينات إستخدم نموذجاً للتوازن الإقتصادي العام لإعادة صياغة "المُبرهنة الماركسية الأساسية" لموريشيما (معدل الربح يكون إيجابي إذا وفقط إذا أُستغل العمال بأجر) وأظهر أن هذا لا ينطبق على التكنولوجيا المُحدبة convex technology [7] عموماً . وأخيراً ، في في عمل طموح في الإقتصاد الرياضي في عام 1982 قام بتعميم ماركس ككل . حيث إفترض أن جميع اللاعبين عقلانيين ، بالمعنى المبتذل لكونهم يسعون لتعظيم منافعهم . ثم حدد خمس طبقات إجتماعية على أساس مواقعهم من علاقات العمل : البروليتاريين (بائعي قوة العمل) ، الرأسماليين (مشتريّ قوة العمل) ، العاملين لحسابهم الخاص ، أشباه الرأسماليين (عاملين لحسابهم الخاص ويوظفون عاملين بأجر) ، وأشباه البروليتاريين (عاملين لحسابهم ممن يعملون أيضاً بأجر) . وبتفسير نظرية ماركس في الإستغلال باعتباره تبادل لا متكافئ للعمل ؛ أعاد تعريف فائض العمل باعتباره إيجار يدفعه مُكتسبوا الأجور للرأسماليين مقابل إستخدام رأسمالهم . وأخيراً أثبت المُبرهنة التالية : الرأسماليون وأشباه الرأسماليون مُستغِلون ، والبروليتاريون وأشباه البروليتاريون مُستغَلون .

ولم يكفه تعميم المُبرهنة على حالة التكنولوجيا المُحدبة ؛ ما دفعه لتعميم التعميم بتمديد التحليل إلى الحالات التي لا يمكن تعريف قيم العمل فيها . وباعتماد المفهوم الجوهري للألعاب التعاونية أظهر أن الإستغلال ليس رأسمالياً فقط ، بل أن هناك الإستغلال الإقطاعي والإشتراكي .

وتسبب كل هذا التشابك بين التعميمات في كثير من الحيرة بين الماركسيين . كما دفع لإنتقاد حاد لمفاهيم رومر عن الإستغلال والطبقة ، خصوصاً وأنها تقوم على علاقات الملكية وتوزيع الثروات وتفضيلات اللاعبين الإجتماعيين والتبادل اللامتكافي ، بدلاً من الإستناد للعلاقات بين الطبقات الإجتماعية ضمن عملية الإنتاج .

وتحول رومر بعد ذلك إلى نظريات العدالة في محاولة لتجاوز المفهوم الضيق للإستغلال . وفي الحقيقة ، فإن النظرية الماركسية في الإستغلال ليست نظرية في العدالة ، إنها تفسر وتعلل الإستغلال ، لكنها لا تهدف لإظهار كونه ظلماً . فقد رفض ماركس عناء الإشتباك مع التبرير أو الشجب الأخلاقي لأي نظام توزيع مُحدد . ولنفس السبب لم يتصور المجتمع الشيوعي كمجتمع عادل . وبدلاً من ذلك ، رآه كنتاج لعملية تاريخية وحركة سياسية تثيرها مصالح إجتماعية مُحددة وواضحة المعالم ، مُفضلاً ذلك على التأمل في أي نموذج مُجرد للعدالة .

وهنا إنفصل رومر عن ماركس بوضعه نموذجه الخاص للمجتمع العادل من وجهة نظر مساواتية .

وفي مجتمع رومر الصالح ، فإن فرصة وجود آلية للتساوي تقوم على الآتي : تساوي المزايا المُتحققة من إلتزامات ومسئوليات فردية متساوية حتى لو وُجدت ظروف غير متساوية أو موارد غير مُكتسبة ، وعلى العكس ، فالتفاوتات الناجمة عن إلتزامات ومسئوليات غير متساوية تجب صيانتها .

وأخيراً ، درس رومر مشكلة إشتراكية السوق والملكية العامة . وبالإشتراك مع جواكيم سيلفستر قدم مساهمة ذات أهمية خاصة في هذا المجال ، بإيضاح أنه في مواقف عدم تماثل المعلومات (التي لا تعرف فيها السلطة العامة دالة التكلفة لمنشأة تعمل في ظل إحتكار طبيعي) ؛ فإن التنظيم العام للإحتكار الخاص ليس بالضرورة أكثر كفاءة من الملكية العامة .

وطور صامويل بوولز وهيربرت جينتس منهجاً يتضمن بعض التشابهات مع منهج الماركسيين التحليليين ، خصوصاً من جهة التعاطف الحذر والإنفصال النقدي تجاه الماركسية ، مدفُوعين بأسطورة التأسيس على أرضية السلوك الجزئي وبجاذبية نظرية الإختيار الفردي ، كما أنهما مالا للإنطلاق من فالراس بدلاً من ماركس . لكنهما بدءا من فالراس للإنفصال عنه . وهما فعلا ذلك برفض فرضية كون العقود يمكن فرضها من الخارج دون تكاليف ، وهى الفرضية التي تتبدى غير عملية على وجه الخصوص في أسواق العمل ورأس المال . وفي الواقع ، فإن فرض شروط العقود يجب على الأقل أن يكون مضمون خارجياً من قبل الأطراق المتعاقدة ، التي تتحمل تكاليف ذلك الفرض . وهذا يعني أن الأسواق ليست واضحة أبداً حتى في ظل وجود المنافسة .

والعلاقات ما بعد التعاقدية يمكن أن تتعرض بانتظام لصراعات إعادة التوزيع ، وهو الموقف الذي عرفه بوولز وجينتس باعتباره تبادل تنافسي . وقد يحدث أن يستحوذ الطرف البائع في السوق short side على قوة خاصة تسمى "قوة الطرف البائع" ، وهى تحديداً التي سوف يستخدمها ذلك الطرف لجعل العقد يتطور طبيعياً باتجاه فرضه بقوة خارجية . وفي أسواق العمل ذات البطالة المستمرة ؛ فالرأسماليين لهم اليد الطولى . فبالتهديد بالفصل من العمل ؛ يبني الرأسماليون القوة الضرورية لإجبار العمال على قبول قواعد العقد .

ومن جهة أخرى ، نجد أنه في الأسواق المالية تجعل أوضاع المخاطرة من ترشيد الطلب أمراً لا مفر منه . ويحدث هذا لأن المقرضين غير قادرين على فرض حقوقهم على المقترضين المتعثرين دون تحمل تكاليف . وفي اقتصاد رأسمالي ، تقيّم البنوك وأسواق رأس المال المنشأت المُدارة من قبل العمال كأقصى مخاطرة ؛ كي تكون موضوعاً لترشيد الطلب على أسهمها وسنداتها بشكل أكبر بكثير من المنشآت الرأسمالية .

وأُستخدمت النظرية لنقد الرأسمالية لبناء نموذج بديل لاقتصاد ديموقراطي . وبالنسبة لبوولز وجينتس ، فبديل الرأسمالية لا هو الإشتراكية ولا الشيوعية ، بل هو الديموقراطية الاقتصادية فيما يخص طريقة إتخاذ القرارات ، وبشكل قابل للتطبيق في كلٍ من الأسواق والمنظمات ؛ بما يمكن لأقصى تطوير ممكن للشخصية الإنسانية وأقصى حرية ممكنة للفعل الفردي .


===================================================================

[1] نسبةً لبييرو سرافا عالم الاقتصاد الإيطالي .

[2] فيلسوف أمريكي من منظري الليبرتارية .

[3] يقصد نموذج التوازن الشامل لعالم الإقتصاد الفرنسي ليون فالراس .

[4] هى آثار إيجابية أو سلبية تنشأ بشكل غير مقصود عن نشاط إنتاجي معين ، وتؤثر في تقيم منافعه وتكاليفه الحقيقية ، دون أن يأخذها السوق بالإعتبار ، بما يجعلها إحدى قصورات السوق كأداة لتخصيص الموارد .

[5] وتعني أؤلئك الذين يشاركون في الفوائد والمزايا والخدمات الإجتماعية والعامة دون أن يشاركوا في التضحية أو الثمن ، منتظرين من آخرين القيام بذلك .

[6] مُبرهنة تعود للإقتصادي اليابانينوبيو أوكيشيو ، وتقول بأنه عندما يتمكن أحد الرأسماليين من زيادة ربحه باستخدم تجهيز فني جديد يخفض به تكاليفه ؛ فإن المعدل العام للربح في المجتمع – أي لكل الرأسماليين – يرتفع بدوره .

[7] هى التكنولوجيا أو التجهيز الفني الذي وفقاً له يتحدب خط سواء الإنتاج تجاه نقطة الأصل ، بحيث يكون هناك تقارب في نسب إستخدام عنصري الإنتاج المُستخدمين في إنتاج سلعة معينة في التوليفات المختلفة المطلوبة لإنتاج نفس الحجم من تلك السلعة ، كذا ثبات أو تقارب تلك النسب بين العنصرين في التوليفات المختلفة المطلوبة لإنتاج أحجام مختلفة منها ، وتتصل بفكرة كون "المتوسطات خير من المتطرفات" .