دياليكتيك الجوهر والظواهر بين المادة والنظر


امال الحسين
2013 / 10 / 13 - 17:39     

نعود لطرح موضوع "المادة" و"الفكر" والتناقض بين الفكر المادي والمثالي في تفسير الظواهر وعلاقتها بالجوهر المتحرك، عبر التناقض بين أطروحات إنجلس المادية ومقولات الفيزيائيين المثالية الحديثة حول الطبيعة وظواهرها، نظرا لما تكتسيه هذه الموضوعة في التناقض بين الفكر البورجوازي المتسم بالمثالية والفكر البروليتاري المادي. وما "المادة" كما طرحها إنجلس وأكدها لينين في أطروحاته الفلسفية المادية ضد التجريبية إلا تعبير عن "الواقع الموصوع" الموجود خارج إرادتنا والذي يعكسه فكرنا حسب قدرته الإدراكية للوجود المادي. هذا الإدراك الذي يختلف حسب منطلقاتنا الفكرية التي تشكل فيها المادية أساس الفكر الماركسي الذي يعتبر "المادة" منبع التفكير والتصورات التي تنحو منحى المنطق كلما اتجهت نحو الطرح المادي للوجود.

في نهاية القرن 19 عاشت الفيزياء أزمة خانقة نتيجة الإكتشافات الجديدة في مجال العلوم الطبيعة المتسمة بصفة الثورة الفيزيائية التي دحضت استنتاجات الفيزياء الميكانيكية، وأصبحت الماركسية محط انتقادات الفيزيائيين الجدد بعد انبهارهم بثورة الراديوم على الميكانيكا محاولين دحض أطروحات إنجلس حول "المادة"، وذلك بمقارنة الإكتشافات الحديثة في الفيزياء مع مضامين كتاب "ضد دوهرينغ" خاصة مقولته "لا حركة بدون مادة" و"الحركة هي شكل وجود المادة"، ساعين إلى الوصول إلى نفي المادة بقولهم ب"زوال المادة" مقابل "بقاء الطاقة"، من أجل "التهكم على روح المادية الدياليكتيكية" كما يقول لينين.(1) وعكس ادعاءات الفيزيائيين المعاصرين فقد أعطت الثورة الحديثة في الفيزياء لاستنتاجات إنجلس العلمية بعدا أدق وأصح لقوله:"عند كل اكتشاف يشكل عهدا حتى في ميدان تاريخ الطبيعة... ينبغي حتما على المادية أن تغيير شكلها".(2)

ومما سبق، يتضح أن على الماركسية أن تغير شكلها وأن نعيد النظر في استنتاجات ماركس وإنجلس ولينين وستالين، لكن بأية صفة يمكن تطبيق مقولة إنجلس حول "تغيير الشكل". ذلك ما أجاب عنه لينين في قوله :"ونحن لا نلوم البتة الماخيين على إعادة النظر هذه. بل نلومهم على أسلوبهم التحريفي الصرف. ومفاده خيانة كنه المادية تحت ستار نقد شكلها".(3)

ومحاولة البورجوازية دحض مقولة إنجلس الجبارة حول المادة ليس من باب تغيير الشكل إنما من أجل تحريفها وهذا ما يجب مقاومته، وقام لينين بهذا العمل بتطبيقه للدياليكتيك الماركسي على المستوى الفلسفي مدافعا عن أطروحة إنجلس القائلة:"... الحركة غير ممكنة بدون المادة".(4)

وأوضح لينين وجود مدارس مختلفة بين الفزيائيين المعاصرين وصلة مدرسة من هذه المدارس بانبعاث المثالية الفلسفية، وبين كنه الخلافات بين المدارس الفلسفية المختلفة التي تكونت بعد الطفرة النوعية في مجال العلوم الطبيعية وخاصة الفيزياء.

لقد أعلن الفيزيائيون عن أزمة العلوم الفيزيائية والتي تجلت في دحض استنتاجات الفيزياء الكلاسيكية، واتجه انتقاد الفلاسفة نحو الفيزياء في انتقادهم للعلوم الطبيعية محاولين ضبط مكامن هذه الأزمة وجوهرها، وقبل ذلك كان الفيزيائيون يؤمنون بالتفسير الميكانيكي للطبيعة ونمت بينهم النزعة الميكانيكية لفهم العالم الموضوعي، ولم يختلفوا إلا في أساليب التفسير الميكانيكي وأصبح لكل عالم ميوله الخاص بعد الإختلاف الحاصل حول جوهر تفسير المادة.

فيما قبل كانت الميكانيكا هي الأسلوب الأوحد الذي يمكن اتباعه للوصول إلى تحديد ميتافيزياء المادة، حتى أضحت نظريات الفيزياء الميكانيكية عبارة عن أنطولوجيا، وهذه النظرة كانت ميكانيكية صرفة إذ يعتقد الوضعيون أنه يمكن الوصول إلى ميتافيزياء المادة باتباع خطوات الفيزياء الميكانيكية، الشيء الذي يعتبر خروجا عن التجربة التي يؤمنون بها وبالتالي ما فوق التجربة، ويرى الفيزيائيون الوضعيون أن أزمة الفيزياء مؤقتة محاولين الإعتماد على روح الفيزياء المعاصرة لفهم العالم لكن بشكل ميتافيزيقي، بإعطاء الأولوية للروح على العقل.

يقول آبل ري :"الحركة الإيمانية و اللاعقلية في السنوات الأخيرة من القرن 19 "تسعى" إلى الإعتماد على الروح العام للفيزياء المعاصرة". (5)

إن الوضعيين يجهلون كنه المادية التي وضعها ماركس وإنجلس والتي اعتمدها لينين في دحضه لنظرياتهم الخاطئة حول المادة، وهم يعتمدون خلاصات هيوم حول المعرفة وعلاقاتها بالإحساسات ويقعون في ورطة المثالية الذاتية، مما جعلهم يعتبرون المادية عقيدة وخارجة عن حدود التجربة بالخلط بين المادية الميكانيكية والمادية الميتافيزيقية، الشيء الذي جعلهم لا يستطيعون بيان الفرق بين الحقيقة المطلقة والحقيقة النسبية التي قال عنها لينين:"يستطيع التفكير البشري بحكم طبيعته أن يعطينا وهو يعطينا الحقيقة المطلقة التي تتكون من مجمل الحقائق النسبية. وكل درجة في تطور العلم تضيف ذرات جديدة إلى مجمل الحقيقة المطلقة هذا، ولكن حدود حقيقة كل موضوعة علمية هي حدود نسبية لأنها تتسع تارة وتضيق طورا من جراء نمو المعرفة اللاحق."(6)

وجوهر أزمة الفيزياء المعاصرة في نظر لينين هو أن الفيزياء الميكانيكية اعتبرت نظرياتها "معرفة فعلية للعالم المادي"، أي أنها"انعكاس للواقع الموضوعي" الذي أكدته نظرية "الشيء في ذاته" عند إنجلس باعتبار أفكارنا صور للمادة في أذهاننا، وأن المادة موجودة دون إرادتنا والأشياء التي نسخرها بفضل المعرفة أي "الشيء من أجلنا" موجودة قبل اكتشافها.(7)

أما الفيزياء المعاصرة فقد حولت نظرة الفيزيائيين إلى العالم الموضوعي وبرز تيار جديد "لا يرى في النظرية سوى رموز وعلامات وإشارات لأجل النشاط العلمي، أي أنه ينكر وجود الواقع الموضوعي، المستقل عن وعينا والذي يعكسه وعينا." (8)

وهكذا يستخلص لينين أن الفيزياء الكلاسيكية قد تبنت نظرية عرفانية مادية بشكل عفوي إلا أن أزمة الفيزياء المعاصرة قد حولت هذه النظرية إلى مثالية لا عرفانية، وهذا الإنقلاب في التفكير لدى الفيزيائيين المعاصرين نتيجة أزمة الفيزياء المعاصرة نتج عن عدم استيعابهم للدياليكتيك الماركسي، وبالتالي سقوطهم في أخطاء علمية فادحة تجلت بالأساس في قولهم ب"المادة زالت" لجهلهم للدياليكتيك الماركسي الذي طوره لينين على مستوى المعرفة.

لقد أحدثت أزمة الفيزياء الجديدة صراعا بين الفيزيائيين المعاصرين بين من يناصر الميكانيكيا والمعارض لها، وقسم آبل ري الإتجاهات المذهبية بين الفيزيائيين إلى ثلاث مدارس أساسية:

ـ المدرسة الطاقية أو المفاهيمية.

ـ المدرسة الميكانيكية أو الميكانيكية الجديدة.

ـ المدرسة الإنتقادية.

ويعترض لينين على هذا التقسيم حيث يرى أن الإتجاه الثالث يعتبر وسطيا ويأتي بين الأول والثاني باعتبارهما خطين أساسيين معارضين في العرفانية بحكم نظرة الوضعيين إلى أزمة الفيزياء، مما يتعارض حقا مع كنه الأزمة التي نتجت عن تحطيم القوانين القديمة والمباديء الأساسية القديمة، وبالتالي "نبد الواقع الموضوعي القائم خارج الوعي"، وذلك باستعاضة الفيزيائيين المعاصرين عن المادية بالمثالية واللاعرفانية. وكان لأزمة الفيزياء الجديدة أثر كبير في الخلط الذي وقع فيه الفيزيائيون المعاصرون بالقول ب "المادة تزول"، إنطلاقا من استنتاجاتهم حول خلاصات الفيزياء الجديدة حول الصلة بين الذرة والكهرباء عبر حركة الإليكترونات، مما أوقعهم في خطإ فادح وهو "الذرة تفقد ماديتها" كما قال ل. هولفيغ في كتابه "تطور العلوم"، والفيزيائي الإيطالي أوغست ريغي الذي قال عن النظرية الإليكترونية "هي نظرية الكهرباء أقل مما هي نظرية المادة، فإن النظام الجديد يحل الكهرباء محل المادة و حسب". هذا الخلط بين المادة والكهرباء ناتج حسب لينين عن عدم فهم "الصلة الفعلية بين المثالية الفلسفية و"المادة تزول". حيث أن "المادة تزول" التي يتحدث عنها الفزيائيون المعاصرون "لا يمت بأي صلة إلى التمييز العرفاني بين المادية والمثالية". (9) إن التناقض بين المادية والمثالية تناقض جوهري ويتجلى في التعارض بين الإتجاهين المعارضين اللذين يحكمان أسس المعرفة بصفة عامة، كما حدد إنجلس ذلك في كتاب "لودفيغ فورباخ": "المادية والمثالية هما الإتجاهان الفلسفيان الأساسيان... إن المسألة الأساسية الكبرى في كل فلسفة ولا سيما في الفلسفة الحديثة... هي مسألة علاقة الفكر بالوجود، علاقة الروح بالطبيعة". ولكون معارفنا في علاقة جدلية باتجاهاتنا الفلسفية فإن مصدر معرفتنا يتحدد حسب هذا الإتجاه أو ذاك، حسب النظرة المادية أو المثالية للأشياء، والقول ب "المادة تزول" يعني حصر عالم الطبيعة في الكهرباء والأثير، واستخلص لينين من ذلك أن القول ب"المادة تزول" يقود إلى القول أن الكهرباء تقوم مقام المادة أي حصر المادة في الكهرباء، وبالتالي تزول "خواص المادة" التي تم اعتبارها فيما قبل مطلقة "الحركة غير ممكنة بدون مادة" كما قال إنجلس، والمادة حسب المادية الفلسفية موجودة خارج وعينا وهي الواقع الموضوعي، العالم الفيزيائي الموجود دون إرادتنا.

إن الثورة في مجال العلوم الطبيعية وخاصة الفيزياء أحدثت أزمة معرفية لدى الفيزيائيين المعاصرين لكونهم يتجاهلون أسس المادية الفلسفية، فالإعتراف الذي حصل لديهم حول "جوهر الأشياء الذي لا يتغير" ليس إلا مادية ميتافيزيقية أي منافية للدياليكتيك حسب لينين الذي يقول:"يجب أن نسأل: أتوجد الأليكترونات والأثير وما إلى ذلك خارج الوعي البشري بوصفها واقعية موضوعية، أم لا ؟ عن هذا السؤال سيتعين على علماء الطبيعيات أن يجيبوا وهم يجيبون دوما بدون تردد: أجل، كما يعترفون بلا تردد بوجود الطبيعة قبل الإنسان وقبل المادة العضوية". (10)

وهذا الإقرار من طرف الفيزيائيين يحل المسألة لصالح المادية لكون المادة لا تعني في المادية الفلسفية غير "الواقع الموضوعي" الذي يوجد "خارج وعينا"، والذي يعتبر من الناحية العرفانية في المادية غير:"الواقعية الموضوعية الموجودة بصورة مستقلة عن الوعي الإنساني والتي يعكسها هذا الوعي". (11) وفي مجال العلم تقر المادية الدياليكتيكية بنسبية كل موضوعة علمية عن "بنيان المادة وخواصها" وعلى "إنعدام الحدود المطلقة في الطبيعة"، وهي كذلك تقر بعدم استقرار المادة في حالة واحدة وهي في تحول دائم في حركة دائمة من حالة إلى حالة منافية معها.(12) ويستنتج لينين من ذلك ما يلي:"مهما كان تحول الأثير العديم الوزن إلى مادة ذات وزن، والعكس بالعكس ، عجيبا من وجهة نظر "العقل السليم"، ومهما كان انعدام أية كتلة عند الإليكترون عدا الكتلة الكهرمغناطيسية "غريبا"، ومهما كان اقتصار القوانين الميكانيكية للحركة على ميدان ظاهرات الطبيعة وحدها، وخضوع هذه القوانين لقوانين أعمق هي قوانين الظاهرات الكهرمغناطيسية، وإلخ..، غير عادي، ـ فإن كل هذا هو مجرد تأكيد آخر على صحة المادية الدياليكتيكية. فإن الفيزياء الجديدة قد انحرفت إلى المثالية، وذلك بصورة رئيسية للسبب التالي على وجه الدقة، وهو أن الفيزيائيين لم يكونوا يعرفون الدياليكتيك".(13)

إن الوضعيين قد قادهم جهلهم هذا بالدياليكتيك الماركسي إلى إنكار "واقعية العالم الفيزيائي" وبالتالي إنكار "الخواص الثابتة للمادة"، وبالتالي انزلقوا إلى إنكار وجود المادة بقولهم "المادة تزول" وهم بإصرارهم على نسبية معارفنا فقد انزلقوا إلى إنكار:"الموضوع المستقل عن المعرفة، والذي تعكسه هذه المعرفة بصورة صادقة تقريبا، بصورة صحيحة نسبيا، وهكذا دواليك، وهلم جرأ إلى ما لا نهاية". (14) وعاش الفزيائيون المعاصرون في التناقض بين قوانين الفيزياء الميكانيكية واستنتاجات الفيزياء الجديدة، مما خلق لديهم أزمة معرفية حول كنه ما هو ثابت في الطبيعة وما هو متحول لكونهم يجهلون الدياليكتيك الماركسي، الذي يقر بثبوت شيء واحد فقط هو:"عكس الوعي البشري (حين يكون الوعي البشري موجودا) للعالم الخارجي الموجود والمتطور بصورة مستقلة عن الوعي البشري".(15)

ولا يوجد في نظر ماركس وإنجلس أي "ثابتية" أخرى، أو أي "كنه" آخر، أو أي "جوهر مطلق" آخر، بالمعنى الذي يتصوره الفيزيائيون المعاصرون. يقول لينين:"فإن "كنه" الأشياء أو "الجوهر" هما أيضا نسبيان، وهما يعربان فقط عن تعميق المعرفة البشرية للمواضيع، ولئن كان هذا التعميق لم يمض أمس إلى أبعد من الذرة، واليوم إلى أبعد من الإليكترون والأثير، فإن المادية الدياليكتيكية تلح على الطابع المؤقت، النسبي التقريبي لجميع هذه المراحل من معرفة الطبيعة من قبل العلم المتطور المتقدم لدى الإنسان". (16)

إن الصراع القائم بين المتشبثين بخلاصات الفيزياء الكلاسيكية وغيرهم من المقتنعين بخلاصات الفيزياء الجديدة، إنما هو صراع بين الميول إلى المادية بشكل عفوي والنزعة المثالية الذاتية الحديثة، وكنه هذا الصراع ناتج عن جهل هؤلاء للمادية الفلسفية التي تقر بوجود المادة خارج وعينا عكس المادية الميتافيزيقية التي تقر بوجود المادة بشكل عفوي، والإقرار من طرف آبل ري بوجود الصنف الثالث من الفيزيائيين بين المدرسة المفاهيمية والمدرسة الميكانيكية الجديد، إنما ينم عن جهله للصراع بين المادية والمثالية كشكلين من الميولات الفلسفية المتعارضة ولا ثالث لهما.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(1) المادية والمذهب النقدي التجريبي، الفصل الخامس: الثورة الحديثة في علم الطبيعيات والمثالية الفلسفية، ص 292.

(2) لودفينغ فيورباخ ، ص 16 من الطبعة الألمانية).

(3) المادية والمذهب النقدي التجريبي، الفصل الخامس: الثورة الحديثة في علم الطبيعيات والمثالية الفلسفية، ص 293.

(4) ضد دوهرينغ ، ص 50.

(5) كتاب: نظرية الفيزياء عند الفيزيائيين المعاصرين، باريس 1907.

(6) نفس المرجع السابق، ص 151ـ152.

(7) نفس المرجع السابق

(8) نفس المرجع ص 298ـ299.

(9) المادية ونقد المذهب التجريبي ـ ص 301.

(10) نفس المرجع ص 304.

(11) نفس المرجع ص 304.

(12) نفس المرجع

(13)نفس المرجع ص 305.

(14) نفس المرجع.

(15) نفس المرجع.

(16) نفس المرجع ص 306.