دور كومونة باريس .. في اعادة كتابة فكر ماركس ..(1)


علي الأسدي
2013 / 9 / 15 - 01:07     


يأتي مقالي هذا بمناسبة الذكرى المائة والثانية والثلاثون لكومونة باريس الخالدة على ضوء مؤلف لينين " الدولة والثورة " الذي قدم هو نفسه لطبعته الأولى. وأدناه الصيغة الأصلية للتقديم :

تنبيه إلى القارئ الكريم للطبعة الأولى

كتبت هذا الكراس في أغسطس وسبتمبر سنة ١٩١٧. وقد وضعت منهاج الفصل التالي، السابع «خبرة ثورتي سنة ١٩٠٥ وسنة ١٩١٧ الروسيتين». ولكن لم يتسن لي أن أكتب من هذا الفصل أي سطر عدا العنوان، فقد «أعاقتني» الأزمة السياسية، عشية ثورة أكتوبر سنة ١٩١٧. و من شأن مثل هذه «العقبة» أن تدخل السرور فعلا الى قلب المرء. ولكني أعتقد أني سأرجئ لزمن طويل الجزء الثاني من هذا الكراس (الذي يتناول «خبرة ثورتي سنة ١٩٠٥ وسنة ١٩١٧ الروسيتين»)، إذ أن تطبيق «خبرة الثورة» أطيب وأجدى من الكتابة عنها.

المؤلف
بتروغراد
٣٠ تشرين الثاني (نوفمبر) سنة ١٩١٧

" الثورة هي بالتأكيد أكثر الأمور سلطوية؛ إنها الفعل الذي يفرض من خلاله قسم من الشعب مشيئته على القسم الآخر بواسطة البنادق و العصي و المدافع أي بوسائل سلطوية. و إذا أراد الطرف المنتصر أن لا يذهب قتاله سدى فعليه أن يحافظ على حكمه بأساليب ترهيبية بأسلحة تردع الرجعيين. أكانت كمونة باريس لتبقى ليوم واحد لو لم يستعمل الشعب المسلح هذه السلطة ضد البرجوازية؟ ألا يجب علينا على العكس أن نلومهم على عدم استعمالها بأكثر حرية؟ "
فريدريك أنجلس

لم يحدث أن تجاهل المؤرخون حدثا تاريخيا باهرا خلال المائة والثانية والثلاثين عاما الماضية مثلما تجاهلوا مآثر ثورة وثوار كومونة باريس عام 1871. محاولة
طمس معالم ثورة كومونة باريس مازالت جارية لحد هذا اليوم ، لا لقلة أهميتها ، بل للخشية من تكرار مثالها ضد النظام الرأسمالي الذي يترنح تحت تأثير أزماته المتلاحقة.

قد تكون ثورة أكتوبر 1917 في روسيا الأطول عمرا الوحيدة التي حضيت بالاهتمام منذ قيامها لحد اليوم ، لكن ذلك الاهتمام لم يكن لكونها أطول عمرا وأعمق تأثيرا في التحولات الاقتصادية والسياسية والاجتماعية التي أحدثتها خلال العقود الثمانية الماضية من تاريخها ، وأنما لأنها اعتمدت على تجربة ثورة كومونة باريس ذاتها.

ويعتبر فلاديمير لينين الى جانب كارل ماركس وفريدريك أنجلس أكثر من كتب عن تجربة ثورة كمونة باريس كمثال للاقتداء بها من قبل الثوريين في جميع بقاع العالم.

لكن التاريخ الذي كتب للثورتين الفشل ، لا يعني أبدا أن مبادئ الثورتين قد تلاشتا الى الأبد ، وأنهما غير صالحتين للحياة ، وان الرأسمالية التي أطاحت بهما تثبت أفضليتها وبأنها النظام الوحيد الجدير بالبقاء.

واذا كان ماركس قد توقع فشل ثورة الكومونة الباريسية ، فلنين لم يضع في حسبانه فشل أو انهيار ثورة أكتوبر، ولو كان قد عاش عدة سنوات أطول فربما كان العالم غير هذا الذي نعيشه. الاختلاف بين ملحمة أكتوبر وملحمة كومونة باريس هو أن الطبقة العاملة الروسية قد تخلت عن الاشتراكية للبرجوازية الطفيلية والبيروقراطية الفاسدة دون مقاومة تذكر ، بينما استبسل الكومونيون ببطولة نادرة في الدفاع عن نظام الكومونة حتى الموت.

التضحيات الجسام التي قدمها جنود ثورة أكتوبر للاشتراكية إبان فترة قيامها وأثناء الدفاع عنها ضد الأعداء الداخليين والأجانب يصعب وصفها ، ولن يفي حقها لو كتب عن مآثرها كل كتاب الأدب والمؤرخون في العالم. لقد كانت وفق كل المعايير مأثرة تاريخية ينحني لها اجلالا واحتراما كل كادحي اليد والفكر في العالم.

لكن هناك حقائق لا يمكن التغاضي عنها لأي سبب ، فالتغيرات العميقة التي تعرضت لها الحركة الفكرية والسياسية في العالم عامة والرأسمالي خاصة كان لها تأثيرها السلبي البالغ على وجود واستمرارية ونجاحات البناء الاشتراكي داخل المنظومة الاشتراكية.

فالأخطاء الكثيرة التي ارتكبتها السلطات البيروقراطية في الاتحاد السوفييتي في العقود الثلاثة الأخيرة من حياة النظام الاشتراكي التي يعود اليها القسط الأكبر من المسئولية عن انهيار تجربة ثورة اكتوبر، ما تزال حية في ذاكرة الجيل الحالي وستتناقلها الأجيال القادمة ، سواء هناك في الوطن الأم للاشتراكية أم في بقية العالم.

تلك الأخطاء التي كانت جسيمة في معظمها تشكل وستشكل عبئا ثقيلا على كاهل الحركات العمالية الثورية في مختلف البلدان، حيث ستواجه مصاعب جمة في كفاحها لكسب التأييد لصالح البرنامج الاشتراكي ، مما سيؤجل الى أمد طويل انتقال العالم الى الاشتراكية. ويبقى مستقبل أي ثورة بروليتارية في المستقبل حلما ورديا دون وجود حزب شيوعي منبثق عنها يقود ويمثل بحق الطبقة العاملة في نضالها من أجل الاشتراكية.

مهمة قيام ثورة بروليتارية في المستقبل سيعتمد على قوة الحزب وثقافة أعضائه ومناصريه ووعيهم الطبقي ، ومدى الاستفادة من التجارب الثورية السابقة في صياغة برامج العمل السياسي والفكري الماركسي.

دراسة تجارب الثورات العمالية بعمق بمافيها الأخطاء التي رافقتها وساعدت على فشلها سيكون مادة لا غنى عنها في التثقيف الداخلي. وفي ظل تشظي الحركة الشيوعية والعمالية الذي نعيشه حاليا فان مهمة مراجعة التجارب التاريخية العمالية والاشتراكية تكون أكثر الحاحا.

وتزداد أهمية الوعي والثقافة الاشتراكية أمام سيادة الاتجاهات الرأسمالية الليبرالية المعادية لحقوق العمال ،والصعود المتسارع للتيارات السياسية المحافظة والحركات الدينية الرجعية المعادية لحقوق المرأة وللتقدم العلمي والاجتماعي والثقافي.

ثورة كومونة باريس المنسية قسرا تعتبر خزينا ثريا خالدا لا ينبغي تناسيه عند دراسة تاريخ الحرة العمالية البروليتارية برغم عمرها القصير الذي لم يزد عن 72 يوما. فقد بدأت في الأول من مارس - آذار 1871 وتم سحقها في 28 مايو - ايار من نفس العام من قبل قوات الجيش الجمهوري بعد معارك دامية في شوارع باريس والمدن الأخرى أنهيت الانتفاضة في بحر من الدماء.

لقد جرى خلال ذلك الهجوم والقوة المفرطة التي رافقته أعتقال الكثير من المشاركين فيها والمتعاطفين معها واطلاق النار عليهم في الحال.الكومونيون الذين صمموا على الدفاع عن جمهوريتهم الفتية واجهوا القوات الحكومية المهاجمة بالمثل فأطلقوا النار على المعتقلين لديهم عملا بالمثل بمافيهم كاردينال باريس برغم تفوق قوة جيش العدو.

الارهاب الذي مورس ضد الكومونيين وأنصارهم كان بعيدا عن التصور ، فالذين فضلوا مقاومة قوات الحرس الجمهوري وعدم مغادرة باريس اعدموا في الحال ، اما أولئك الذين نجوا من الموت بأعجوبة فقد تم نفيهم الى كالدونيا الجديدة. قادة الجيش الذين خالفوا أوامر قياداتهم العليا لرفضهم اطلاق النارعلى الكومونيين قد أقصوا من مناصبهم واعدموا فورا. مجازر استنسخها بفخر انقلابيوا شباط الفاشي عام 1963 ونفذوها في شوارع ومدن العراق.

متطلبات ثورة الكومونة لم تكن قد اكتملت بعد ، بل كانت بعيدة عن الكمال بالاضافة الى الأخطاء التي ارتكبت والتي كتب عنها كارل ماركس وفريدريك أنجلس في السنين اللاحقة سنأتي الى الاشارة اليها في السطور التالية.

كان ماركس يتابع أحداث الثورة أولا بأول ، فهي أول ثورة تحدث في حياته تحمل بعضا من حلمه بانتصار ثورة الطبقة العاملة.

لقد كتب لينين في مؤلفه " الدولة والثورة " عن تحليل ماركس بخصوص خبرة ثورة كومونة باريس تحت عنوان " بم تتلخص البطولة في محاولة الكومونيين" .؟؟

" من المعروف أن ماركس قد حذر العمال الباريسيين قبل ثورة الكومونة بعدة أشهر في خريف سنة ١٨٧٠، مبرهنا أن محاولة إسقاط الحكومة تكون حماقة اليأس. ولكن عندما فرضت على العمال المعركة الفاصلة في مارس سنة ١٨٧١، وعندما قبلها هؤلاء وغدا الإنتفاض أمرا واقعا، حيا ماركس الثورة البروليتارية بمنتهى الحماسة رغم نذير الشؤم."

ماركس وأنجلس لم يكتفيا باسداء المديح لثورة الكومونة الباريسية ، بل تعلما منها دروسا انعكس تأثيرها على أعمالهم الفكرية اللاحقة وعلى صيغة " البيان الشيوعي " الأولى التي صدرت عام 1948. حيث يذكر لينين بهذا الصدد :

" نرى هنا صيغة لفكرة من أروع وأهم الأفكار الماركسية في مسألة الدولة، أي فكرة دولة - ديكتاتورية البروليتاريا - التي غدا ماركس وانجلس يقولان عنها. ثم تعريفا للدولة في منتهى الأهمية. الدولة، أي البروليتاريا المنظمة بوصفها طبقة سائدة. وبناء على هذا لم يتشبث ماركس بشجب دعوة لحركة «جاءت في غير أوانها» على غرار المرتد عن الماركسية الروسي السيئ الشهرة بليخانوف الذي كتب في نوفمبر سنة ١٩٠٥ مشجعا نضال العمال والفلاحين، ثم بعد ديسمبر سنة ١٩٠٥ أخذ يصرخ على نمط الليبراليين- ما كان علينا حمل السلاح."

لقد أعجب ماركس ببطولة الكومونيين الذين «هبوا لمهاجمة السماء» حسب تعبيره ، بل اعتبرها " خطوة عظيمة إلى الأمام تخطوها الثورة البروليتارية العالمية، خطوة عملية هي أهم من مئات البرامج والمحاكمات. فهي وإن كانت لم تبلغ الهدف رأى فيها خبرة تاريخية ذات أهمية كبرى استخلص منها الدروس التكتيكية التي على أساسها أعاد النظر في نظريته."*

وهذا ما دفع ماركس وأنجلس الى اعادة النظر بالصيغة الأولى للبيان الشيوعي التي نشرت في فبراير - شباط عام 1848، فقد اعتبرا كومونة باريس درسا من الدروس الأساسية الرئيسية على درجة من الجسامة بحيث أدخلاه في « في صلب البيان الشيوعي الذي أعيد أصداره عام 1872» باعتباره تعديلا جوهريا.

ففي مقدمة الطبعة الألمانية الجديدة من «البيان الشيوعي» الموقعة من قبل ماركس وأنجلس بتاريخ ٢٤ يونيو سنة ١٨٧٢، كتبا : " ان برنامج «البيان الشيوعي» «قد شاخ اليوم في بعض أماكنه.… »
*- ملاحظة : ان أكثرية الكومونيين كانوا من البلانكيين والبردونيين " أتباع بلانكي وبرودون " وبعد فشل الكومونة أنضم أكثريتهم الى موقف الماركسية المبدئي.
يتبع