من الذي يمتلك العالم؟ (1)

نعوم تشومسكي
2013 / 8 / 26 - 08:40     

*انا لا أستطيع أن أخسر حاسوبك، صحيح؟ لأنني لا امتلكه. أستطيع خسارة حاسوبي. عبارة خسارة الصين كأنها افتراض مسبق - مبدأ محمول بعمق - في وعي النخب الأمريكية بأننا نمتلك العالم*


(ترجمة: حسام عامر، إعداد: ربيع منصور)





عندما كنت أفكر فيما أريد قوله (في هذه المحاضرة)، خطر ببالي موضوعان، لم أستطع أن أحدد بأي منهما سأتكلم. في الواقع، من الواضح ما هما، الموضوع الاول هو: ما هي أهم القضايا التي نواجهها؟
الموضوع الثاني هو: ما هي القضايا التي لا يتم التعامل معها بجدية، او لم يتم التعامل معها أبدا، خلال نوبة الجنون التي تحصل كل أربع سنوات والتي تسمى حاليا انتخابات (الرئاسة بالولايات المتحدة).
لكنني أدركت أنه لا توجد هنالك مشكلة، ان ذلك ليس بخيار صعب، انهما نفس الموضوع، وهنالك أسباب لهذا وهي أسباب مهمة بحد ذاتها.
أرغب بالعودة للحديث عن ذلك بعد لحظات، لكن أولا أود ان أقول بضع كلمات على خلفية الحديث أبدأها مع العنوان المعلن: من الذي يمتلك العالم؟
في الواقع، قُدم جواب جيد لهذا السؤال قبل سنوات من قبل آدم سميث (آدم سميث هو أحد منظِّري علوم الاقتصاد السياسي المعاصر) وهو شخص يفترض علينا "عبادته!" وليس قراءة ما كتبه! كأنك أحيانا تشعر بأنك منكوب بعض الشيء عند قراءتك لكتاباته.
كان سميث يشير الى أقوى دولة في العالم في حينها، وبالطبع الدولة التي أثارت اهتمامه، أعني انجلترا، إذ أشار الى أن المهندسين الرئيسيين للسياسات في انجلترا هم الذين يمتلكون البلد، التجار والصناعيين، في ذلك الوقت، وقال انهم تأكدوا من ان يصمموا سياسات بحيث أن مصالحهم تكون حاضرة وعلى نحو مميز، أي أن تخدم السياسات مصالحهم مهما كان تأثير ذلك ظالما على الآخرين، بمن فيهم شعب انجلترا.
لكنه كان محافظا من الطراز القديم وصاحب مبادئ أخلاقية. لذا أضاف "ضحايا انجلترا"، ضحايا ما أسماه بظلم الأوروبيين المتوحش وخاصة في الهند. حسنا، لم يكن لديه أوهام حول هوية المالكين وسأقتبس منه مرة أخرى: "كل شيء لنا ولا شيء للناس الآخرين، يبدو أنه وفي كل عصر في هذا العالم يكون هنالك ثوابت حقيرة لمن هم أسياد للبشرية".
كان ذلك صحيحا في حينه وهو صحيح في الوقت الحالي. فقد حافظت بريطانيا على موقعها كقوة عالمية مسيطرة بشكل كبير حتى دخول القرن العشرين وعلى الرغم من التراجع التدريجي مع نهاية الحرب العالمية الثانية، انتقلت السيطرة وبشكل كامل الى أيدي الذين غنموا الحرب في الجانب الآخر من البحر، الولايات المتحدة، أقوى وأغنى مجتمع في تاريخ العالم الى حد بعيد. يمكن لبريطانيا فقط أن تطمح لتصبح شريكها الصغير كما وصفها مكتب وزارة الخارجية البريطاني وبأسف في تلك المرحلة.

***

كانت الولايات المتحدة عام 1945 تملك نصف ثروة العالم، ويصعب التصديق انها سيطرت على كل النصف الغربي للكرة الأرضية وكلا المحيطين والجوانب المقابلة لكلا المحيطين. لم يكن هنالك أي شيء شبيه بذلك على مر التاريخ.
والمخططون ادركوا هذا الامر. كان مخططو روزفلت يجتمعون خلال الحرب العالمية الثانية ويصممون عالمَ ما بعد الحرب وكانوا متمرسين في ذلك وخططهم نفذت الى حد كبير. أرادوا التأكد من أن الولايات المتحدة ستسيطر على ما أسموه بالمنطقة العظيمة والتي ستشتمل روتينيا على كل النصف الغربي من الكرة الأرضية وكل الشرق الأقصى بما فيها الإمبراطورية البريطانية السابقة والتي ستستولي عليها الولايات المتحدة، وكل ما هو ممكن من أوراسيا، وخاصة المراكز التجارية والصناعية في أوروبا الغربية. ومع امتلاكها لهذه المنطقة قالوا ان على الولايات المتحدة الحفاظ على قوة لا منازع لها مع تفوق عسكري واقتصادي مع ضمان تقييد أية ممارسة للسيادة من قبل دول يمكن أن تعارض هذه التصاميم العالمية. وتلك كانت خطط واقعية فعلا في ذلك الوقت، مع وجود التفاوت الهائل في القوة كانت الولايات المتحدة والى حد بعيد أغنى دولة في العالم حتى قبل الحرب العالمية الثانية، على الرغم من انها لم تكن الفاعل الرئيسي في العالم بعد.
ازداد الانتاج الصناعي للولايات المتحدة خلال الحرب العالمية الثانية زيادة هائلة، أربعة أضعاف تقريبا، مما خلّصنا من الكساد الاقتصادي وفي غضون ذلك الوقت كان المنافسون الصناعيون قد دُمروا أو أُضعفوا بشكل كبير، اذا تلك كانت منظومة قوة لا تصدق في الواقع، والسياسات التي وضعت حينها ما زالت مستمرة. بامكانكم قراءتهما من خلال التصريحات الحكومية، لكن القدرة على تنفيذ هذه السياسات ضعفت بشكل ملحوظ في الواقع. الموضوع الأساسي المطروح الآن في النقاشات المتعلقة بالسياسة الخارجية، كما تعلمون، في الصحافة وما الى ذلك،الموضوع يسمى التراجع (الأفول) الأمريكي.
على سبيل المثال في أكثر المؤسسات اعتبارا وهي صحيفة العلاقات الدولية، الفورن افيرز، كان هنالك اصدار قبل شهرين حمل عنوانا رئيسيا على صفحة الغلاف وبأحرف كبيرة وعريضة بعنوان "هل انتهت امريكا؟" كان ذلك اعلانا لموضوع الاصدار وهنالك افتراض بوجود سبب مباشر ينتج عن ذلك وهو ان القوة تنتقل الى الغرب (غرب امريكا)، الى الصين والهند، أبرز القوى العالمية الصاعدة، واللتين ستكونان في الواقع الدول المهيمنة في المستقبل. أنا أعتقد أن التراجع حقيقي، لكن هنالك بعض الميزات المهمة التي يتوجب توافرها. أولا اللوازم المباشرة المفترض حدوثها نتيجة لهذا التراجع احتمال حدوثها ضئيل جدا على الأقل في المستقبل القريب.
الصين والهند دولتان فقيرتان جدا. اذا القينا نظرة على مؤشر هيئة الأمم المتحدة للتنمية البشرية مثلا سنجد انهما في أسفل القائمة. اعتقد ان الصين في المرتبة التسعين والهند في المرتبة مئة والعشرين، او شيء من هذا القبيل. (حسب تقرير عام 2012 الصين في المرتبة 101 والهند في المرتبة 136 - المترجم).
كان هذا في آخر مرة نظرت فيها على القائمة، ولديهم مشاكل داخلية هائلة، مشاكل ديموغرافية وفقر مدقع والمساواة ميؤوس منها ومشاكل بيئية.
الصين مركز صناعي كبير، لكن في الواقع، انها في المقام الأول مصنع تجميع اذ انها تقوم بجمع قطع ومكونات وتكنولوجيا متقدمة تأتي من مناطق صناعية محيطة أكثر تطورا كاليابان وتايوان وكوريا الجنوبية وسنغافورة والولايات المتحدة وأوروبا، فلو قلنا مثلا انك اشتريت احدى صناعات الـ أي، كما تعلمون، مثل الأي باد، ترى انها تسمى "مصدرة من الصين"، لكن القطع والمكونات والتكنولوجيا تأتي من الخارج والقيمة التي تضاف في الصين ضئيلة. ستصعدان سلم التكنولوجيا، لكنه صعود صعب وبالنسبة الى الهند الأمر أصعب.

***

حسنا، أعتقد أن على أي كان التشكك بإمكانية حدوث هذه اللوازم المباشرة (التي يفترض أنها ستنتج بسبب هذا التراجع) ولكن هنالك سمة أكثر أهمية، التراجع حقيقي ولكنه ليس جديدا انه مستمر منذ عام 1945. في الواقع، حدث بسرعة في أواخر الاربعينيات. هنالك حدث يعرف هنا (بالولايات المتحده) بخسارة الصين. الصين أصبحت مستقلة.
تلك خسارة لقطعة كبيرة من المنطقة الكبيرة في آسيا وأصبحت قضية مهمة في السياسة الأمريكية المحلية، مَن المسؤول عن خسارة الصين والكثير من تبادل الاتهامات وما الى ذلك. في الواقع، العبارة مثيرة للجدل نوعا ما. انا لا أستطيع أن أخسر حاسوبك، صحيح؟ لأنني لا امتلكه. أستطيع خسارة حاسوبي. عبارة خسارة الصين نوعا ما كأنها افتراض مسبق - مبدأ محمول بعمق - في وعي النخب الأمريكية بأننا نمتلك العالم. واذا اصبحت قطعة منه مستقلة نكون قد خسرناها، وتلك خسارة فظيعة، علينا فعل شيء حيالها.
لم يحدث خلاف حول العبارة وهذا بحد ذاته مثير للانتباه.
حسنا، نشأت تقريبا في نفس الفترة الزمنية وفي عام 1950 مخاوف بشأن خسارة جنوب شرق آسيا وذلك ما ادى بالولايات المتحدة الى دخول الحروب الهندوصينية، أسوأ اعمال وحشية في فترة ما بعد الحرب العالمية الثانية. خسرت أجزاء ولم تخسر أجزاء أخرى.
حدث مهم جدا في التاريخ الحديث كان في عام 1965 في اندونيسيا والتي كانت الهم الأساسي.
تلك الدولة في جنوب شرق آسيا التي تملك معظم الثروة والمصادر، كان هنالك انقلاب، انقلاب عسكري في اندونيسيا، انقلاب سوهارتو والذي ادى الى مجزرة استثنائية ما أسمته النيويورك تايمز بالمذابح الجماعية المذهلة. قُتل مئات الآلاف من البشر معظمهم من الفلاحين الذين لا يملكون أراضي، دَُمّر الحزب السياسي الجماهيري الوحيد وفتح البلد للاستغلال الغربي. كانت النشوة في الغرب هائلة بحيث لم يكن من الممكن احتواؤها بحيث أن النيويورك تايمز، (والتي وصفت المذابح الجماعية بالمذهلة) قامت بتسميتها "ببريق النور في آسيا" في عمود الجريدة كتبه جيمس ريستن، المفكر الليبرالي البارز في صحيفة التايمز، ونفس الشيء حدث في أماكن اخرى في أوروبا وأستراليا، فقد كان حدثا خياليا. (يتبع)





*نص محاضرة أُلقيت في جامعة ماساتشوستس في السابع والعشرين من أيلول 2012