الجنرال جياب: أسطورة ثورية من الكفاءة العالية والتواضع الجم


داود تلحمي
2013 / 10 / 5 - 19:35     

في الرابع من تشرين الأول/أكتوبر 2013، رحل أحد أبرز عمالقة شعب فييتنام وحروب تحريره، وأحد أبرز وأكفأ القادة العسكريين الثوريين في التاريخ البشري، الجنرال فو نغوين جياب، عن عمر تجاوز المئة عام وعامين.
وربما كان اسم الجنرال جياب بعيداً بعض الشيء عن ذهن وذاكرة الأجيال التي نشأت خلال العقود الثلاثة الأخيرة، لكن اسمه كان في الخمسينيات والستينيات والسبعينيات الماضية من أكثر الأسماء تردداً حين يجري الحديث عن فييتنام وعن ثورات التحرر الوطني وعن العقول الإستراتيجية العسكرية في التاريخ البشري.

هزم المستعمرين الفرنسيين في ديان بيان فو في الخمسينيات

فالجنرال جياب هو الذي خطط وقاد المعركة التي واجه بها ثوار فييتنام، بقيادة الزعيم التاريخي هو تشي مينه، جيش المستعمرين الفرنسيين الذي كان يحاول، بعد الحرب العالمية الثانية، أن يستعيد نفوذه الإستعماري في ما كان تسميه فرنسا "الهند الصينية"، وهي البلدان الثلاثة التي كانت تستعمرها في تلك المنطقة، والتي عرفت لاحقاً باسم فييتنام وكامبوديا ولاوس. وفي المواجهة الكبرى التي جرت بين الجيش الفرنسي وقوات التحرير الفييتنامية، بقيادة الجنرال جياب، في منطقة ديان بيان فو، والتي استمرت منذ أواخر العام 1953 وحتى أوائل أيار/مايو 1954، تمكّن الفييتناميون من محاصرة الفرنسيين والإطباق عليهم وتكبيدهم خسائر كبيرة، كما تمكّنوا من أسر أكثر من 11 ألف عسكري فرنسي أو مجند من أبناء المستعمرات الفرنسية.
وشكّلت هذه المعركة محطة تاريخية بارزة ليس فقط بالنسبة لشعب فييتنام وجيرانه المباشرين، وإنما لكل الشعوب الخاضعة للإستعمار في آسيا وإفريقيا وأميركا اللاتينية. ولم يكن غريباً أن يشهد العام ذاته 1954، ليس فقط إذعان فرنسا وتخليها عن مستعمراتها في "الهند الصينية" والتفاوض مع الثوريين الفييتناميين والإعتراف باستقلالهم، وإنما أيضاَ إنطلاق الثورة الجزائرية في 1/11/1954، بعد أشهر من انتهاء حرب فييتام التحررية الأولى. وخاصة وأن بعض قادة الثورة الجزائرية كانوا من المجندين السابقين قسراً في القوات الإستعمارية الفرنسية في حرب فييتنام، وتعلموا من هذه الحرب أن كل القوى الإستعمارية، مهما كان جبروتها وعنجيتها، قابلة للهزيمة على أيدي الشعوب المصممة على نيل حريتها وحقها في العيش الكريم على أرض وطنها.
وكما انتصرت فييتنام على الإستعمار الفرنسي بعد حرب دامت زهاء الثماني سنوات، انتصر شعب الجزائر على الإستعمار الفرنسي في مهلة زمنية مشابهة ونال استقلاله في العام 1962 وفتح الآفاق لزوال الإستعمار الفرنسي المباشر في عموم القارة الإفريقية.

ولعب دوراً بارزاً في هزيمة نصف مليون عسكري أميركي في السبعينيات

لكن معاناة فييتنام لم تنته في العام 1954 باتفاقية جنيف التي أنهت الوجود الإستعماري الفرنسي هناك. حيث حلت الولايات المتحدة مكانه وحاولت أن تديم تقسيم البلد الى شمال وجنوب، وهو تقسيم كان من المفترض، وفق هذه الإتفاقية، أن ينتهي بعد عامين منها. فاضطر شعب فييتنام أن يخوض، بعد سنوات الحرب الثماني مع فرنسا، حرباً أطول وأقسى وأكثر دموية مع الولايات المتحدة وجيشها الجرار الذي بلغ تعداده هناك في أواخر الستينيات الماضية أكثر من نصف مليون جندي، وهي حرب دامت زهاء الخمسة عشر عاماً وانتهت في ربيع العام 1975 بانتصار باهر لقوات التحرير الفييتنامية وإعادة توحيد البلاد وإعلان تحررها الكامل من المحتلين والمستعمرين.
وكان اسم جياب يتردد في تلك الحرب أيضاً، حين كان قد أصبح وزيراً للدفاع في جمهورية فييتنام الديمقراطية، التي أصبحت بعد تحرير الجنوب وإعادة توحيد البلد جمهورية فييتنام الإشتراكية. ولكن المسؤولين الفييتناميين الذين التقيناهم في أواخر السبعينيات الماضية كانوا يؤكدون أن الشعب الفيينامي أفرز قيادات عسكرية كفوءة عديدة، وأن ميزة حرب التحرير والتجربة الفييتنامية انها، بالفعل، حرب كل الشعب، وليس حرب هذا الزعيم أو ذاك، حتى لو كان الزعيم بحجم مؤسس الثورة الفييتامية هو تشي مينه، الذي توفي في العام 1969 قبل انتصار حرب التحرير الثانية ضد الأميركيين، ولم يؤثر ذلك على زخم العملية التحررية، أو كان بحجم الجنرال جياب، الذي عمّر وعاش عمراً أطول، لكن قيادات أخرى برزت وقادت وتقود فييتنام، ليس فقط في حروب التحرير، وإنما أيضاً في معركة البناء الجارية منذ أكثر من عقدين، والتي جعلت من فييتنام دولة سريعة النمو، تحتل الآن موقعاً مؤثراً بين "النمور" الآسيوية الصاعدة في سماء الإقتصاد العالمي الجديد.
الدرس الأول الذي يتعلمه أي متابع لهذه التجربة الفييتنامية الفذة، التي كان الجنرال جياب أحد أبرز رموزها، هو درس التواضع والعمل الدؤوب في خدمة قضية الشعب، كل الشعب، وليس زمرة من الحكام المستبدين، مهما كانت الشعارات التي يرفعونها للتغطية على استبدادهم. فالجنرال جياب رحل، بعد أكثر من أربعة عقود على رحيل هو تشي مينه وبعد رحيل العديد من القادة البارزين في الثورة الفييتنامية، لكن الأجيال الفييتنامية الجديدة، التي لم يعش معظمها "سنوات الجمر" هذه (ونستعير هنا تعبيراً لمخرج سينمائي جزائري بارز عن حرب التحرير الجزائرية)، تعيش الآن في ظل الحرية التي تحققت بفضل تضحيات وكفاءة الأجيال السابقة وتقوم ببناء البلد المدمر تقريباً بالكامل أثناء حروب التحرير، ليصبح "أجمل ألف مرة مما كان عليه" قبل حروب التحرير، كما كان يردد هو تشي مينه قبل رحيله وهو يرى الدمار الذي تسببه الهجمات الأميركية في جنوب البلاد وشمالها.