الجدل الذي تخيَّله ماركس بين عامِل ورب عمل!


جواد البشيتي
2013 / 8 / 11 - 13:04     

جواد البشيتي
في مقالة قصيرة له، يتخيَّل ماركس عامِلاً (ذكياً، واعياً) يجادِل رب العمل، أو الرأسمالي؛ ولقد بَسَطَ ماركس (المُحلِّل الأكثر عبقريةً وعلميةً وعُمْقاً لأساس وجوهر النظام الرأسمالي) من طريق هذا الجدل طريقة الاستغلال الرأسمالي للعمَّال، والتي يجتهد أيديولوجيو الرأسمالية في حجبها، بمفاهيم ونظريات ووجهات نظر شتَّى، عن أبصار وبصائر الناس جميعاً، والعمَّال منهم على وجه الخصوص.
ولسوف أسير، بقلمي، في مسار هذه المقالة، وأتفرَّع منه، توصُّلاً إلى جَعْل محتواها الفكري يشغل حيِّزاً من ذهن كل مَنْ يرى في الرأسمالية من العيوب والخلال والمثالب ما يجعلها جديرة بالزوال.
يَبْرُز الرأسمالي للعامل بصفة كونه "شارياً"؛ و"السلعة" التي يريد شراءها من العامِل هي "قوَّة عمله".
إنَّه يشتريها منه بـ "سعرٍ (ثَمَنٍ)"، نَفْتَرِض أنَّه يَعْدِل ويساوي "قيمتها اليومية"، أيْ قيمتها في يومٍ، لا في سنةٍ مثلاً.
وأنتَ عندما تذهب إلى السوق لشراء سلعة ما فإنَّكَ لا تحصل عليها، ولا تملكها، ولا تستهلكها، من ثمَّ، قبل أنْ تَدْفع للبائع ثمنهاً نقداً؛ أمَّا رب العمل فلا يَدْفَع للعامِل ثَمَن سلعته، أيْ ثَمَن "قوَّة عمله"، إلاَّ بعد أنْ يستهلكها (أو يستعملها). وهذا إنَّما يعني أنَّ الصِّلة الحقيقية بين الطَّرفين هي صلة دائن بمدين، العامِل فيها هو "الدائن"، ورب العمل هو المدين.
لقد اشترى رب العمل من العامِل "قوَّة عمله"، وأصبح له "الحق"، من ثمَّ، في أنْ يستعملها (يستخدمها، يستهلكها) في "يوم عملٍ واحد (مدته 8 ساعات مثلاً)"؛ فالشاري له الحق في أنْ يستهلك، ويستعمل، السلعة التي اشتراها.
صلة الطرفين، في ظاهرها، تَصْلُح تعريفاً لليبرالية والحرية؛ فلا استبداد، ولا إكراه، ولا قسر، فيها. إنَّ رب العمل زيد لا يُكْرِه العامل عمرو على العمل لديه، والعامِل عمرو يستطيع أنْ يرفض العمل لدى رب العمل زيد؛ أمَّا في باطنها، فلا أثر لليبرالية والحرية؛ فالعامِل عمرو، والذي يستطيع رفض العمل لدى رب العمل زيد، لا يستطيع أبداً رفض العمل لدى "طبقة" زيد، أيْ لدى طبقة الرأسماليين التي تمتلك "الوسائل" التي لا يستطيع العامِل عمرو العمل من دونها.
رب العمل زيد اكتسب الآن الحق في إلزام العامِل عمرو في العمل لديه طوال يوم واحد (أيْ طوال يوم عمل واحد؛ ويوم العمل هو دائمأً أقصر من اليوم الطبيعي، فقد يَعْدِل 8 أو 10 ساعات).
ومدة يوم العمل هي أمر يقرِّره ويُحدِّده ميزان القوى بين الرأسماليين والعمال؛ وإذا كان رب العمل يميل بالفطرة إلى إطالة يوم العمل فإنَّ العامل يميل إلى تقصيره؛ ومع ذلك، ثمَّة حدوداً طبقية، وأخرى طبيعية، ليوم العمل.
"الرأسمال" هو الذي يخلق "الرأسمالي"، وعلى مثاله هو يخلقه؛ فما رب العمل إلاَّ "رأسمالاً على هيئة إنسان"، و"روح الرأسمالي" تغدو هي نفسها "روح رأس المال"؛ فلا أهمية تُذْكَر، في جوهر وأساس الصلة بين رب العمل والعامِل، لدين أو جنس أو جنسية أو عرق أو لون أو أخلاق.. الرأسمالي. إنَّه كمثل خالقه رأس المال لا هدف له، ولا غاية، إلاَّ "الربح"، أو إنماء القيمة بواسطة فائض القيمة. و"القيمة" التي ينزع دائماً إلى إنمائها هي المال الذي أنفقه لشراء الآلات والمعدات والأدوات والمواد والبناء..، ولشراء الأيدي العاملة.
ولجعل الأمر أكثر بساطةً، دَعُونا نفترض أنَّ الرأسمالي يملك مبلغاً من المال يكفي فحسب لشراء وسائل الإنتاج (البناء والآلات والمعدات والمواد والأدوات..). والمال المنفَق لشراء وسائل الإنتاج يسمَّى "الرأسمال الثابت"؛ وهذا الرأسمال يمثِّل "العمل الميِّت"، أيْ العمل المُخْتَزَن في تلك السلع المسماة "وسائل الإنتاج". و"الرأسمال الثابت (أو العمل الميِّت)" يشبه، لجهة صلته بالعامِل، أو العمل الحي، مصَّاص الدماء؛ إنَّه لا يعيش، ولا ينمو، إلاَّ بامتصاصه العمل الحي، أو "العمل الفائض".
الآن، جاء هذا الرأسمالي بعدد من العمال، قائلاً لهم: لن أدفع لكم أجوركم إلاَّ بعد بيع السلعة التي ستُنْتِجون؛ وينبغي لكم أنْ تعملوا لديَّ 8 ساعات.
العمَّال شرعوا يعملون، أيْ يُنْفِقون جهودهم وطاقاتهم، محوِّلين، بواسطة الآلات والأدوات، المواد إلى كمية من السلعة المراد إنتاجها؛ ودَعُونا نفترض أنَّ كل وسائل الإنتاج قد اسْتُهْلِكَت في صنع كمية معيَّة من هذه السلعة.
إذا كان الرأسمالي قد أنفق مليون دولار لشراء وسائل الإنتاج؛ فهل يبيع كل هذه الكمية من هذه السلعة بمليون دولار؟
كلاَّ؛ لأنَّ قيمة كل هذه الكمية من هذه السلعة تَعْدِل مليونيِّ دولار (مثلاً). نصف هذه القيمة، ومقداره مليون دولار، هو قيمة وسائل الإنتاج التي انتقلت إلى هذه الكمية من هذه السلعة؛ والنصف الآخر، ومقداره مليون دولار أيضاً، هو "قيمة جديدة" أنتجها وخلقها عمل العمال، وتشتمل عليها الآن هذه الكمية من هذه السلعة.
العمل الحي، أيْ عمل العمال، هو وحده مَصْدَر هذه "القيمة الجديدة"، التي يذهب أحد نصفيها (نصف مليون دولار) إلى العمال على شكل أجور، ويذهب نصفها الآخر إلى رب العمل على شكل ربح.
العمال أنتجوا في النِّصْف الأوَّل من يوم عملهم (4 ساعات) قيمة جديدة تعدل أجورهم، أيْ تعدل قيمة قوَّة عملهم، وأنتجوا في النِّصْف الآخر قيمة جديدة يعطونها لرب العمل على شكل ربح. هُمْ حصلوا على قيمة قوَّة عملهم؛ أمَّا هو فحصل على مبلغٍ من المال لا لشيء إلاَّ لكونه يتمتَّع بـ "امتياز" امتلاكه وسائل الإنتاج؛ فالمال الذي أنفقه لشراء وسائل الإنتاج يُنْقَل إلى الكمية المنتَجة من هذه السلعة من غير أنْ يزيد، أو ينقص، سنتاً واحداً.
لو أخذ العمال كل "القيمة الجديدة" التي خلقوها لاتُّهِموا بسرقة رب العمل، الذي لو أخذها هو كلها لاتَّهمته الرأسمالية نفسها بسرقة العمال؛ فإنَّ "العدالة (بمفهومها الرأسمالي)" هي أنْ يأخذ العمال نصف القيمة الجديدة، وأنْ يتنازلوا للرأسمالي عن نصفها الآخر (وأقول "يتنازلوا"؛ لأنَّهم هم وحدهم المنْتِج والخالق للقيمة الجديدة بنصفيها).
ربُ العمل يقول للعامِل: لقد اشتريتُ منكَ السلعة الوحيدة التي تملك، وإنَّ لي الحق في استعمالها (استهلاكها) يوماً كاملاً، أي في خلال 8 ساعات عمل؛ وإنَّ قيمة سلعتك تعدل تكاليف إنتاجها من طعام ولباس، وأشياء أخرى تحتاج إليها؛ وهذه التكاليف تعدل القيمة التي تُنْتِجها (لدى العمل عندي) في الساعات الأربع الأولى من يوم العمل؛ فهذا وحده حقك، فخذه عن طيب خاطر.
العامل يقول له: إنَّ السلعة التي بعتك إيَّاها تختلف عن سائر السلع في كونها تَخْلِق، لدى استعمالها، قيمة أكبر من قيمتها هي؛ وأنتَ تعطيني قيمتها، وتستولي على "القيمة الفائضة (عن قيمتها)".
ربُّ العمل يقول للعامِل: ولو لم تكن لقوَّة عملك هذه الخاصية (الاستعمالية) الخاصة الفريدة، لَمَا اشتريتها منك؛ أنا وأنت لا نعرف في السوق غير قانون واحد، هو قانون تبادل السلع، وإنَّ استهلاك (استعمال) السلعة هو أمْر لا يخص البائع، الذي انفصل عنها، وإنما يخص الشاري الذي حصل عليها؛ وهذا إنما يعني أنَّ استعمال قوَّة عملك اليومية هو مُلْك لي، وأمْرٌ يخصني، ولا يخصك.
ربُّ العمل لِصٌّ؛ لأنَّه يسرق قسماً (كبيراً) من القيمة الجديدة التي يُنْتِجها "العمل الحي"، ولا يُنْتِجها أبداً "العمل الميت"، أو "الرأسمال الثابت (الآلات)". أمَّا "أداته" في السرقة فهي وسائل الإنتاج التي يتمتَّع بـ "امتياز" تملكها.
وربُّ العمل يسرق العامل أكثر إذا ما أطال يوم العمل، أو إذا ما ما أرغم العامل على زيادة شدة وكثافة عمله في يوم العمل الواحد؛ وفي هذه الطريقة الأخيرة، يدفع رب العمل للعامل ثمن عمل يوم واحد، مُسْتَهْلِكاً، في الوقت نفسه، قوَّة عمل 3 أيام مثلاً؛ وهذا مناقِض للعقد المبرم بين الطرفين، ويخرق قانون تبادل السلع.
العامل يقول لربِّ العمل: إنني أطالِب بعمل طبيعي، في يوم عمل طبيعي؛ أُطالِب بذلك من غير أنْ ألتمس شفقة قلبك؛ ففي عالم المال لا مكان للعاطفة. إنَّكَ قد تكون مواطناً مثالياً، وإنساناً قويم الخلق، وربَّما تكون عضواً في جمعية للرفق بالحيوان، أو للعناية بالبيئة، أو شخصاً تفوح منه رائحة القداسة؛ لكنك بالنسبة إليَّ لا تمثِّل إلاَّ الرأسمال الذي لا يحمل قَلْباً بين ضلوعه؛ وهذا الذي تسمعه ينبض فيه لا يعدو كونه نبضات قلبي أنا.
أخيراً، يقول رب العمل للعامل: لقد أقنعتني؛ فحقِّي وحقك متساويان من وجهة نظر قانون تبادل السلع؛ ولا حاكِم بين "الحقوق المتساوية" إلاَّ "القوَّة".