عن -ازمة الماركسية- وأزمة احزاب وفصائل اليسار العربي وسبل النهوض


غازي الصوراني
2013 / 7 / 28 - 18:52     


(1)
ان ما يوصف بأنه " أزمة الفكر" لدى أحزاب اليسار العربي هو في الحقيقة أزمة الممارسة بسفحيها: النظري والعملي، فثمة بون شاسع بين الممارسة النظرية، مثلاً، وبين انتقاء وجمع وتوليف مجموعة من الأفكار والمبادئ والتصورات، قُطعت عن منظومتها الفكرية، وانتُزعت من سياقها التاريخي ، عبر مسميات خجولة أزاحت النص الصريح بالالتزام بالماركسية ، لحساب نصوص تلفيقية أو توفيقية أو تحريفية، أو عناوين استرشادية جاءت انسجاماً مع مواقف العديد من الأحزاب الشيوعية التي تخلت عن اسمها أو بعض الفصائل والحركات الأخرى التي اتجهت صوب الخلط الفكري بين الليبرالية والماركسية ، أو حتى شطب الماركسية من أدبياتها، ذلك الخلط أو الشطب، سيعزز تراجعها المتصل، وتهميشها وسيعجل بنهايتها.
على أي حال، إن التخلي عن الماركسية أو الارتداد عنها والتنكر لها ، ليس موقفاً جديداً مرتبطاً بانهيار الاتحاد السوفياتي أو بالواقع العربي المهزوم ، بل هو ظاهرة نشأت منذ نشوء الماركسية، من خلال العناصر والقوى اليمينية التي وجدت في الماركسية خطراً شديداً على مصالحها ووجودها ، لكن " الماركسية" بمضمونها السياسي والاجتماعي ودلالاتها ومؤشراتها المستقبلية بالنسبة لتحرر وانعتاق العمال والفلاحين وكل الفقراء والكادحين في هذا الكوكب ، خاصة في البلدان المستعمرة والتابعة ، كما هو حال بلداننا العربية، الذين لن يجدوا خلاصهم إلا من خلالها ، لذلك ، فإن البحث في "أزمة الماركسية" –ولا نقول فشلها- هو بحث في الماركسية ذاتها، -كما يقول " الصديق سلامة كيلة- وإذا كان من حق اي كان، ان يتخلى عن افكار ويعتنق أفكار أخرى نقيضة، فانه ليس من حق احد اصدار حكم بالتجاوز او النفي على تيار فكري من اجل تبرير هذا التخلي، خصوصاً اذا كان الحكم بلا حيثيات سوى البعد الذاتي ومبرراته الانتهازية الأنانية الصريحة.

(2)
إن جذور أزمة الماركسية في الوطن العربي تكمن في هذا التراجع الفكري والضعف النظري لدى احزاب وفصائل اليسار، إلى جانب حالة الاغتراب عن الواقع، ومن ثم فشل هذه الاحزاب في وعي الواقع واستيعاب جوانبه ومكوناته السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية...إلخ ، حيث استمرت طوال العقود الماضية في رفع شعارات او مبادئ لا تجسد الواقع أو تعكسه بصورة جدلية وموضوعية صحيحة، ما يعني بوضوح ان الحركات اليسارية لم تدرك أن المبادئ لا تصلح نقطة انطلاق للبحث والتحليل والتنقيب، بل هي نتيجتها الختامية. فالمبادئ لا تطبّق على المجتمع والطبيعة والتاريخ بل تُشْتَقْ منها، فليس على الواقع والتاريخ أن يتطابقا مع أفكارنا, بل على أفكارنا أن تتوافق وتتطابق مع قوانين حركة الواقع ومنطق التاريخ، هذا هو الدرس الرئيسي الذي يتوجب على احزاب وفصائل اليسار العربي أن تستوعبه في وعيها وممارستها، دون أن يعني ذلك تجاوزاً للتطور الاجتماعي والطبقي المشوه ، لمجتمعاتنا العربية ، طوال التاريخ الحديث والمعاصر ، وبالتالي فإنني أرى أنه ليس من المغالاة في شيء، إذا قلنا بأن ما يسمى بأزمة الماركسية في بلادنا ، هي انعكاس –بهذا القدر أو ذاك- ليس لأزمة وتخلف المجتمع والفكر السياسي العربي ارتباطاً بالمسار التطوري التاريخي المشوه فحسب ، بل ايضا – وبالدرجة الاساسية – الى قصور وعجز احزاب وفصائل اليسار عن صياغة وممارسة قضايا الصراع التناحري ضد العدو الامبريالي الصهيوني من جهة وقضايا الصراع الاجتماعي الطبقي الديمقراطي الداخلي من جهة ثانية ، الامر الذي كان – ومازال – من الطبيعي ان تكبر وتتسع العزلة والفجوات بين قوى اليسار العربي وجماهيرها الشعبية الفقيرة .
(2)
ان ما ينقص قوى اليسار هو الدافعية الذاتية او الشغف والايمان العميق بمبادئه عبر امتلاك الوعي العلمي الثوري في صفوف قواعده وكوادره ، فبينما تتوفر الهمم في أوساط الجماهير الشعبية واستعدادها دوما للمشاركة في النضال بكل اشكاله ضد العدو الامبريالي والصهيوني ، وضد العدو الطبقي المتمثل في انظمة التبعية والتخلف والاستغلال والاستبداد والقمع ، الا ان احزاب وفصائل اليسار لم تستثمر كل ذلك كما ينبغي ولا في حدوده الدنيا ، لأنها عجزت – بسبب ازماتها وتفككهاورخاوتها الفكرية والتنظيمية - عن إنجاز القضايا الأهم في نضالها الثوري ، وهي على سبيل المثال وليس الحصر: اولا – عجزت عن بلورة وتفعيل الافكار المركزية التوحيدية لاعضاءها وكوادرها وقياداتها واقصد بذلك الفكر الماركسي وصيرورته المتطورة المتجددة.ثانيا-عجزت بالتالي عن تشخيص واقع بلدانها ( الاقتصادي السياسي الاجتماعي الثقافي ) ومن ثم عجزت عن ايجاد الحلول اوصياغة البديل الوطني والقومي في الصراع مع العدو الامبريالي الصهيوني من ناحية وعن صياغة البديل الديمقراطي الاشتراكي التوحيدي الجامع لجماهير الفقراء وكل المضطهدين من ناحية ثانية .ثالثا - عجزت عن بناء ومراكمة عملية الوعي الثوري في صفوف اعضاءها وكوادرها وقياداتها ليس بهويتهم الفكرية الماركسية ومنهجها المادي الجدلي فحسب بل ايضا عجزت عن توعيتهم بتفاصيل واقعهم الطبقي ( الاقتصاد، الصناعة ، الزراعة ، المياه ، البترودولار ، الفقر والبطالة والقوى العاملة، الكومبرادور وبقية الشرائح الراسمالية الرثة والطفيلية ، قضايا المرأة والشباب ، قضايا ومفاهيم الصراع الطبقي والتنوير والحداثة والديمقراطية والتخلف والتبعية والتقدم والثورة....الخ )فالوعي والايمان الثوري ( العاطفي والعقلاني معا ) لدى كل رفيقة ورفيق، بالهوية الفكرية وبضرورة تغيير الواقع المهزوم والثورة عليه ، هما القوة الدافعة لاي حزب او فصيل يساري ، وهما ايضا الشرط الوحيد صوب خروج هذه الاحزاب من ازماتها ،وصوب تقدمها وتوسعها وانتشارها في اوساط جماهيرها على طريق نضالها وانتصارها .
(3)
أرى أن أزمة الماركسية عندنا، تتجلى في كونها تعيش حالة قطيعة أو إرباك مع تراثها، ارتباطاً بالأزمة الفكرية لدى أحزاب اليسار العربي، وهذه الأزمة أسهمت في ضياع بوصلة تلك الأحزاب، الفكرية والسياسية، ليس بسبب التبعية الميكانيكية تاريخياً للمركز في موسكو، أو بسبب الوعي المسطح أو البسيط على مستوى الاعضاء فحسب، بل أيضاً بسبب هشاشة وضعف الوعي في معظم الهيئات القيادية ، التي عاشت نوعاً من غياب الوعي الماركسي أو اللامبالاه – والرفض العلني أو المبطن- للفكر الماركسي، إلى جانب الاغتراب أو العزلة عن قواعدها التنظيمية وجماهيرها، فضلاً عن حالة الجمود الفكري والتنظيمي البيروقراطي و تراكم المصالح الطبقية الانتهازية بتأثير العلاقة مع هذه السلطة أو هذا النظام أو ذاك.
كما تجلت الأزمة أيضاً ، في المنتسبين إلى هذه الأحزاب وهيئاتها القيادية، لا سيما ضعف وعيهم للدور الذي على الماركسية أن تقوم به في مجتمع متأخر تابع ومستباح، وبالتالي الضعف الشديد لتأثيرهم أو غيابه في أوساط الجماهير ، بدليل اشتعال الانتفاضات العربية دونما أي دور ملموس لأحزاب وقوى اليسار فيها ، التي غيبت نفسها بسبب تفاقم أزماتها ، وعجزها وقصورها الذاتي على الرغم من نضج الظروف الموضوعية المتمثلة في الاستلاب الوطني الناجم عن وجود القواعد العسكرية والاحتلال الصهيوني من جهة وفي الاستلاب والاستبداد الطبقي الناجم عن شدة بشاعة استغلال الطبقة الحاكمة وحلفائها لجماهير الفقراء اللذين خرجوا بالملايين مشاركين في الانتفاضة بصورة عفوية ، سرعان ما احتضنتها قوى الإسلام السياسي والقوى الليبرالية ، إلى جانب قوى الثورة المضادة ، في ظل غياب محزن للطليعة اليسارية المدافعة عن أماني وأهداف الجماهير .
(4)
صحيح أن الماركسية هي منهج أفكار ماركس , و "مذهبه" ، لكن علينا أن ندرك أن كل من الأفكار، و"المذهب"، محدودان ومحددان بالزمان والمكان، ولذلك فإن أهم مظهر من مظاهر أزمة الماركسية في بلادنا ، هو جمودها على النص القديم او "المذهب"، وافتقارها أو عجزها عن التعامل مع روح المنهج المادي الجدلي وجوهره التاريخي، وبالتالي عجزها عن اكتشاف جدل الواقع العربي ذاته وميول تطوره، إذ لا يمكن موضوعياً الحديث عن المنهج المادي الجدلي بدون الماركسية، وبالتالي فإن الهروب من الماركسية ,والاكتفاء بالمنهج الجدلي فقط !!خطوة تؤشر على نزعة انتهازية تسعى إلى الهروب من التراث الماركسي كله ، وهي أيضاً خطوة تؤكد على انتصار التيار الليبرالي الانتهازي الرث داخل هذه الأحزاب من جهة، أو تجسيد للنزعة التحريفية او لعدم الوعي بأهمية اعتماد الماركسية ( كنظرية علمية تاريخية وفلسفية اقتصاديية اجتماعية )كشرط للتعاطي مع المنهج المادي الجدلي من جهة ثانية، إذ أن معنى ذلك الشطب للماركسية، ليس استجابة للقوى الراسمالية والليبرالية ولتيارات وحركات الاسلام السياسي الرجعية وغيرهم من أعداء الماركسية في المشهد السياسي العربي الراهن فحسب، بل هي أيضاً إزاحة مفاهيم الصراع الوطني والقومي الكفاحي باسم السلام المزعوم ،وإزاحة مفاهيم وآليات الصراع الطبقي وفائض القيمة والتحليل الاقتصادي والطبقي لكل مظاهر الاستغلال من أجل تجاوزها . وفي هذا الجانب أشير إلى أن جمود الفصائل والأحزاب اليسارية لم يكن متوقفاً عند نصوص ماركس ولينين فحسب، بل كان ممتداً ومنتشراً بحيث أصاب روح التغيير الديمقراطي الثوري لدى قيادات هذه الأحزاب، التي باتت قيادات متكلسة ضحلة الوعي وعاجزة عن ممارسة اي شكل من اشكال التواصل والتجدد التنظيمي والمعرفي الجدلي بالمعنى الثوري الارتقائي ،الامر الذي انعكس سلبا على عموم اعضاء الحزب ، من حيث غياب الوعي بالنظرية والواقع المعاش ، ومن حيث غياب الدافعية الذاتية والاخلاق الثورية لدى معظمهم ، ففي غياب الوعي والاخلاق والدافعية لدى الاعضاء لا يكون مستغربا في مثل هذه الاحوال أن تتراكم الازمات الداخلية – ذات الطابع الشللي المشخصن - بكل مظاهرها الفكرية والسياسية والتنظيمية دون أي مخرج – امام القيادات البيروقراطية المتكلسة والهابطة سياسيا وفكريا في قسم كبير منها- سوى اللجوء إلى إدارة الأزمة بأزمة أخرى أشد بشاعة، عبر مزيد من التكتلات والشلل، والمحاسيب ، مما ادى إلى تفاقم الأوضاع المأزومة، التي انتجت بدورها مزيداً من التراجع والعزلة وتراجع الافكار والمبادىء الثورية ، وانتشار حالة من التشكيك بالماركسية ومنهجها او الارتداد عنهما وظهور حالة مأزومة من الارباك والفوضى الفكرية، ولجوء بعض هذه الأحزاب إلى الأفكار والسياسات الليبرالية -والمظاهر الدينية احيانا - لتبرر فشلها وانتهازيتها وهبوطها السياسي والفكري ورخاوتها التنظيمية ، الأمر الذي ينذر باسدال الستار عليها ، وولادة الجديد الثوري البديل ،إذا لم تبدأ عملية مراجعة نقدية – من كوادرها و قواعدها الرافضة لهذا المآل – تطال كافة مظاهر وشخوص الهبوط والتراجع، فالحزب يقوى بتطهير نفسه ، وتلك خطوة لا بد منها في احزاب وفصائل اليسار العربي ، باتجاه اجراء التغيير البنيوي فيها ، واحياء مبادىء ومنطلقات الحزب الثورية بالمعنى الماركسي العلمي المتجدد وفق المنهج المادي الجدلي ومن ثم الاندماج الحقيقي في مسامات ومكونات الواقع بكل جوانبه السياسية والاقتصادية والمجتمعية من على ارضية الصراع الوطني / القومي التحرري وارضية الصراع الطبقي في آن واحد.
(5)
تبرز الاشتراكية اليوم ، كضرورة ما تزال تتطلع إليها هذه الأوضاع التي تزداد تردياً في حياة شعوب بلادنا العربية.
في إطار هذه الضرورة، ووعينا لها، يتوجب على فصائل واحزاب اليسار تبني الماركسية كمنهج للتحليل وكنظرية في التغيير الثوري، خاضعة للتطور والاغتناء ارتباطاً بالمتغيرات الاجتماعية والاقتصادية والسياسية، وبالاستفادة من التقدم الهائل في علوم التكنولوجيا والاتصال والفضاء والهندسة الوراثية والفيزياء والطب وعلوم السياسة والمجتمع، وفي هذا السياق، أشير إلى المسار التطوري للفكر الماركسي ما بعد لينين عبر العديد من المفكرين والقادة من أمثال تروتسكي و جورج لوكاتش، ومدرسة فرنكفورت، هوركهيمر ، ادورنو ، وهربرت ماركيوزه وماوتسي تونج، وجرامشي،موريس توريز ، والتوسير، وهابرماس، ونعوم تشومسكي ، وجورج لابيكا، ودانييل بن سعيد، ، وجون مولينو...إلخ، إلى جانب العديد من المفكرين والمثقفين في أمريكا اللاتينية وأسيا وفي بلادنا العربية من أمثال شبلي شميل ، شهدي عطية ، د.فؤاد مرسي، امين عز الدين ،احمد صادق سعد ،محمود أمين العالم،فؤاد نصار ،بشير البرغوثي، اميل توما ،عبد العظيم انيس ، مهدي عامل، سمير أمين، رمزي زكي ، ميشيل كامل ،اسماعيل صبري عبدالله، اديب ديمتري ،ابو سيف يوسف ،وحسين مروه، إلياس مرقص ، جورج طرابيشي ، بو علي ياسين ، جورج حاوي ، توفيق سلوم ، وصادق العظم ،هادي العلوي ، جلبير أشقر، فوزي منصور، هشام غصيب، وماهر الشريف، عبد الباسط عبد المعطي، عبد الله العروي، ياسين الحافظ، بو علي ياسين ،هشام جعيط ، كمال عبد اللطيف ، عبداللة الحريف ،سلامة كيلة، سعيد بن سعيد العلوي وفيصل دراج ومحمد دكروب وفواز طرابلسي وغيرهم، الذين قدموا اضافات اغنت الماركسية كنظرية في التغيير الثوري وكمنهج للتحليل.
من أجل ذلك، علينا أن نتواصل في الحوار،و أن نسعى إلى بلورة وتعميق وتطوير واغناء رؤية احزابنا وفصائلنا للماركسية ومنهجها بهدف الاسترشاد بها في تحليل وتغيير الواقع، وقراءة الظواهر الاجتماعية والسياسية والاقتصادية وفق معطيات المنهج المادي الجدلي وبالاستناد إلى كل ما هو تقدمي وديمقراطي وإنساني في التراث الفكري والثقافي لشعوبنا ومجتمعاتنا العربية والإنسانية جمعاء على طريق النهوض المأمول لليسار الماركسي العربي واسترداده لدوره الطليعي الثوري الديمقراطي في مسيرة النضال من اجل اسقاط انظمة الاستبداد والتبعية والتخلف وتحقيق اهداف الثورة الوطنية الديمقراطية بافاقها الاشتراكية طريقا وحيدا لانهاء الوجود الامبريالي الصهيوني واجتثاثه من بلادنا.