بين -اليسار الصهيوني- واليسار المناهض للصهيونية (3)


عصام مخول
2013 / 8 / 10 - 09:11     

أزمة الفكر والممارسة الصهيونية: الماركسية والصهيونية
بين "اليسار الصهيوني" واليسار المناهض للصهيونية (3)

(الحلقة الثالثة)


اليسار المناهض للصهيونية فاعل في تأجيج التناقضات في الصهيونية

ان اليسار المناهض للصهيونية وفي صلبه الحركة الشيوعية لم يكن في الماضي وليس اليوم عاملا حياديا ومتفرجا على تناقضات الصهيونية، بما فيها اليسار الصهيوني ، بل كان دائما ، عاملا نشيطا في تعميق هذه التناقضات وتأجيجها، وفي الصدام مع طروحات اليسار الصهيوني على المستويين الفكري والسياسي ، والوصول الى الجماهير العمالية اليهودية والقوى الليبرالية ذات النزعة الديمقراطية المضللة، المنضوية تحت لواء الايديولوجية الصهيونية و"اليسار الصهيوني" بهدف تأجيج هذا التناقض، وتشجيع عملية الفرز والسلخ في داخل المعسكر الذي يدعي انه "يسار" و "صهيوني" في آن معا.
إن أهم الاسلحة التضليلية التي تحاول المؤسسة الصهيونية اللجوء اليها لمواصلة تضليل شعبها، هو الخلط لأغراض سياسية ، بين الصهيوني – واليهودي - وإسرائيل . ويجري التركيز على هذا الخلط من أجل تثبيت ثلاث مغالطات : أن كل اليهود صهيونيون بحكم كونهم يهود . وهذا يلغي اليسار غير الصهيوني والمناهض للصهيونية ، ويحول هذا الخلط الصهيونية من أيديولوجية رجعية سائدة في اسرائيل،الى صفة ملزمة لكل يهودي ولكل إسرائيلي، ويجعل من كل الاسرائيليين يهود صهيونيين، وهذا يلغي شرعية الاقلية القومية العربية الفلسطينية في اسرائيل ودورها على الساحة الاسرائيلية، ويتنكر لوجود قطاعات واسعة من الاسرائيليين اليهود وغير اليهود الذين لا ينطبق عليهم تعريفهم كصهيونيين . والمغالطة الثالثة ، أن اسرائيل الصهيونية هي الممثل ليهود العالم وهذا يلغي حق ملايين اليهود في العالم الذين لا يريدون الارتباط بإسرائيل وبالصهيونية وفكرها وسياستها بل يشكلون جزءا هاما من اليسار المناهض للصهيونية. ولكن الخطر الحقيقي في هذا الخلط هو أنه يلغي الفرصة لإحداث الفرز السياسي والفكري على الساحة الاسرائيلية وداخل الشعب اليهودي ، ويلغي التناقضات الطبقية ويضع كل اليهود في اسرائيل وفي العالم في قارب واحد ، عميقا في قفص الايديولوجية الصهيونية ، ويقطع الطريق على الانفضاض عن الاجماع القومي الصهيوني.
وحين تدمغ الصهيونية بالعنصرية ، تصور المؤسسة ذلك بالهجوم اللاسامي على اليهود ، وحين تجري إدانة ممارسات حكام اسرائيل واحتلالهم وحروبهم ، يجري تصوير ذلك اعتداء على وجود اسرائيل مع كل ما يحمله ذلك من ابتزاز سياسي وعاطفي ، ولا تتورع المؤسسة الصهيونية بمطالبة اليهود في اوطانهم في انحاء العالم بالولاء لإسرائيل ، وليس لاقطارهم .
إن أي ترويج لهذا الخلط ، بين الصهيوني ، واليهودي واسرائيل ، حتى حين يأتي كجزء من مزايدة قوموية عربية أو غير عربية معادية للصهيونية ، فإنه يصب موضوعيا في خدمة الصهيونية ، واليسار الصهيوني. كما أن محاولة بعض القوى الهروب إلى الامام من المواجهة الفكرية مع الأيديولوجية الصهيونية، والاستعاضة عن هذه المواجهة الجذرية ، بافتعال مفهوم فضفاض غير واضح المعالم مثل "الأسرلة" من الجهة الاخرى، يصب موضوعيا هو الآخر في خدمة الصهيونية ويساعدها على التستر على الصراع الحقيقي.
وفي سياق المعركة لدحر الايديولوجية الصهيونية ، والمعركة على تخليص اليهود أيضا من هيمنة الصهيونية ، ليس من مصلحة اليسار المناهض للصهيونية، ولا من العقل أن يجري تصنيف كل من يعرّف نفسه على أنه صهيوني على أنه عدو يجب مقاطعته . هناك أفراد ومنظمات لهم موقف تقدمي في قضية عينية . هناك أفراد ومجموعات راكموا وعيا هز قناعاتهم الصهيونية ، وتبين لهم أنهم كانوا عرضة لتضليل أيديولوجي ممنهج من المؤسسة الصهيونية . هناك عمال في أماكن العمل يخوضون نضالات نقابية مشتركة وعادلة دفاعا عن حقوقهم ، هناك ضحايا جدد للسياسات الليبرالية الجديدة والخصخصة والضربات الاقتصادية المبيتة، وتعمق الفقر واتساع البطالة. هناك قطاعات واسعة توصلت الى اكتشاف العلاقة بين الازمة الاجتماعية العميقة ، وبين الازمة السياسية الخانقة واستمرار فظائع الاحتلال والاستيطان والحرب . واكتشفت العلاقة بين قمع الفلسطينيين في المناطق المحتلة وتفشي مظاهر العنصرية ، والعنف ، والتدهور الفاشي في اسرائيل . بين جوع الفلسطينيين وإفقارهم ، وبين جوع قطاعات شعبية آخذة في الاتساع في اسرائيل .
إن فئات واسعة من المشاركين في هذه النضالات يعرّفون أنفسهم كصهيونيين ، وعلى اليسار المناهض للصهيونية ان يطمح الى تعميق التناقض بينهم وبين الاجماع القومي الصهيوني ، وعليه ان يطمح الى بناء تحالفات مع ضحايا المؤسسة الصهيونية ، وضحايا سياسة الحرب والعسكرة والاستغلال في كل مرة تتوفر الامكانية لذلك .
لقد صاغ اليسار الشيوعي المناهض للصهيونية في البلاد مفهوم الوحدة الكفاحية وبادر الى بناء أطرها . إن أطر الوحدة الكفاحية لا تقوم على قاعدة أيديولوجية مشتركة بالضرورة. وتتمثل اهمية هذه الاطر في قدرتها على ان تخوض المعارك العينية ، من خلال استقطاب قوى من مشارب فكرية مختلفة بما فيها قوى لا زالت تعرف نفسها على انها صهيونية في الجمهور اليهودي وسلخها عن الاجماع القومي الصهيوني . هكذا في القضية السياسية وهكذا في قضايا الاحتجاج الاجتماعي والطبقي .
إن مثل هذا النضال المنفتح كفاحيا، مشروط بالقدرة على خوض النضال الفكري مع المختلفين ايديولوجيا . فالنضال الفكري يكمل التعاون السياسي والاجتماعي والنقابي في القضايا المشتركة . وسيكون من الانتهازية التعاون مع أناس كهؤلاء من دون خوض الصراع الفكري معهم ، كما أن من الفئوية خوض الصراع الفكري معهم ، من دون القبول بالتعاون على قاعدة تقدمية مشتركة ميدانيا.
ان التقسيمة الاساسية بالنسبة لليسار الأممي المناهض للصهيونية ليست بين اليهود في جهة والعرب في جهة أخرى ، بل بين اولئك الذين لديهم مصلحة في النظام الاجتماعي والسياسي القائم ومن لديهم مصلحة في تغييره. ولذا يطرح هذا اليسار سياسة يهودية عربية تقدمية وديمقراطية حقيقية، بدلا من سياسة لليهود وأخرى للعرب".





"اليسار الصهيوني"
بين قبول "دولة المواطنين" ورفض المساواة في الحقوق القومية



ان محاولات المؤسسة الصهيونية الحاكمة في اسرائيل وفي طليعتها أحزاب "اليسار الصهيوني"، جر النقاش ، الى مسألة حق اسرائيل في الوجود بعد مرور أكثر من ستة عقود على قيامها ، هي محاولة اسرائيلية خطيرة لخلط الاوراق والتهرب من القضايا المستحقة ، وهي محاولة لجعل القضية الملحة المطروحة للحسم هي قضية وجود اسرائيل وضمان أمنها والحفاظ على يهوديتها ، وليس قضية تعطيل إقامة الدولة الفلسطينية وإجهاض ممارسة الشعب الفلسطيني حقه في تقرير المصير .
إن خطاب المؤسسة الصهيونية يقوم في أيامنا على نهج تفريغ القضية الفلسطينية من فلسطينيتها ، والبحث عن مبررات لمواصلة احتجاز حق الشعب الفلسطيني في اقامة دولته المستقلة، والتنكر لحقه في التخلص من الاحتلال، وفي التحرر والاستقلال الوطني ، واحتجاز حق الاقلية القومية العربية الفلسطينية المواطنة في اسرائيل بالمساواة في الحقوق القومية والمدنية .
إن النهج الليبرالي الذي طغى على معسكر "اليسار الصهيوني في العقدين الاخيرين"انعكس في موقفين : الاول – قبوله لمشروع "دولة المواطنين " من جهة ، واعتبار شولميت ألوني ، مؤسسة وقائدة حركة حقوق المواطن في اسرائيل ، الأم الروحية لهذا الطرح ، ما دامت حدوده هي المواطنة المتساوية ، في الدولة الوحيدة القائمة في فلسطين التاريخية ، والثاني – رفض اليسار الصهيوني المطلق لمشروع "المساواة في الحقوق القومية والمدنية" الذي طرحه اليسار الشيوعي المناهض للصهيونية .
وتعتبر طروحات البروفيسور روت غبيزون كبيرة الخبراء القانونيين المعتمدين من قبل لجنة الدستور البرلمانية في مسألة إعداد الدستور في اسرائيل ، والتي تعبر بوضوح عن الفكر السائد في "اليسار الصهيوني" ، ان الدستور العتيد، يجب ان يوفر المساواة للمواطنين العرب في داخل دولة اسرائيل، اما الحقوق القومية فيمكن ممارستها في اطار الدولة الفلسطينية فقط ، على افتراض انها ستقوم بجانب اسرائيل. وتضيف غبيزون "ان رفض الاعتراف بحق العودة للاجئين الفلسطينيين، هو من منطلق الخوف الديمغرافي الطاغي على الاسرائيليين. وان القلق يكتنف المؤسسة الاسرائيلية حول مستقبل التوازن السكاني في فلسطين التاريخية. وان هذا القلق، وليس البعد الاخلاقي وعدالة القضية الفلسطينية و"المصالحة التاريخية" ، والحقوق المشروعة للشعب الفلسطيني وقرارات الشرعية الدولية ، هي التي تستدعي حلا على اساس دولتين لشعبين. وان دفع مسألة الدستور اليوم نابع عن هذا القلق وعن الحاجة الى تثبيت طابع اسرائيل كدولة يهودية مستقبلا.
وتعتبر غبيزون ان الدستور المنشود، يفترض حالة ينتهي فيها الاحتلال، وتقوم دولة فلسطينية، فكيف ستبدو دولة اسرائيل عندها ؟ . فالدستور المقترح ينطلق من ضمان مساواة المواطنين العرب في القضايا المدنية، ومن ان اسرائيل تعبر عن ممارسة الحقوق القومية لليهود في اطار دولة "يهودية وديمقراطية". اما ممارسة الحقوق القومية للفلسطينيين المواطنين في اسرائيل أيضا، فيتم التعبير عنها في اطار الدولة الفلسطينية، وليس داخل اسرائيل.
ان المحك الحقيقي لقلق غبيزون، والمحك الفاضح لسياسة المؤسسة الصهيونية الحاكمة في قضية "الخلل الديمغرافي"، هو في موقفهم المتنكر لحق ربع مليون مواطن عربي في اسرائيل، مهجرين عن بلداتهم المهدومة. ان معارضة عودة اللاجئين الداخليين الى قراهم، بالرغم من انها لا تمت الى التوازن الديمغرافي بصلة تفضح حقيقة التستر على موقف صهيوني كلاسيكي في صلبه ان اسرائيل لن تقبل تحمل المسؤولية التاريخية عن نكبة الشعب الفلسطيني، اكثر من خوفها من التوازن الديمغرافي، فاللاجئون المهجرون في داخل اسرائيل هم مواطنو الدولة وجزء من ديمغرافيتها، ولا يوجد أي منطق يمنع اهالي اقرث وبرعم والغابسية على سبيل المثال، من العودة الى قراهم التي هدمتها الدولة، ولا يوجد أي منطق بمنع اهالي الدامون او البروة في طمرة وكابول والجديدة من العودة الى قراهم والعودة لاستعمال ارضهم، وخصوصا غير المستعمل منها، سوى الخوف من التاريخ. لقد كان الصحافي المعروف دان مرغليت الاكثر فظاظة ووضوحا خلال مراشقة في المواقف بيننا في مقصف الكنيست، نقله لاحقا على صفحات هآرتس حين اعلن ان المشكلة ليست في عودة بضعة عشرات الالوف من الفلسطينيين في اطار لمّ الشمل، وانما بالمس في البعد الاخلاقي للصهيونية، التي لن تعترف بالمسؤولية عن النكبة، وبالمسؤولية تجاه ضحاياها.. ليست المسألة مسألة ديمغرافيا وانما مسألة المصداقية والشرعية التي تحاول الصهيونية أن تضفيها على تاريخها .
ان المؤسسة الاسرائيلية لا تزال تتعامل مع ابناء الاقلية القومية العربية فيها كغرباء في وطنهم أو ضيوف عابرين. ان هذا التوجه، لاينحصر في نهج اليمين المتطرف الذي يطرح مشاريع الترانسفير والتبادل السكاني، فالمشكلة الحقيقية تتمثل في تجذر هذه الافكار في الخطاب السياسي السائد في مركز السياسة في اسرائيل وفي خطاب القوى التي تزعم انها "يسار صهيوني" . ان سياسة "الخطر الديمغرافي" العنصرية، والهجمة لتثبيت الطابع اليهودي لإسرائيل، (يهودية الدولة بدلا من اسرائيليتها)، وعقلية الفصل العنصري ، (نحن هنا ، وهم هناك ) ومشروع جدار الفصل العنصري، ليست حقيقة من صنع اليمين الاسرائيلي المتطرف، بل من صنع مدرسة حزب العمل ومدرسة " اليسار الصهيوني"، الذي يوفر البنية التحتية الفكرية لانفلات اليمين المتطرف.