تحريف المفهوم الماركسي للتعاييش السلمي


سعاد خيري
2005 / 5 / 24 - 11:02     

كان من الاسباب الرئيسية لانهيار الاتحاد السوفيتي التحريف الكامل للمفهوم الماركسي للتعاييش السلمي في النظرية والممارسة. ان مفهوم التعاييش السلمي الماركسي بين المنظومتين العالميتين جاء انطلاقا من القانون الديالكتيكي الذي يؤكد على وحدة الاضداد وصراعها .. وفي نفس الوقت يؤكد على ان وحدة الاضداد هي مؤقتة ومشروطة ولابد ان يؤدي الصراع في النهاية الى نقض النقيض وانتقال المجتمع من الراسمالية الى الاشتراكية بزوال انقسام العالم الى معسكرين وتكوين العالم الاشتراكي الموحد. فالتعاييش السلمي الذي هو تعبير عن وحدة الاضداد المؤقتة والمشروطة لايمكن ان تدوم لان دوامها يعني الجمود يعني بقاء المنظومتين الى الابد. وهذا مستحيل. اما كونه مشروطا، فان اهم شروطه هو توازن القوى . وتوازن القوى بين نقيضين يستحيل دوامه، في ظل تطور الصراع بين النقيضين وتحوله الى قضية موت او حياة بالنسبة لاحد النقيضين. فكل من النقيضين يستغل فترة التعاييش السلمي او وحدة الاضداد للتفوق على النقيض ومحاولة اضعافه استعدادا للاجهاز عليه مستخدما كل الوسائل الممكنة. ففي حالة فوز الجانب الرجعي يقضى على انقسام المجتمع الى منظومتين دون القضاء على الصراع الطبقي والقوانين الاساسية للراسمالية وتناقضاتها وما تنتجه من هيمنة واستعباد للبشرية ومن منافسة بين اقطابها والتطور غير المتناظر لهم الامر الذي يفرض اعادة اقتسام العالم عن طريق الحروب المحلية والعالمية كما نعيشه اليوم. وفي حال انتصار الاشتراكية يقضي ايضا على انقسام المجتمع الى منظومتين وتسود الاشتراكية ويفتح المجال لعالم جديد خال من الطبقات والصراع الطبقي واستغلال الانسان لاخيه الانسان ومن الحروب ويفسح المجال لوحدة وصراع ضدين من نوع جديد يفضي الى تطور المجتمع البشري الى مرحلة اكثر تطورا .
فمن الناحية النظرية جاء في "الموسوعة الفلسفية " وضع لجنة من العلماء والاكاديميين السوفييت باشراف روزنتال ويودين. ترجمة سمير كرم .عن دار الطليعة في بيروت.: التعاييش السلمي احد مباديء السياسة الخارجية التي نفذها اتحاد الجمهوريات السوفيتية الاشتراكية والبلاد الاشتراكية الاخرى بهدف الحيلولة دون قيام حرب عالمية جديدة.. وهي شكل نوعي من اشكال الصراع الطبقي يتم بالوسائل السلمية ..وان المجال الرئيس للنضال بين الاشتراكية والرأسمالية هو المنافسة الاقتصادية : التقدم السريع للقوى الانتاجية والتنظيم الاجتماعي الامثل يؤدي الى ازدياد قوة الاشتراكية وحركات الطبقة العاملة والحركات الديموقراطية في البلدان الراسمالية ونضال التحرر الوطني. ولا يستطيع الامبرياليون الا ان يحسبوا حساب هذه التغيرات .. وكل هذا يخلق امكانية وضرورة تسوية الصراعات الدولية بالوسائل السلمية"
وهذا يعني ان هؤلاء العلماء لم يحسبوا اي حساب للنقيض، لمحاولات المنظومة الراسمالية لمجابهة كل هذه التطورات سواء في المجال الاقتصادي ولاسيما في مجال تطوير القوى المنتجة فقد اطلقت الراسمالية في فترة التعاييش السلمي تفوقها التكنولوجي والعسكري فضلا عن اطلاقها الصراع الايديولوجي تحت شعار مكافحة الشيوعية ومطورة اجهزة اعلام عالمية جبارة.. وتجاهلهم قيام الحرب العالمية الثانية في فترة التعاييش السلمي ، وكانت تحليلاتهم منافية للنهج الماركسي ووحيدة الجانب.
لقد ادت هذه المفاهيم في الممارسة العملية الى تخدير يقظة البشرية عموما والشعب السوفييتي خصوصا بامكانية استمرار التعاييش السلمي بين النظاميين العالميين رغم عدم قدرة الراسمالية الخروج ولو مؤقتا من الازمة العامة الناجمة عن التطور غير المتناظر لاقطابها الا عن طريق الحرب العالمية الثانية لاعادة اقتسام العالم والقضاء على الدولة الاشتراكية الاولى . وادى هذا المفهوم عن التعاييش السلمي ظهور مفاهيم خاطئة اخرى مثل انتهاء الصراع الطبقي في الداخل الامر الذي ادى الى التغاضي عن نمو البرجوازية البيروقراطية في الحكومة والحزب فضلا عن اقتصاد الظل . وفي الخارج ادى الى الاغراق في المفاوضات وتقديم التنازلات ، والاغراق في التوازن العسكري على حساب الاقتصادي . ولمواجهة تذمر الجماهير جرى تقليص للحريات الديموقراطية ودور الطبقة العاملة في تقرير السياسة العامة . وسهل على البرجوازية البيروقراطية الحاكمة في الدولة والحزب والمتعاونة مع اقطاب الراسمالية العالمية على قيادة ثورة الردة واستعادة علاقات الانتاج الراسمالية سيادتها في البلاد وعلى الصعيد العالمي. فكانت في الحقيقة ردة كبرى في تاريخ البشرية ولكنها مؤقتة يمكن للبشرية ان تحولها الى منطلق للتقدم لانها تجربة تاريخية يجب الاستفادة منها لتجاوز اخطائها والسير قدما في النضال من اجل التحرر من علاقات الانتاج الراسمالية مسترشدين بالماركسية ونهجها المادي الديالكتيكي.
وكان لهذا المفهوم المنحرف للتعاييش السلمي اثره البالغ على الاحزاب الشيوعية المتلقية في البلدان الراسمالية والمتخلفة فتحول معظمها الى احزاب اشتراكية ديموقراطية وتخلى معظمها حتى عن اسمه بعد انهيار الاتحاد السوفيتي، وتحولت قياداتها الى برجوازية بيروقراطية واذا ما احتفظ بعضها باسم الحزب الشيوعي لاستغلال تاريخ الحزب ودوره في تاريخ البلاد وللتغطية على مواقفه التحريفية التي بلغت حد التعايش السلمي مع قوات الاحتلال وتضليل الجماهير بامكانية بناء الديموقراطية واعمار البلاد واستتباب الامن في ظل الاحتلال واستعداد هذه القوات للخروج من البلاد بعد انجاز هذه المهمات!! . فخسرت الجماهير التي تشهد وتعاني اشد المعاناة من دور قوات الاحتلال في بناء قواعدها العسكرية والاجتماعية و تنظيم الارهاب الذي اصبح الاداة الرئيسية في محاربة الحركات الثورية بدلا من شعار مكافحة الشيوعية الذي افتضح زيفه من ناحية ويخل بادعاء مؤدلجيهم بانتهاء الشيوعية وفشل الماركسية واستنتاجاتها لايهام البشرية بنهاية التاريخ وابدية النظام الراسمالي من جهة اخرى . فشركات الامن الخاصة المدربة على تشكيل فرق الموت في امريكا الجنوبية تعمل على تجنيد للارهابيين والمجرمين، وتمنع قوات الاحتلال مقاضاتها عن أي جرم تقترفه بحق الشعب العراقي في حين يدفع شعبنا رواتب عناصرها الباهضة التي قدرت بسبعة مليارات دولار سنويا . وتوجه عن طريق الارهاب سياسة فرق تسد القومية والدينية والطائفية. كما تجري سرقة اموال البلاد الوطنية والدولية المخصصة لاعادة الاعمار بهدف ابقاء الشعب يأن تحت وطأة المشاكل المعيشية والخدمية الملحة ولتوفير امكانية لتجنيدهم في الاعمال الارهابية.
ان الماركسية دعت منذ نشأتها الى السلام ومع ثورة اكتوبر ونشوء الاتحاد السوفيتي دعت للتعاييش السلمي مع الاستعداد الدائم لمواجهة الحرب وحماية المنجزات البشرية من شرورها، باعتبار التعاييش السلمي مؤقت ومشروط والحروب هي اداة الراسمالية لاخضاع البشرية لهيمنتها و للخروج من ازماتها المستفحلة . . وفي عصرنا اصبحت الحرب خطرا يهدد وجود البشرية والكرة الارضية لما تملكه الراسمالية من اسلحة الدمار الشامل ، ولذلك يدعو الماركسيون الى شحذ يقظة كل البشرية تجاه عدم تورع الراسمال العالمي عن القيام بحرب عالمية للخروج من ازمته العامة . وتوعيتها بان خطر الحرب سيبقى مخيما على البشرية طالما بقيت علاقات الانتاج الراسمالية سائدة. ولذلك يجب ربط النضال من اجل السلام والتعاييش السلمي بالنضال من اجل القضاء على علاقات الانتاج الراسمالية. وذلك بنزع جميع اسلحة الراسمالية الاقتصادية والعسكرية والايديولوجية ولم يعد ذلك حلما طوباويا بل في مقدور شغيلة العالم بقدراتهم المتطورة انجاز ذلك فهم المنتجون للملكية الخاصة والعاملون على اعادة انتجها وهم المخترعون وهم المنفذون وبمقدورهم بمساندة كل القوى الخيرة في العالم، فضلا عن تفاقم الازمة العامة للراسمالية ، نزع كل ذلك من الراسماليين وتوجيهه لخدمة البشرية واسعادها.
سعاد خيري
22/5/2005