انسداد الثورات والبحث عن -المنقذ الفرد-


محمد سيد رصاص
2013 / 8 / 2 - 08:54     


عند انجاز الثورات لهدفها المباشر في اسقاط النظام(أورأسه )،تبدأ القوى الثورية في التفرق والتناحر،وتبدأ عملية نشوء استقطابات وخنادق سياسية جديدة لم تكن موجودة في زمن اندلاع الثورة،حيث أن الثورة،بمرحلتها الانتقالية - أومراحلها - ،يمكن أن تستغرق عملية الانتقال بعدها سنوات طويلة إذا لم يكن الأمر متعلقاً بعقود طويلة من الزمن.
لماأنجزت ثورة البرلمان الانجليزي هدفها عام1649 في إزاحة الملك وقطع رأسه بعد سبع سنوات من الحرب الأهلية ضده وضد داعميه في كنيسة انجلترا وقوى الأرستقراطية التي وقفت وراءها أغلب القوى الاجتماعية في المقاطعات الشمالية والغربية ،بدأ تناحر القوى الثورية بين ثلاثة اتجاهات: البيوريتان الذين وقف وراءهم المزاعون الأثرياء في الجنوب وتجار لندن،متطرفوا نزعة المساواة(الديكرز)الذين نادوا بأن أرض انكلترا الزراعية للجميع،ثم قوى الأسطول والجيش التي كانت معظم عناصرهما من صغار المزارعين وهم متسامحون أكثر مع أنصار الملك في الكنيسة الانجليكانية بالقياس إلى طائفة البيوريتان.انضاف لهذه الانقسامات ماولده كرومويل من ضغينة عند الايرلنديين لماحاول تحويلهم عن الكاثوليكية وهم الذي اشترك معهم في العداء للملك المعدوم وهو كان أيضاً حال الاسكوتلانديين أيضاً الذي فرض عليهم كرومويل الوحدة مثل الايرلنديين قسراً.هذا الوضع من تفرق القوى الثورية أنشأ توازناً واستعصاءاً في القوى ،لجأ كرومويل لحله في عام1653من خلال فرض نفسه "حامياً" بسلطات عسكرية فردية وفرض حكم من الارهاب الفكري من خلال البيوريتان الذي تدخلوا في معتقدات الناس ونمط حياتهم وهواياتهم ،وقد ساعده على استقرار ديكتاتوريته ازدهار التجارة البحرية بعد قانون1651الذي يحظر نقل البضائع الانكليزية على سفن أجنبية. انهار حكم البيوريتان في عام1660بعد وفاة كرومويل بسنتين وعاد ابن الملك المعدوم من منفاه الفرنسي ،وكان البيوريتان وأحرار البرجوازية الجديدة(حزب الويغ)هم عماد معارضة الملك الذي حاول برعاية فرنسية إعادة الكاثوليكية،ولتنشب ضده ثورة1688-1689التي جعلت ملك انكلترا يملك ولايحكم.
في ثورة1789الفرنسية ،حصل سيناريو مشابه،عقب اعدام الملك وزوجته إثر اعلان الجمهورية عام1792 ،لماتفرقت القوى الثورية بين جيرونديين ويعاقبة أكثر راديكالية،وليشهد عام 1794تصفية بعضهم بعضاً،ثم اتجاه معتدلي الطرفين لإقامة حكم (الديركتوار- الإدارة)منذ عام1795الذي كان واضحاً فيه أن الجيش والأغنياء من التجار والبرجوازية هم عموداه الرئيسيان.كانت انتخابات شباط1797للمقاطعات الفرنسية مؤشراً على استعادة قوى النظام الملكي لقوتها ولانحلال قوة القوى الثورية. كان الجيش هو حامي الثورة بعهد الديركتوار وليس أحزاب مثل اليعاقبة والجيرونديين كماكان الأمر بأعوام1793و1794،ولكن كان ذلك وصفة لتخطي الديركتوار مع الانحلال الاجتماعي والأزمة الاقتصادية وازدياد خطر الخارج الذي استعانت به قوى النظام القديم،وليحصل ذلك من خلال قائد عسكري عبر انقلاب في يوم 18برومير(9نوفمبر1799)قاده نابليون برنابرت الذي كان قبل شهر قد عاد لفرنسة خائباً من حملته المصرية. ظهر بونابرت بوصفه المنقذ الفرد لملايين الفرنسيين وخاصة الفلاحين والفئات الوسطى وأيضاً للأثرياء البرجوازيين ،ومتخطياً لانقسامات الثورة و"واضعاً" شخصه فوق الأحزاب بل و"فوق" الطبقات الاجتماعية الثورية التي فوضته لكي يحكم بسلطة فردية مطلقة باسمها ،قبل أن تتبعه أغلبية الفرنسيين في حروب ضد الخارج هزت أوروبة حتى هزيمته في واترلو عام1815،وقد بكاه الكثير من الفرنسيين وهو في منفاه وعند وفاته عام1821 بجزيرة نائية جنوب المحيط الأطلسي.
هذا الانسداد لحركة الثورات لايؤدي فقط إلى تفويض غالبية اجتماعية لإرادتها إلى "منقذ فرد" يملك صفات قيادية عظيمة ،مثل أوليفر كرومويل ونابليون بونابرت، وإنما يمكن أن يحصل هذا لأفراد تافهي الصفات وذوي خلفيات اجرامية،كماحصل بعد ثورة شباط1848الفرنسية لماأعطت غالبية كاسحة من الفرنسيينخمسة ونصف مليون من أصل سبعة ونصفأصواتها لمرشح الرئاسة لويس بونابرت،في انتخابات10ديسمبر1848بعد انقسام القوى الثورية بين اتجاهي (الناسيونال) البرجوازي و(الريفورم) الاشتراكي،وصدامهما في صيف 1848،واستعانة الأولين بالجيش لقمع العمال،و قد كان هذا الصدام بين القوى الثورية مرفوقاً بانتعاش قوى النظام القديم لماحصل الملكيون في انتخابات الجمعية الوطنية يوم23ابريل1848على ثلث المقاعد.كرئيس للجمهورية اتجه لويس بونابرت إلى حكم فردي بوليسي في ظل انحلال قوة قوى ثورة شباط1848وفي ظل عجز قوى النظام القديم عن استعادة الحكم سواء كانوا من آل بوربون الذين فقدوا السلطة إثر ثورة1789أو آل أورليان الذين فقدوها عام1848،وكان الجيش والإدارة عماد حكمه قبل أن يلجأ لالغاء الجمهورية وتنصيب نفسه امبراطوراً عقب انقلاب2ديسمبر1851الذي أسماه كارل ماركس ب"الثامن عشر من برومير لويس بونابرت"،وليحكم لثمانية عشر عاماً في ظل سبات اجتماعي فرنسي وصيام عن السياسة لم يفق منه أهل ثورات1789و1830و1848إلاعلى وقع الهزيمة أمام الألمان في معركة سيدان عام1870.
في تلك الثورات الثلاث انتهى الانسداد الثوري بإمساك ديكتاتور فرد بناصية السلطة:الفرق بين نابليون بونابرت وابن أخيه بعد نصف قرن أن الأول كان مستنداُ في ديكتاتوريته على قاعدة اجتماعية متينة بعد توزيع الأرض على الفلاحين الذين شكلوا قاعدة صلبة لحكمه ثم لجيوشه وعلى تحديثه للإدارة والدولة الفرنسيتين،بينما لويس بونابرت استند على انهاك القوى الثورية لبعضها البعض واستنفاذها لقوتها خلال أشهر مابعد الثورة ولعدم قدرة قوى النظام القديم على أن تشكل بديلاً،مماأنشأ فراغاً سياسياً قام بملئه من خلال شخصه في مجتمع استسلم لأقداره واستقال من السياسة مع نخب سياسية دخلت في حالة الافلاس. كرومويل استندت ديكتاتوريته على الاقتصاد.في الحالات الثلاث كان هناك توازن صفري بين القوى الثورية المتصارعة وبينها جميعاً وبين قوى النظام القديم،ليأتي الديكتاتور الفرد ويملأ الفراغ. في حالتي كرومويل ونابليون قام الديكتاتور بانجاز برنامج الثورة أوبعضه . (الحالة البونابرتية ) دائماً كانت تتضمن أن "المنقذ الفرد" ينفض سريعاً عن الحلفاء الذين ساهموا في تأمين أوساعدوا في عملية وصوله للسلطة ليتربع في النهاية وحيداً على سدة الحكم.
في آب 1917حاول الجنرال كورنيلوف بعد صدام قوى ثورة شباط1917الروسية ،أي حكومة كرنسكي والبلاشفة في الشهر السابق،القيام بانقلاب عسكري . تضامن ضده لينين مع كرنسكي،قبل أن يقوم البلاشفة بعد شهرين من افشال محاولة كورنيلوف باسقاط حكومة كرنسكي عبر ثورة أوكتوبر. لم يكن هناك انسداد ثوري في روسيا صيف عام 1917 وهوماسمح بنشوب ثورة ثانية بعد ثمانية أشهر من الثورة الأولى،وجعل الطريق مسدوداً أمام الجنرال الروسي لفرض ديكتاتوريته العسكرية.
كان منظر ميدان التحرير بالقاهرة في يوم30يونيو2013 مقابل ميدان رابعة العدوية موحياً بانسداد ثوري من خلال توازن صفري بين الطرفين، وبعدم قدرة من في ميدان التحرير على تكرار مافعلوه ضد مبارك عام2011،هناك، ضد مرسي في عام2013،وفي الوقت نفسه بفقدان الاندفاعة والمد في حركة التيار الاسلامي المصري،والبادئتان منذ أوائل سبعينيات القرن العشرين،حيث ثبت ،من تجربة حكم الاخوان في القاهرة ، فشل تنظيم في الحكم وانكشافه خلال سنة واحدة بعد أن قضى في المعارضة أربعة وثمانون عاماً : من خلال هذا الاستعصاء الثوري أتت نزعة، من كانوا عام2012 من الليبراليين واليساريين ينادون بشعار"يسقط..يسقط حكم العسكر" بخلاف الاخوان،نحو الاستعانة بالفريق السيسي "منقذاً " هو والمؤسسة العسكرية لكسر هذا التوازن الصفري بين الميدانين ،ممايعبر عن يأس عندهم من الطريق الانتخابي ومن صندوق الاقتراع وخاصة بعد تجارب خمسة استفتاءات وانتخابات فاز بها الاسلاميون بعامي2011و2012 ،وهو ماقام به القائد العام للجيش المصري في مساء 3يوليو2013ولكن في حركة انقلابية هي أقرب إلى مافعلته المؤسسة العسكرية التركية يوم28شباطفبراير1997ضد رئيس الوزراء الاسلامي المنتخب نجم الدين أرباكان لمافضلت، بخلاف مافعلته في انقلابي1960و1980،أن تحكم بعد الانقلاب من وراء ستارة مدنية،ومن دون الغاء العملية الديمقراطية الانتخابية ولكن مع اجراءات قضائية بحل حزب أرباكان،الذي اختار تلميذه أردوغان الخروج عليه وتأسيس حزب اسلامي جديد فاز بعد سنة من نشوئه بانتخابات برلمان3تشرين ثاني2002.