ماركس والتجربة السوفييتية (1)


نعيم الأشهب
2013 / 8 / 3 - 10:03     

جرت، حتى الآن، محاولتان جادتان لنقل المجتمع من الرأسمالية إلى الاشتراكية: كومونة باريس عام 1871، ودامت سبعين يوما، وثورة أكتوبر في روسيا 1917، ودامت سبعين عاما. وإذا كان ماركس قد قام بتقييم موضوعي لكومونة باريس وقدّمه باسم "الصراع الطبقي في فرنسا" لمجلس الأممية الأولى، فإن تقييما كهذا لثورة أكتوبر لم يتم انجازه، حتى الآن



تمهيد: صنّفت المادية التاريخية لماركس، تاريخ تطور البشرية الاجتماعي بالأنماط التالية: الشيوعية البدائية، العبودية، الإقطاع، والرأسمالية. لكن هذا لا يعني أن جميع الشعوب مرّت، بالضرورة، في جميع هذه التشكيلات، وبشكل متسلسل؛ كما أن بعض أشكال هذه الأنماط أو النظم الاجتماعية لم تكن متماثلة. فالإقطاع في الشرق، حيث ملكية الأرض للدولة، يمنح الحاكم منها من يشاء للاستعمال - مقابل الخراج - ويستردها متى شاء، تختلف عن الإقطاع في الغرب. وإذ اقتضى هذا النمط من الإقطاع في الغرب وجود طبقة الأقنان، فلم يكن لهذه الطبقة مثيل في الإقطاع الشرقي. وإذا كانت طبقة العبيد قد اختفت في الغرب لتحل محلها طبقة الأقنان، مع الانتقال من النظام العبودي الى النظام الإقطاعي (إذا استثنينا ظاهرة ملايين الأفارقة الذين أسرهم الكولونياليون الأمريكان، من موطنهم إفريقيا، ونقلوهم للعمل كعبيد في مزارعهم في الولايات الجنوبية من أميركا الشمالية)، فإن العبودية، كظاهرة اجتماعية، امتدت، في إطار النظام الإقطاعي، في الشرق، وبخاصة في العمل المنزلي، الى أيامنا تقريبا. فإذا كانت العبودية قد ألغيت رسميا في السعودية، أواسط القرن الماضي، فإن بقايا منها ما تزال موجودة فعليا هناك، وكذلك الحال في موريتانيا وبلدان اخرى في إفريقيا.
وإذا كانت عملية الانتقال من نظام اجتماعي طبقي الى نظام اجتماعي طبقي آخر، قد تمّت، عموما، بشكل تلقائي، حيث مثّل تطور أدوات الإنتاج دينامية هذا التغيير ومحركه الأساس، فإن الأمر مختلف بالنسبة للانتقال من الرأسمالية الى الاشتراكية.
بمعنى آخر، فعملية الانتقال من الرأسمالية إلى الاشتراكية تختلف نوعيا من حيث إنها عملية واعية مئة بالمئة. ويعود ذلك إلى أنها تستهدف ليس نقل المجتمع من نظام طبقي الى نظام طبقي آخر، وإنما من مجتمع طبقات متناحرة، مستغلة (بكسر الغين) وأخرى مستغلة (بفتح الغين) الى مجتمع خال من الاستغلال الطبقي. وهذا يحدث لأول مرة في التاريخ، منذ تفكك المشاعية البدائية، قبل آلاف مؤلفة من السنين، ترسّخت خلالها في ذهن الإنسان مفاهيم الاستغلال الطبقي والملكية الخاصة لوسائل الإنتاج.
من هنا، فعملية الانتقال من الرأسمالية إلى الاشتراكية لا يمكن أن تتم، بمجرد نضوج العامل الموضوعي لهذا الانتقال، والمتمثل بتطور أدوات الإنتاج الى حد تغدو فيه علاقات الإنتاج، ومحورها الملكية الخاصة، تمثل كابحا متزايد التأثير في إعاقة تقدم قوى الإنتاج؛ ولذلك فعملية الانتقال هذه، من الرأسمالية إلى الاشتراكية، بحاجة مطلقة لتوفر عامل ذاتي الى جانب العامل الموضوعي، أي الى حزب ثوري مسلّح بالنظرية الثورية للطبقة العاملة - أكثر طبقات المجتمع التي لها مصلحة في هذا التغيير- وقادر على صياغة استراتيجية وتكتيك عملية الانتقال هذه وقيادتها.
بمعنى آخر: إذا كانت قوانين الرأسمالية عمياء، فقوانين الاشتراكية واعية؛ أو كما يقول المثل:الرأسمالية تنمو بينما الاشتراكية تُبنى (أي يجري بناؤها)؛ ومن هنا فدور العامل الذاتي في الاشتراكية أهم كثيرا منه في الرأسمالية، سلبا أو إيجابا.
وإذا كان هذا لا يضع العامل الذاتي قبل العامل الموضوعي، الذي يبقى هو الأساس، إلا ان العامل الذاتي يكتسب في هذه الحالة أهمية خاصة. ومنذ عقود طويلة، كانت تحلّ، بين حين وآخر، ما تسمى باللحظة الحاسمة، حين تبلغ أزمة النظام نقطة معينة، في بلد رأسمالي أو آخر، نضج موضوعيا للتغيير الثوري والانتقال إلى الاشتراكية، لكن عدم توفر العامل الذاتي القادر على تنظيم وقيادة عملية الانتقال هذه، كان يؤدي الى ضياع تلك اللحظة.
لقد جرت، حتى الآن، محاولتان جادتان لنقل المجتمع من الرأسمالية إلى الاشتراكية، الأولى - كومونة باريس عام 1871، ودامت سبعين يوما، والثانية - ثورة أكتوبر في روسيا 1917، ودامت سبعين عاما. وإذا كان ماركس قد قام بتقييم موضوعي لكومونة باريس، إيجابيات وسلبيات، وقدّمه باسم "الصراع الطبقي في فرنسا" لمجلس الأممية الأولى، بعد أسابيع قلائل على قمع تلك المحاولة المجيدة، وقبل إعلان حل تلك الأممية عام 1872؛ فإن تقييما كهذا لثورة أكتوبر لم يتم انجازه، حتى الآن، رغم مضي أكثر من عشرين عاما على انهيار تلك التجربة. لقد ظهرت، حتى الآن، اجتهادات متناثرة، ومتباينة أحيانا، في تقييم هذه التجربة، وأسباب انهيارها؛ لكنها لا ترقى الى مستوى تقييم جاد ومتكامل لهذه التجربة الهائلة والحافلة في الوقت ذاته، والتي تركت بصمات عميقة على تاريخ البشرية في القرن العشرين.
وإذا كانت هذه القضية تهمّ كل الإنسانية التقدمية الطامحة للخلاص من الرأسمالية المعاصرة وشرورها، وبالتالي تمنح الحق لكل إنسان تقدمي أن يدلي بدلوه في هذا الموضوع، فإن المسؤولية الأولى في تقييم هذه التجربة تقع على عاتق الماركسيين السوفييت الذين عايشوا هذه التجربة وكانوا في قلبها، وكذلك ماركسيي بلدان شرقي أوروبا الذين انضموا إلى هذه التجربة بعد الحرب العالمية الثانية. وهذا التقييم النقدي لا غنى عنه لأية محاولة جديدة للانتقال من الرأسمالية إلى الاشتراكية. فما دام بناء الاشتراكية عملية واعية بالكامل، فإن تحديد الأخطاء التي ظهرت في التطبيق في التجارب السابقة وأدت الى فشلها، تغدو لا غنى عنها لتجنب تلك الأخطاء في أية عملية قادمة نحو الاشتراكية.
وفي إطار الاجتهاد للمساهمة في عملية التقييم النقدي هذه، ربما تكون أكثر الطرق سلامة وتجنبا للوقوع في الذاتيات، محاكمة أسس التجربة السوفييتية بالاستناد إلى المبادئ العامة التي صاغها ماركس حول الاشتراكية استخلاصا من دراسته للرأسمالية من جهة ولتجربة كومونة باريس من الجهة الأخرى. وتكتسب مثل هذه المحاكمة أهمية إضافية من حيث إنها تمثل ردا على أعداء الماركسية من كل شاكلة ولون، بمن فيهم المرتدون الجدد، الذين زعموا بأن فشل التجربة السوفييتية هو إعلان بفشل الماركسية، بل موتها، كما ذهب البعض.

ولكن قبل الخوض في هذه المحاكمة، من الإنصاف والموضوعية الاعتراف بأن هذه التجربة حققت نتائج مذهلة، وبخاصة في العقود الأولى من حياتها، استنادا الى المبدأين التاليين اللذين سبق لماركس أن صاغهما كأسس لبناء الاشتراكية: إحلال الملكية العامة لوسائل الإنتاج، مكان الملكية الخاصة لها؛ والتخطيط الاقتصادي، بدل فوضى الإنتاج. فمنذ أخذ البلاشفة السلطة في أكتوبر 1917 وحتى أواسط الثلاثينيات، تحوّل الاتحاد السوفييتي من بلد زراعي - صناعي متخلف الى بلد صناعي - زراعي متقدم، يمتلك قاعدة صناعية قوية ومتقدمة، استطاع بالاستناد إليها أن يكسب الحرب ضد ألمانيا النازية، التي كانت أقوى دولة في القارة الأوروبية وأكثرها تقدما صناعيا؛ رغم أن نقطة البدء في عملية بناء الاقتصاد السوفييتي كانت من أطلال وخرائب الحرب العالمية الأولى ثم الحرب الأهلية المصحوبة بحرب تدخل شاركت فيها اثنتان وعشرون دولة. وحتى بعد الحرب العالمية الثانية التي كان الاتحاد السوفييتي أكثر بلدان العالم معاناة منها، من حيث الخسائر البشرية والمادية، فقد استطاع، في غضون سنوات معدودة، ان ينهض من آثارها ويغدو رائدا في غزو الفضاء وأول من يرسل انسانا خارج الكرة الأرضية، سابقا الولايات المتحدة التي لم تصبها رصاصة واحدة خلال الحرب العالمية الثانية، بل تضاعف اقتصادها، بسبب تلك الحرب، أربع مرات. وبسبب من الملكية العامة لوسائل الإنتاج، والتخطيط الاقتصادي، كان الاتحاد السوفييتي هو البلد الوحيد في العالم الذي لم يعانِ من الأزمة الاقتصادية الكبرى التي اندلعت في العام 1929 وامتد تأثيرها حتى اندلاع الحرب العالمية الثانية. وبفضل هذين المبدأين الاقتصاديين المتفوقين تفوقا مطلقا على قوانين الاقتصاد السياسي للرأسمالية استطاع الاتحاد السوفييتي الانتقال، في ميدان الإنتاج الصناعي، من 12% فقط من حجم الإنتاج الصناعي الأميركي الى 80% وفي الإنتاج الزراعي الى 85% منه خلال خمسين عاما.
كما أشير سابقا، فقد صاغ ماركس عددا من المبادئ العامة للاشتراكية كإستخلاصات من دراسته المعمقة للرأسمالية من جهة، ومن دروس كومونة باريس من الجهة الأخرى؛ وبالتالي جاءت هذه المبادئ العامة خالية من أية أحلام طوباوية أو رغبات ذاتية؛ وفي الوقت ذاته، مركّزة ومقتضبة، وسنركز هنا على اثنين اساسيين منها، أولهما، مبدأ التسيير الذاتي:
أدرك ماركس في دراسته للرأسمالية، مخاطر البيروقراطية على حرية الإنسان في تحديد خياراته، وعلى عرقلة عمل قوانين الاقتصاد السياسي للاشتراكية. وفي تناوله، هو وإنجلز، لسبل الانتقال من الرأسمالية إلى الاشتراكية، لاحظا أنه يمكن تحاشي الانتفاضة المسلحة - التي ليست غاية في ذاتها ولا الوسيلة المفضلة - والانتقال السلمي، عبر الاقتراع العام، اعتمادا على الغلبة العددية للطبقة العاملة، في كل من انجلترا والولايات المتحدة، حيث كانت البيروقراطية ما تزال ضعيفة ومحدودة آنذاك. لكن في وقت لاحق، راح إنجلز- بعد وفاة ماركس - يشكك في هذا الاحتمال، في ضوء النمو السريع للبيروقراطية في هذين البلدين ".. مما يفرض على البروليتاريا اللجوء الى العنف الثوري"، كما قال. (يتبع)