الرأسمالية بعكس الطبيعة تكافئ الانانيين واللؤماء


توما حميد
2013 / 9 / 14 - 21:59     

لقد اثيرت ضجة اعلامية في اعقاب نشر دراسة علمية قام بها باحثان امريكيان في بيولوجيا التطور، بجامعة الدولة في ميشيغن في مجلة " نيتشر-كوميونيكيشنس" في 1-8-2013. توصلت الدراسة بان عملية التطور لاتكافئ الكائنات الانانية واللئيمة بل تفضل التعاون والايثار وحب الغير وتوصلت الى تفوق الناس التي تتعاون على المدى الطويل . لقد قابل الاعلام نتيجة هذه الدراسة باستغراب كبير. بنظري الضجة ليست لان الدراسة اتت بنتيجة غريبة او صعبة على الفهم بل لسبب بسيط وهو انها تتعارض مع الايدولوجية الرأسمالية وكل مايشاع ويمارس في ظل هذا النظام. لقد دأبت الطبقة الحاكمة بكل الوسائل على خلق نظرة معينة عن الطبيعة البشرية تتوافق مع طبيعة النظام الرأسمالي وتثبت بان هذا النظام وقوانينيه هي طبيعية ولكن نتائج هذه الدراسة اتت لتدحض تلك النظرة. لقد كانت هذه الدراسة ونتائجها ضربة من الضربات المستمرة التي يوجهها العلم باستمرار الى الايدولوجيات والمنظومات الفكرية الرجعية ويجب ان يوظفها التقدميون في فضح الايدولوجية الراسمالية المتناقضة مع طبيعة الانسان.
في ظل كل نظام اقتصادي اجتماعي سياسي هناك صورة معينة عن الطبيعة البشرية. و نموذج الطبيعة البشرية الذء يتم تبنيه فى المجتمع هي مسالة في غاية الاهمية لاي طبقة حاكمة و لنظامها لانها تبين مدى توافق نظامها مع طبيعة الانسان. والنموذج الذي نامن به يبرر النظام الاقتصادي والاجتماعي والسياسي الذي نفضل وندافع عنه. وكأي مسالة اخرى يحاول مناصرو كل نظام صياغة صورة عن طبيعة الانسان تتوافق مع نظامهم. وفي ظل النظام الرأسمالي بشكل خاص ليس هناك ميدان علمي واجتماعي لم يستثمر بشكل او باخر لاثبات ان النظام الرأسمالي يتطابق بشكل كبير مع طبيعة الانسان. ان الادبيات في هذا المجال من السعة والتشعب بحيث يتعذر التطرق اليها في كل المجالات ولكن ساحاول في وقت لاحق التطرق الى بعض اهم مانشر في هذا المجال. وبعدها سوف احاول ان اتطرق الى النظرة العلمية و الماركسية حول الطبيعة البشرية. من المثير للغرابة بان معظم مانشر قد عبر بدون اي تصدي جدي من قبل الماركسيين واحيانا حتى من العلماء المختصين في مجالاتهم. في اوج انتصار رأسمالية السوق على انظمة رأسمالية الدولة التي عرفت كانظمة شيوعية وقبل اشتداد ازمة النظام الرأسمالي الاقتصادية الحالية بدا جزء كبير مما نشر حول تطابق الرأسمالية من الناحية العلمية مع الطبيعة البشرية وسقوط "الشيوعية" بسبب تناقضها مع الطبيعة البشرية مقنعا ولكن عند التمعن في تلك الادبيات يتيبن انها لاتتعدى دعاية ايدولوجية للنظام الحاكم اكثر من كونها اثباتات علمية.

قبل ان اعود الى بحثي سوف اتطرق الى الدراسة الجديدة التي اثارت هذه الضجة. الباحثان المسؤلان عن الدراسة الجديدة هما كريستوفر ادمي وهو بروفسور في الميكروبيولوجيا وعلوم الجينات الجزيئية و أريند هنتز وهو باحث في الميكروبيولوجي. لقد استخدما تجربة تقليدية تسمى " معضلة السجين"، وهي سيناريو من نظرية المباريات التطورية - لدراسة اتخاذ القرارات الاستراتيجية وهي نظرية معتبرة وفرع من علم الرياضيات الذي يتعامل مع احصائيات صنع القرار وتستخدم في الدراسات البيولوجية والاقتصادية والعلوم السياسية. نظرية المباريات تنطوي على وضع "مباريات" كوبيوترية لمحاكاة حالات صراع أو تعاون مما يسمح للباحثين بكشف استراتيجيات صنع القرار المعقدة والكشف عن اسباب بروز أنواع معينة من السلوك بين الأفراد. لقد تركز البحث في اخر 30 سنة حول فهم عملية تفاعل وتعاون الانواع الحية فيما بينها و اسباب ظهور التعاون الذي نشاهده بين الكائنات الحية من الكائنات وحيدة الخلية الى الانسان.
"معضلة السجين" هو سيناريو افتراضي يعطى لشخصين من المشتبه بهم في جريمة معينة والذين يتم التحقيق معهم في زنزانين منفصلين خيار الوشاية بالاخر او السكوت. اذا ابلغ احدهم عن الاخر فيما لزم المقابل الصمت، المبلغ يطلق سراحه في حين الثاني يقضي ستة اشهر في السجن. اما اذا قام كلا السجينين بالابلاغ " الانشقاق" عن بعضهما البعض فانهم سيقضيا فترة ثلاث اشهر في السجن ولكن اذا لازم كلاهما الصمت " التعاون" فانهما سيقضيا فترة شهر في السجن.
الدراسة الجديدة تبرهن بان الجماعات المتعاونة تميل الى تحقيق نتائج أفضل وتكون أكثر نجاحا على المدى الطويل من تلك الأنانية. ونتائج هذه الدراسة تناقض نتائج دراسات سابقة توجت بظهور نظرية نشرت وشاعت في 2012 تشير الى ارتقاء و تفوق الانواع الحية التي تتصف بالانانية في عملية التطور، اي انها ادعت بانه من الافضل من الناحية التطورية ان تضع نفسك اولا. تلك الدراسة العلمية كشفت عن نوع جديد من استراتيجية التطور والبقاء اطلق عليها خطة العامل المحدد- صفر ZD التي أعطت الاشخاص الأنانين طريقة مضمونة للتغلب على الاشخاص المتعاونين الامر الذي كان من شأنه بالتالي خلق عالم مليئ بالكائنات الانانية. وتقول هذه النظرية بان الانانية تضمن استمرار التطور.
و استنتجت بان الافراد الذين يتبنون استراتيجيات " العامل المحدد-صفر" سوف يغزون تجمعات الافراد الذين هم اما غير انانيين او انهم يتصرفون حسب مبدا" واحدة بواحدة" " سوف احك ظهرك اذا حكيت ظهري". وهذا كان سيؤدي حتما الى تجمعات من الافراد الذين يتصرفون بانانية الامر الذي يتناقض مع مانجده في الكثير من تجمعات الحيوانات التي تظهر بعض التعاون.


كان لآدمي وهنتز شكوكهم حول الفعالية الحقيقية للعامل المحدد-صفر (ZD) وحول ما إذا كان اتباع هذه الاستراتيجية سيقضي اساسا على التعاون ويخلق عالم مليئ من الكائنات الأنانية. لفحص نظريتهم قاما بتوظيف نظما كومبيوترية بقدرات تقنية عالية لتشغيل مئات الآلاف من المباريات ووجدا ان استراتيجيات ZD لا يمكن أبدا أن تكون نتاج عملية التطور واستنتجا في النهاية بان استراتيجية العامل المحدد-صفر هي غير فعالة اذا كان كلا اللاعبين المتقابلين يستخدما هذه الاستراتيجية. فبينما تضمن استراتيجيات ZD منفعة لاصحابهاعندما تستخدم ضد الخصوم من الذين لايطبقون ZD، فإنها لا تعمل بشكل جيد ضد الخصوم الاخرين من الأنانيين الذين يتبنون نفس الاستراتيجية.
وتعتمد استراتيجية العامل المحدد-صفر على معرفة المشاركين قرارات المسبقة لخصومهم. اي ان نظرية العامل المحدد صفر- الانانية في التغلب على الخصوم تعمل فقط اذا عرف " اللاعبون" من هم خصومهم من المتعاونين ويقومون بتكيف استراتيجيتهم وفقا لذلك والتغلب عليهم عن طريق استغلال نقاط الضعف عندهم. لاعب ذو استراتيجية ZD يلعب بطريقة ضد لاعب ZD آخر في حين يلعب بطريقة مختلفة ضد لاعب متعاون.

في تجارب اضافية وجد الباحثان بان حتى عندما يتمكن اللاعبون الانانيون الذين " يستخدمون العامل المحدد-صفر" من القضاء على اللاعبين المتعاونين،سيكون عليهم تبديل طرقهم الانانية من اجل التغلب على الخصوم من نفس النوع. وعليهم في النهاية ان يتطوروا ايضا، والا فان اللاعبين الانانيين سوف يقضون على بعضهم البعض ويتنهون الى الانقراض. اي ان استراتيجيات " العامل المحدد-صفر" هي ليست " مستقرة من الناحية التطورية": اي حتى لو تغلبت استارتيجية العامل المحدد-صفر، وخلق مجتمع من الافراد الانانيين فان سكان هذا المجتمع سيكون غير مستقرين من الناحية التطورية، وعرضة للتطور المعاكس بحيث يصبحون متعاونين اكثر.

يقول الفريق الذي قام بالدراسة ان عملهم يظهر أن استعراض السمات الأنانية فقط كان من شأنه أن يؤدي بنا الى الانقراض. ووجد أن أي تقدم او منفعة من التخلي عن المجموع لم يدم طويلا. و اعلن كريستوفر أدمي المشرف على الدراسة: " لقد وجدنا ان عملية التطور ستعاقبك اذا كنت انانيا ولئيما". واضاف ان "بعضا من الكائنات الانانية يمكن لفترة قصيرة وفي مجابهة مجموعة محددة من الخصوم ان تتفوق. الا ان الانانية ليست قابلة للادامة في عملية التطور."
"ان تكون لئيما يمكن أن يعطيك تفوق على مدى فترة زمنية قصيرة ولكن بالتأكيد ليس في المدى الطويل – سوف تنقرض."
وقال هنتز" إن الطريقة الوحيدة التي يمكن بها لاستراتيجيي ZD البقاء على قيد الحياة تكون إذا كان بامكانهم التعرف على خصومهم،" "وحتى إذا ما استمر استراتيجيو ZD الفوز بحيث لم يبقى غير استراتيجيي ZD ، في المدى البعيد عليهم أن يتطور بعيدا عن استراتيجية ZD ويصبحوا أكثر تعاونا، لذلك فلن يكون هناك استراتيجيو ZD بعدها ." ويضيف ادمي "في اطار عملية التطور، مع وجود عدد كبير من الاستراتيجيات، انت بحاجة إلى معلومات إضافية لتميز بعضهم عن البعض" ( اي التعرف على الخصوم).
واضاف الباحثان في ظل وجود مئات الآلاف من الخطط المختلفة سواء في التعاون أو الانفراد، فإن الأنانيين لا يتمكنون بسهولة من معرفة خطط خصومهم، «ولذا فلن يتمكنوا من التفوق عليهم كلهم والبقاء».
واوضح الدكتور ادمي: في بيئة تطورية، معرفة قرار خصمك لن يكون مفيدا لفترة طويلة لأن خصمك من شأنه أن يطور نفس آليات التعرف لمعرفتك ايضا.
كان عالم الرياضيات البارز، جون ناش قد قال بأن الاستراتيجية المثالية في لعبة معضلة السجين هي عدم التعاون. واضاف، حيث لايوجد طريقة امام السجينين للتشاور وتخطيط مايمكن ان يقولاه، فان افضل استراتيجية هي ان تفكر بنفسك فقط- بما ان التعاون يتوقف على افتراض ان بامكانك تخمين مايقوم به الشخص الاخر.
قال كريستوفر ادمي " لعدة سنوات، سال الناس اذا كان هو(ناش) صحيح، لماذا اذا نجد تعاون في المملكة الحيوانية ، في العالم المجهري وبين البشر"

جواب ادمي هو أن في لعبة " معضلة السجين" لم يؤخذ التواصل الذي هو عامل عالمي واقعي بظر الاعتبار قبل ذلك. لو سمح لهم بالتواصل، النتيجة لكانت مختلفة جدا لان " التشاور هو امر حاسم للتعاون." يقول ادمي، "التشاور هو اساسي من اجل التعاون-نعتقد ان التشاور هو السبب في حدوث التعاون".
يقول ادمي "لا يسمح للسجينين اللذين يتم التحقيق معهم ليتحدثا الى بعضهما البعض، لو سمح لهم بالتواصل لاتفقا واصبحا احرارا في غضون شهر، ولكن إذا لم يتحدثا الى بعضهما البعض، فإن الإغراء هو الوشاية بالاخر من اجل الخروج من السجن".
حسب البروفسور ادمي القدرة على التعاون عن طريق التواصل هو اساسي لاستراتيجية الفوز التي ستجلب نجاح طويل الامد. ويضيف البروفسور ادمي "في ظل عملية التطور هناك قدر كبير من الاستراتيجيات وطرق لل" الفوز"، من الاهمية ان تكون قادرا على التشاور والتعاون حتى تاتي في المقدمة."
يعتقد ان نفس مجموعة من المبادئ تنطبق على كل الكائنات من الكائنات وحيدة الخلية الى الانسان والتي تصبح واضحة في الطريقة التي تتجمع الناس في عوائل وقبائل واوطان. واشار بروفسور ادمي بانهم ينون تجربة عملهم الذي يستند على الكومبيوتر على التعاون بين خلايا الخمائر في تجارب مستقبلية.
البروفسور اندرو كولمن من جامعة ليستر في بريطانيا يقول من جانبه في تعليق على هذه الدراسة هذا العمل " قد كبح تفسير مغالي في الحماس" للاستراتيجية السابقة التي اقترحت بان الاستراتيجيات الانانية سوف تتطور".
" قد تعتقد بان الانتقاء الطبيعي ينبغي ان يفضل الافراد الاستغلاليين والانانيين، ولكن في الحقيقية نحن نعرف الان بعد عقود من البحث بان هذه هي نظرة تبسيطية للامور، خاصة اذا اخذنا بنظر الاعتبار ميزة الجين الاناني للتطور." " ليس الافراد من عليها البقاء، انها الجينات، والجينات تستخدم الكائنات الفردية- الحيوانات والانسان- مجرد كواسطة لتناسلها". " الجينات الانانية" لذلك تستفاد من الكائنات المتعاونة".
يجدر الاشارة بان " الجين الاناني" هو كتاب حول التطور نشره ريجارد دويكنز في عام 1976. استخدم دوكنز "الجين الاناني" كاستعارة لتعبير عن نظرة للتطور تستند على الجين وليس الكائنات الحية او المجاميع وترى بان الجينات تتصرف في عملية التطور وكانها انانية و ترغب في استبدال الجينات الاخرى ولكن نحن نعرف ان الجينات ليس لها وعي او رغبات ولايمكن ان تكون انانية. .
ان قيمة دراسة ادمي وهينتز هي انها تثبت بان تطور التعاون كنتيجة عملية التطور قابل للاستمرار على الاقل عن طريق استعمال نظرية المباريات. الدراسة الاخيرة بعكس الكثير من الدراسات المبارياتية تستعمل نموذج جيني قريب للواقع الى حد كبير فيه الفرق بين الاناني وغير الاناني يستند على خمس جينات( معظم دراسات نظرية المباريات للتعاون لم يستعملوا علم الجينات وهي ضمنيا تفترض بان الاختلافات السلوكية تستند على جين واحد". قد يقال بان نتائج نظرية المباريات قد لاتكون صحيحة عندما تنقل الى العالم الواقعي ولكن نفس هذه النظرية استخدمت لاثبات تفوق الكائنات الانانية.
بالطبع الدراسة لاتبين بان التعاون في الطبيعة تطور بالطريقة التي تفترضها هذه النظرية- لان النظرية لايمكنها القايم بذلك- ولكن نقوم بما يفترض بالبيولوجيا النظرية القيام به: تبيان كل المسارات الممكنة لافتراضات محددة.
.
اعود الى بحثي الاصلي. لماذا تكون هذه الدراسة العلمية التي قام بها الباحثان الامريكيان والنتائج التي توصلت اليها مثيرة للجدل والاستغراب؟ بنظري لانها تتعارض بقوة مع مبادئ الايدولوجية الرأسمالية و كل ما ينظر له في ظل هذا النظام. صفات مثل الانانية والحسد والطمع والمنافسة المنفلتة العقال من اجل المنافع الشخصية هي امور مطلوبة ومتوقعة ومرغوب بها في النظام الرأسمالي لذلك توصف بانها جزء من الطبيعة البشرية.
و الاسوا هو انه تلقى باللائمة بخصوص اخفاقات النظام مثل الحروب والعنف والفساد والعنصرية والتميز الجنسي وتدمير البيئة وغيرها ايضا على الطبيعة البشرية. هناك اطنان من الكتابات التي تقول ان سبب الازمة الاقتصادية الاخيرة التي لاتزال تضرب النظام الرأسمالي كانت نتيجة تصرفات افراد مدفوعة من قبل الصفات والطبائع الانسانية السيئة كمحاولة بائسة للتغطية على حيقيقة ان علاقات الانتاج في هذا النظام هي التي تضع الافراد في مواقع وعلاقات معينة وتفرض على الفرد سواءا كان راسماليا او مدير بنك اوعضو هيئة ادارة شركة متعددة الجنسيات التصرف بالشكل الذي يؤدي الى بروز بعض من السلوكيات التي تساهم في خلق الازمة. ان كل هؤلاء يقومون بما مطلوب منهم القيام به، اي تعظيم الارباح.
الدراسة الجديدة تضرب هذا النموذج السائد حول الطبيعة البشرية الذي هو في الحقيقية النموذج الرأسمالي للطبيعة البشرية والنظرة البرجوازية لها.
لست هنا بصدد التطرق الى كل منظري الرأسمالية وماقالوه في هذا الصدد ولكن سوف اركز على ادم سميث الذي هو احد اكثر المفكرين البرجوازين نفوذا في الميدان الاقتصادي الذي اقترن اسمه الى جانب ديفيد ريكاردو بالنظرية الكلاسيكية و يحتفى به كعراب علم الاقتصاد الحديث اي اقتصاد السوق الحر وهو من كشف ونظر وروج لمبادئ ومفاهيم الايدولوجية البرجوازية وقوانين الرأسمالية التي لاتزال تحكم ويحتدى بها في اقتصاد السوق والمعادية في وقتها لايدولوجية ماسمى بالاقتصاد الطبيعي اي الاقطاعي الذي كانت البرجوازية قد ثارت على علاقاته الانتاجية. و لست هنا ايضا بصدد التطرق الى كل المبادي والمفاهيم والقوانين التي ناصرها ادم سميث ولكنني اتحدث عما يخص طبيعة الانسان والتي تشكل اساس كل تلك المبادئ والمفاهيم والقوانين التي ينًظر لها ادم سميث.
ان علم الاقتصاد الذي وضع اسسه ادم سميث يستند على مبادئ اساسية وهي الانانية الفردية والجشع هي دافع الانسان ، وتعقب الفرد لمصالحه الشخصية هي مفيدة للصالح العام و لدى الانسان ميل للمقايضة، وتبادل شيء بشيئ اخر. ويعتمد علم الاقتصاد هذا بشكل كبير على صورة معينة للطبيعة البشرية. لقد دون ادم سميث نظرته للطبيعة البشرية في كتابيه، نظرية العواطف الاخلاقية وثروة الامم. يعتقد ادم سميث بان الناس مدفوعون بشكل اساسي من قبل المصلحة الشخصية . وان محرك الاقتصاد هو المصلحة الشخصية وتعقب الفرد لهذه المصلحة وان المنافسة بشكل عقلاني تؤدي الى الازدهار الاقتصادي للمجتمع.
يقول ادم سميث في كتابه الشهير، ثروة الامم : ( لا نتوقع الحصول على طعامنا بدافع حب الخير لدى القصاب، او صانع الجعة أو الخباز، وإنما نحصل عليه من خلال مراعاتهم لمصلحتهم الشخصية. فنحن لا نتوجه في هذا إلى إنسانيتهم، بل إلى حبهم لذاتهم، ولا نتكلم معهم أبدًا عن ضروراتنا، بل عن منفعتهم). هذه المقولة لاتزال هي اساس علم اقتصاد السوق.
وتحدث آدم سميث عن نظرية " اليد الخفية" بشكل خاص في كتابه الرابع من سلسلة "ثروة الأمم" ، والتي تقول نتيجة حرص الفرد على مصلحته الخاصة وتعقبها، يضطر جميع الافراد الى التبادل ضمن عملية السوق الامر الذي يعمل كمحرك خفي لبناء وازداهر المجتمعات وتبادل الافراد المنفعة والتعاون المستتر بينهم والارتقاع بمصلحة المجتمع ككل.
اذ يقول سميث : "كل فرد بتوجيه صناعته نحو إنتاج اكبر قيمة ممكنة، لا يسعى إلا في سبيل ربحه الخاص لا غير، وهو على هذه الصورة مسيرا بيدٍ خفية، يحقق غاية لا يدركها وعية... وهو بملاحقته لمصلحته الخاصة يقدم النفع لمصلحة المجتمع بفعالية أكبر" .
آدم سميث – (1723-1790)
ان تعبير " اليد الخفية" تظهر قناعة سميث بان تعقب الافراد لمصلحتهم الشخصية والمنافسة من اجلها في سوق حر، سيخدم بشكل غير مباشر مصلحة المجتمع ككل عن طريق الابقاء على الاسعار منخفضة مع الابقاء في نفس الوقت على الحافز لانتاج انواع مختلفة من البضائع والخدمات. ويعتقد ادم سميث بانه اذا سمح لكل منتج من ان ينتج السلعة التي يختارها وبالطريقة التي يشاء واعطيه كل مستهلك حرية اختيار السلعة التي يرغب بشرائها ، هذا سيؤدي الى انتاج سلع بنوعية جيدة وباسعار مناسبة ومفيدة لكل افراد المجتمع وبالتالي للمجتمع ككل. فمن خلال تعقب المنتج لمصالحه الشخصية وبدافع الجشع سيقوم بتحسين فعالية وكفاءة الإنتاج لزيادة الربحية والى انتاج افضل البضائع. وخفض الأسعار سيكون دافع للقضاء على المنافسة من الاخرين. وستوجه الاستثمارات الى الصناعات المطلوبة من أجل الربح. وكذلك، سييدفع هذا العامل الطلاب على دراسة التخصصات المطلوبة أي التي ستجلب لهم مداخيل أعلى والتي ستخدم المجتمع بشكل افضل. وكل هذه الامور ستحصل بشكل عفوي وطبيعي بدون تدخل من اي جهة. هنا سيكون الجشع عامل دفع لتصرف ينفع الفرد والمجتمع.
كما يقول ادم بأن الفرد في اي مجتمع سوف يلجأ الى الاستثمار في تجارة خارجية فقط إذا كان الربح من جراءها يفوق الربح من التجارة المحلية. وفي هذه الحالة, فان مثل هذا الاستثمار سيكون في مصلحة مجتمعه.
كما يعتقد ادم سميث بان هذا العامل سوف يخلق نوع من التوازن والتكافئ في النمو. المستثمرون سوف يستثمرون في المجتمعات الفقيرة بسبب انخفاض التكلفة حيث يكون الافراد مستعدين للعمل باجور منخفضة. مما سيزيد الطلب على اليد العاملة ويرفع اجور العمال وهذا يؤدي الى خلق طلب على البضائع والخدمات وبالتالي ينتج مجتمع استهلاكي جديد يحتاج الى زيادة في الإنتاج مما سيؤدي الى ازدهار الاقتصاد والمجتمع. وستستمر هذه الحالة الى ان يحدث توازن حيث تصبح كلفة الإنتاج في هذه المنطقة او الدولة التي كانت فقيرة عالية ومساوية للمناطق الاخرى اي يتعادل الربح ولكن عندها سيكون الاقتصاد المحلي قادرا على الوقوف على قدميه والاعتماد الذاتي.
ويروج ادم سميث في كتابه الشهير "ثروة الامم" لفرضية بان " الشيئ المشترك بين جميع البشر" هو " الميل الى مقايضة، وتبادل شيئ بشيئ اخر." وينظر الكثير من مناصري الرأسمالية الى فرضية وجود هذا الميل لدى الانسان بالاضافة الى فرضية " الفردانية الاقتنائية" التي ينظر لها كصفة انسانية فطرية عالمية كاساس لتفوق راسمالية السوق الحر باعتبار ان هذا النمط الاقتصادي هو اكثير تطابقا من تلك الميول المفترضة.
كما قلنا ان هذه المفاهيم الاقتصادية –الايدولوجية لاتزال هي اساس اقتصاد السوق وقد اصبحت مبادئ بديهية في المجتمع. وتحاول البرجوازية بمنظريها وماجوريها بكل قوة تصويرها بانها مسائل فطرية عالمية وثابتة وبوصفها حقائق وجعلها جزء من تركيب المجتمع بحيث تتحكم بعمله ليس في الميدان الاقتصادي والسياسي فحسب بل في الميدان الاجتماعي ايضا.
وقد تمكنت الليبرالية الجديدة من ترسيخ تلك المبادئ في المجتمع الى حد كبير وخاصة في المجتمع الامريكي. بحيث اصبح بالنسبة للشخصية البرجوازية اي سلوك لايؤدي الى خدمة المصالح الشخصية ينظر اليه باعتباره سلوك غير عقلاني ، غريب وطوباوي.

قبل مناقشة فرضيات ادم سميث حول طبيعة الانسان وتطور المجتمع والاقتصاد يجب الاشارة ان مشكلة ادم سميث ونموذجه الرأسمالي للطبيعة البشرية هي انه ينظر الى هذه الطبيعة كانها ستاتيك وهي مسالة فندها العلم بشكل كامل.
لااحد ينكر بان هناك انانية وجشع وحب التملك في المجتمع ولكن كم هذه الصفات هي صفات فطرية او صفات مكتسبة؟ في الاوساط العلمية هناك عادة حديث عندما يتعلق الامر باي صفة او سلوك انساني عن 50/50 او 70/30 اي 70 % مكتسبة من البيئة و30% فطرية. ان اي صفة وحتى وان كان هناك اساس جيني لها فان بروزها ودرجة التي تعبر عن نفسها يتاثر الى حد كبير بالعوامل البيئية. والاهم من ذلك انه بعكس ادعاءات البرجوازية و"علمائها" الماجورين فان العلم الحديث يشير الى ان دماغ الانسان مرن الى درجة كبيرة وله قدرة على التغير والتعلم تفوق كثيرا ما كان يعتقد في السابق. ومع بروز علم الايبيجينتكس يتبين بان حتى في حال وجود اساس جيني لصفة معينة فان بالامكان اطفاء الجين وايقاف فعاليته من خلال عوامل بيئية مختلفة.
من ناحية اخرى يجب ان لاننسى بان حتى عصر ليس ببعيد كان يروج بان مسالة العبودية وسيادة عرق على اخر نابعة من طبيعة الانسان وجيناته. ونجد ان طبيعة الانسان الفردية والمجتمع يتطور نحو الرقي. فهناك الاف الامثلة على هذه الحيقيقة، لذا فان اي تصور ستاتيكي لطبيعة الانسان هو تصور خاطئ ومفنود.
كما ان معظم تاريخ البشرية لحد قبل 10 الاف سنة هو تاريخ العيش بشكل مشاعي ومتحرر من الملكية الشخصية حيث ان فائض الانتاج الذي حصل عليه افراد المجتمع كان يوزع بشكل عادل على الشرائح الضعيفة مثل الاطفال والعجزة والمرضى. كما ان علم الانتثروبولوجيا يكشف عن تنوع هائل في المجتمعات والثقافات الانسانية عبر مختلف المراحل ومختلف انحاء العالم حتى بعد ظهور الملكية الفردية و يبين بعض القواسم والانماط الاساسية المشتركة التي لاتؤيد فرضية وادعاء ادم سمث بان نوع الشخصية البرجوازية المعاصرة وخصائصها هي شخصية انسانية عالمية وثابتة
للموضوع تكملة