المانفستو الرأسمالي والمانفستو الشيوعي (2-2)

محمد فرج
2013 / 10 / 5 - 10:18     

يتميز المانفستو الرأسمالي أنه يتكيف مع شروط الواقع الجديدة لحساب البنود الأساسية لهذا المانفستو: الربح الذي يقف على أكتاف الاستغلال والتغريب والحروب والكوارث والدمار الكوني، الحرية الاقتصادية، والحفاظ على بوابة الفرد لدخول العالم. حاله حال المانفستو الشيوعي الذي يدعو إلى استخدام منطق الجدل في سبيل تحقيق البنود الأساسية فيه كذلك: الملكية الجماعية لوسائل الإنتاج، الحرية وفك الاغتراب والحفاظ على بوابة المجموع لدخول العالم. بين المانفستو الرأسمالي والمانفستو الشيوعي خصام وجدال لاينتهي لا تفك طلاسمه إلا القراءات الجذرية للماركسية كمنهج.

تبدلات في بنود المانفستو الرأسمالي والحفاظ على الجوهر

يصنف دارسو الاقتصاد مراحل تطور الرأسمالية في عمومها إلى أربع مراحل أساسية:
◾المرحلة الأولى الممتدة من عام 1500 إلى عام 1800، وهي المرحلة المركنتيلية أو التجارية، حيث تطور رأس المال التجاري في دورة الاقتصاد، وكانت أشكال الاستغلال تتمثل في العمل الحرفي والصناعات اليدوية، وهذه المرحلة هي التي شكلت الأساس في جلاء الإقطاع كنمط اقتصادي.
◾المرحلة الثانية (1850-1910) وهي بدايات الثورة الصناعية، وخلالها تبلور المعنى الملموس لمفهوم الطبقة العاملة، وعندها فرض رأس المال الصناعي سيطرته على منطق التراكم.
◾المرحلة الثالثة وهي التي تمدد معها رأس المال الصناعي لاكتساح أسواق أخرى، الأمر الذي تطلب خياراً سياسياً يدعم هذه الصيغة الاقتصادية (الاستعمار المباشر، مع الأخذ بعين الاعتبار أن هناك العديد من التجارب التاريخية للاستعمار المباشر سبقت زمنياً هذه الحقبة التاريخية). وعندها بدأت الهوة أو الفجوة التي نصفها دائماً بالمركز والأطراف بالتشكل، ومع هذه المرحلة بدأت سيطرة الأقليات الاحتكارية على مجمل الاقتصاد العالمي. باسم الدول والأمم تمت السيطرة، عندها كان الحديث عن الهيمنة الرأسمالية واضحا ومباشرا يفهمه الإنسان البسيط.
◾المرحلة الرابعة التي تمثلت في الثورة التكنولوجية وانفجار حقبة الاتصالات، تشكل الوكالات والاتصال السريع معها، تطور الكمبرادور إلى حد غير مسبوق، ظهر العالم كأنه “قرية صغيرة” ولكنه مازال مقسماً إلى مراكز وأطراف، اتبعت الرأسمالية أدوات جديدة للهيمنة، أكثر نعومة وأقل مباشرة (المنظمات غير الحكومية)، وتم اختصار القومية والوطنية باللباس والمأكل والسلوك وليس الاقتصاد.

إذاً، حافظت الرأسمالية على البنود الأساسية في المانفستو الخاص بها (الربح لصالح الأوليجاركية)، وتبدلت أطروحاتها السياسية تبعاً للظرف التاريخي مع الحفاظ على جوهر “النص المقدس”، ففي مرحلة رأس المال التجاري، المواجهة الأشد كانت في وجه الإقطاع الذي بدأ يتفتت من الداخل نظراً لتطور أنماط التبادل بالدرجة الأولى، ومواجهة موازية مع الكنيسة. في المرحلة الثانية اصطدمت الثورة الصناعية بالحاجة لتصريف منتجاتها وللمواد الأولية لمضاعفة الإنتاج فكانت حقبة الاستعمار المباشر التي أسست للمراكز والأطراف. جاءت الثورة التكنولوجية لتزيد من صعوبة قراءة المشهد، وتحاول الرأسمالية من خلالها ترويج إدعاءات “القرية الصغيرة”.

المانفستو الرأسمالي بعد الحرب العالمية الثانية

بعد نهاية الحرب قام الاقتصاد العالمي على الأسس الثلاثة التالية:
1.إعمار أوروبا الغربية برعاية الولايات المتحدة من خلال مشروع مارشال
2.إعمار أوروبا الشرقية برعاية الاتحاد السوفياتي
3.مشاريع التحرر والاستقلال للدول المستعمرة، ويتنافس على ضبط إيقاع هذين المشروعين، الولايات المتحدة الأمريكية والاتحاد السوفياتي

لم يكن من السهل بعد نهاية الحرب العالمية الثانية انتهاك سيادة الدول بالشكل الصريح الذي تبنته حقبة الاستعمار المباشر، كان لا بد من ولادة واجهات جديدة، كان لا بد من ولادة المنظمات غير الحكومية، والمؤسسات المالية الكبرى، ومنظمات المعونة، وغيرها. هذا ما اتبعته الامبريالية العالمية خلال تلك الحقبة، فكان خطابها يؤكد دائماً سيادة الدول، ويتحدث عنها كأنداد وشركاء. كان مضطراً كذلك للخوض في حديث الأيديولوجيا، أن يشرح للجمهور كم هي “قاسية” الاشتراكية التي تقيد حريتك وتحرم ذائقتك من الحركة ! كان مضطراً لكل ذلك في سياق الظرف الموضوعي القائم على نهاية الحرب صعود المعسكر الاشتراكي المنافس واشتداد حركات التحرر والاستقلال في المستعمرات “القديمة”.

في ظل كل هذه الظروف اضطرت الرأسمالية العالمية لتبني حلول اشتراكية لتجنب أية ثورات محتملة، وما الضمان الاجتماعي والتأمينات الاجتماعية المختلفة إلا من هذا الباب. لقد لجأت إلى الحفاظ على وجود الدولة في برنامج الرعاية الاجتماعية مع صعود الحركات النقابية والأحزاب اليسارية، مع حفاظها بالتأكيد على جوهر النظام الرأسمالي في الإنتاج والتبادل.

الحقبة التاتشرية-الريغانية وبنود الليبرالية الجديدة

لم تعد المنظومة الرأسمالية مستعدة لتحمل تبعات المشاركة في بناء برنامج الرعاية الاجتماعية، فكانت الانسحابات الأشد وطأة في حقبة ريغان (الذي كان يقف خلفه مستشاره الاقتصادي ميلتون فريدمان)، وتاتشر (التي كان يقف خلفها مستشارها الاقتصادي فريدريك فون هايك، والتي حاولت اللجوء إلى التركيز على قيم العائلة البريطانية وعاداتها وتقاليدها في محاولة لحرف الانتماء للدولة إلى وحدة أصغر وهي العائلة، والتي واجهت واحدة من أهم أحداث الاحتجاج في بريطانيا وهي أحداث ضريبة الرأس “Poll Tax Events”). هذه الحقبة التي شهدت التفاوت والتباعد الهائل في الدخول، وانتهاك سيادة الدول من خلال الترويج لأهمية إلغاء القيود والحماية الجمركية، والتأسيس لعقد الاتفاقيات التجارية الدولية الأهم في تاريخ الرأسمالية، وكل ذلك تحت بند “الحرية الاقتصادية”.

فيما تأسس في حقبة ريغان-تاتشر، وما بعدها التزم المانفستو الرأسمالي بالبنود التالية، ومنها بالتأكيد بنود شهدناها منذ عدة سنوات فقط:
◾إذا كانت الحرب العالمية الثانية أنقذت الرأسمالية وأكدت خيارها في الكينزية للنجاة، فقد أجبرت الأزمة الاقتصادية في أواسط السبعينيات الرأسمالية العالمية للهروب إلى مربع آخر ” خيار الريغانية-التاتشرية”. هذا البند يمثل مرونة المانفستو الرأسمالي في قراءة الوقائع الجديدة لحساب الجوهر.
◾شعارات الانفتاح والتبادل “الحر”، تعطي فرصة لضرب الحركات النقابية التي تستبدل نضالها في مواقعها وواقعها إلى البحث عن فرص عمل في الخارج ضمن شروط العمل للبلد المضيف وشروط الادخار في البلد الأصلي!
◾المحافظة على طمس الذاكرة، ذاكرة الوقائع بالتحديد. فالرأسمالية تحاول عزل الوقائع كي تتجنب الحديث في نقاش الأيديولوجيا الذي أجبرت على الخوض فيه في ظل وجود المعسكر الاشتراكي (فالرئيس الأميركي والبريطاني آنذاك كان مضطراً للحديث عن الفردية في وجه البيروقراطية، وكان مضطراً لمحاولة تجميل دور المستشفيات الخاصة على حساب المستشفيات التي تديرها الدولة ! ليس غريباً لذلك أن مارغريت تاتشر كانت تثني على ميخائيل غورباتشوف وخطواته في البيروسترويكا ! ) .طمس ذاكرة الوقائع تمنح الامبريالية الفرصة لتبرير سقوط تجربة النمور الآسيوية بسبب خلل في السياسة المصرفية للدولة، وانهيار أندونيسيا بسبب الفساد، وغيرها من الدول بسبب سوء الإدارة الحكومية في تأمين الحماية الكافية للاستثمار. : “نقيصة أساسية هي دراسة كل أزمة جديدة كظاهرة معزولة، تظهر لأول مرة في أفق المجتمع، ومن ثم يتعين تفسيرها في هذا الإطار فحسب، ولو طبق علماء الطبيعة المنهج نفسه لبدا ظهور أي مذنب جديد عجوبة ومفاجأة”.
◾الإعلام الطاغي المنفرد، ومحاولات التغييب المادية والمتخيلة ونشر كل صنوف الخدر.

المانفستو الرأسمالي يبدل بنوده التفصيلية ويحافظ على جوهره وهدفه المقدس، فالرأسمالية التي روجت خطاب البرنامج الاجتماعي بعد الحرب العالمية الثانية وإعادة تعمير الدول والحفاظ على سيادة الدولة واتبعت حلولاً اشتراكية داخل بلدانها لتجنب ثورات محتملة، هي ذاتها التي انسحبت من كل ذلك في السبعينيات والثمانينيات، وشنت الحروب دون أي تردد، وخلطت الطبقة العاملة عالمياً كي تشتت الحركات النقابية في ظل تشتت الحركات اليسارية العالمية.. كل ذلك يضع أنصار المانفستو الشيوعي أمام مواجهة كبيرة: من ادعى اجتراح قراءة الواقع والتجديد غرق تلقائياً في بنود المانفستو الرأسمالي وبدأ اتهاماته للمحافظين على الجوهر بالسلفية والتحجر! ومن تمسك بالنصوص دون أن يعرف أنها تمثل بوصلة في الأساس سقط فعلاً في التهمة سابقة الذكر!