حول الديمقراطية الليبرالية والصراع الطبقي والمجتمع المدني والثورة الاشتراكية


غازي الصوراني
2013 / 8 / 26 - 20:34     


الديمقراطية الليبرالية البرجوازية (أو ديمقراطية المجتمع المدني الرأسمالي) تتسم بالطابع الشكلي والأحادي ، الذي يقتصر ويتوقف عند الجانب السياسي وتعدديته المحكومة بسقف النظام الرأسمالي وقوانينه. وهي حالة تطورية من الانعتاق السياسي الذي حققته الثورة البرجوازية في عصر النهضة ، لم يغفلها ماركس بل نظر اليها "كنقطة انعطاف مذهلة في التطور التاريخي "، وتقدما عظيما في إطار النظام الاجتماعي القائم ،وهو منعطف لابد لنا – في اطار اليسار العربي-، من أن نعمل على مراكمة عوامله الموضوعية والذاتية بما سيضمن – بوسائل ديموقراطية- تجاوز الرؤى الاحادية للقوى الليبرالية الرثةو لحركات الاسلام السياسي المستندة على المفاهيم الأصولية القديمة، لحساب مفاهيم النهضة والتنوير والحداثة، صوب آفاق مجتمع مدني ديمقراطي، يزيح أشكال الاستبداد والسيطرة والاستغلال ، دون أن يعني ذلك اغفالنا لعملية الصراع الطبقي والنضال ضد الاستغلال الرأسمالي وكل مظاهر التبعية والتخلف بصورة ديمقراطية ، ذلك إن انعدام المساواة، ظاهرة موضوعية ، وسمة أساسية من سمات المجتمع المدني الليبرالي البرجوازي ، فهو -في جوهره- مجتمع الصراع الطبقي والصراع السياسي في آن معا.
وهذا ما تنبه إليه الفيلسوف والمناضل الأممي "أنطونيو غرامشي" (1891-1937)الذي عالج موضوعات البنية الفوقية بوصفها تعبيرا عن إرادة جماعية وطبقية ، فالسيادة الطبقية التي تمارسها الطبقات الحاكمة في الغرب الرأسمالي لا تقوم على قمع الأجساد فقط ، بل على أسر العقول أيضا، من خلال إشاعة أنماط معينة من الثقافة والقيم ، وعلى هذا الأساس ، يمكن فهم اهتمام "جرامشي" بقضايا الثقافة والمثقفين ودور الحزب (الذي يطلق عليه صفة المثقف الجمعي) ، حيث يقول ، أن هدف العمل السياسي هو إخراج الجماهير من حالة الركود والاستنقاع التي تعيشها ، ولن يكون ذلك ممكنا ما لم يتم رفع هذه الكتلة الجماهيرية الى مستوى البنية الفوقية كميدان للفعل الجماعي والإدارة الخلاقة ، والطريق الى ذلك هو تفعيل البعد المعرفي-الثقافي داخل الحزب، بهدف إيجاد وبلورة العلاقة العضوية بين شعارات الحزب السياسية وأيديولوجيته الماركسية من ناحية، وبين قواعد وكوادر الحزب وجماهيره من ناحية ثانية، لتكوين مثقفين عضويين ، للوصول الى الوحدة بين القوى المادية والأيديولوجيا الكفيلة وحدها لخلق ما يسميه "جرامشي" بـ"الكتلة التاريخية" ، وهنا تكمن الأهمية القصوى لعملية التثقيف وأدواتها "للانتقال بوعي العمال (والكادحين) من حالة الوعي بالبنية التحتية (الوعي الاقتصادي العفوي) الى حالة وعي البنية الفوقية (الوعي السياسي والمعرفي والأخلاقي . وبالتالي فإن قوى اليسار، تتحمل المسئولية الأولى في وعي مقولات هذا المفهوم، المرتبطة بالديمقراطية وحرية الرأي والحريات العامة، في إطار الصراع التناحري مع العدو الصهيوني الامبريالي من ناحية، وفي إطار الصراع الطبقي والسياسي الديمقراطي الداخلي من ناحية ثانية، إذ أن عملية النضال التحرري والديمقراطي هي في حد ذاتها في مواجهة الاحتلال والقوى الإمبريالي وأتباعها، تجسيد حقيقي لمفهوم المجتمع المدني في إطار الصراع الطبقي والثورة الوطنية الديمقراطية بآفاقها الاشتراكية.

وفي هذا السياق نستذكر بعضا من ابداعات المفكر الماركسي الشهيد مهدي عامل... حول مفهومه لحركة التحرر الوطني ..يقول " ان حركة التحرر الوطني بما هي حركة عداء للامبريالية هي بالضرورة حركة عداء للرأسمالية، وتتحدد كجزء من الثورة الاشتراكية... اذن، يمكن القول ان العداء للامبريالية لا يكون بالفعل متسقاً الا بما هو عداء للرأسمالية، ومن حيث هو هذا العداء بالذات. ففي حقل علاقتها العضوية بأزمة الامبريالية، من حيث هي، بالدرجة الاولى، ازمة نمط الانتاج الرأسمالي نفسه، تتحدد حركة التحرر الوطني في ذلك الشكل التاريخي الذي يجعل منها جزءاً من العملية الثورية العالمية..... فلا سبيل الى تحرر وطني فعلي من الامبريالية الا بقطع لعلاقة التبعية البنيوية بها هو بالضرورة تحويل لعلاقات الانتاج الرأسمالية القائمة في ارتباطها التبعي بنظام الانتاج الرأسمالي العالمي. بهذا المعنى وجب القول ان سيرورة التحرر الوطني في المجتمعات الكولونيالية، هي هي سيرورة الانتقال الثوري الى الاشتراكية، ... هذا هو، بكل دقة، معنى ان تكون حركة التحرر الوطني جزءاً من الثورة الاشتراكية، ولا معنى آخر لمثل هذا القول. الا اذا قبلنا بذلك الفهم البرجوازي المتناقض الذي يضع هذه الحركة في افق انتقالها التاريخي الى النظام الرأسمالي العالمي، بفصله فيها ممارسة العداء للامبريالية عن ممارسة العداء للرأسمالية فصلاً مصطنعاً يقلب العداء للامبريالية تساوماً معها على قاعدة تأبيد علاقات الانتاج الرأسمالية وتأبيد علاقة ارتباطها التبعي بالامبريالي". ان هذه الحركة في ازمة، لأن الحركة الثورية (فصائل واحزاب اليسار العربي) فيها هي في ازمة. فمأساة الثورة ان تكون اداة الثورة عائقاً لها.
فهل ستكون الطبقة العاملة قادرة على تكوين حركة ثورية جديدة تقود السيرورة الثورية في الحركة التحررية الوطنية العربية؟
انها قادرة على ذلك، اما بقيادة احزابها الراهنة اذا استجابت هذه الاحزاب لضرورات هذه السيرورة الثورية؛ واما بقيادة اخرى، اذا استمرت قابعة في قصورها السياسي. فوجود تلك الحركة الثورية الجديدة بات ضرورة ملحة هي جديد المرحلة في كل بلد عربي.

بالأمس البعيد هللت الرأسمالية العالمية يوم سحقت كوميونة باريس, غير أن ماركس رد على زعمهم بمقولة صادقة, قال ماركس " أن مبادئ كوميونة باريس خالدة, فلا يمكن القضاء عليها. إنها سوف تعلن عن نفسها من جديد, ومن جديد ما دامت الطبقة العاملة لم تتوصل بعد إلى تحررها". ولكن بفعل قسوة الصدمة, أو بدافع من الانتهازية والوصولية, هناك من غرق في الإحباط وهناك من فقد الاتجاه, وهناك من تنصل من ماضيه, وهناك من هجر الماركسية, وهناك من هرول إلى الخندق الليبرالي المضاد.
لكن يخطئ كل الخطأ من يعتبر الماركسية قد اندثرت, كما يخطئ كل الخطأ من يحكم على مستقبل الاشتراكية على ضوء حاضرها المأزوم، وسوف تثبت الأيام أن عاجلاً أو آجلاً, أن أزمة الماركسية مجرد لحظة عابرة في تاريخ البشرية.