الصراع الطبقي في مصر من سنة 1945 الى سنة-;-1968 – لمحمود حسين


عبد الكريم الظفري
2013 / 7 / 25 - 21:55     

صدر هذا المقال بقلم عبد الكريم الظفري في مجلة (أنفاس) بالفرنسية _ عدد 18 (فاتح ماي 1970)
وقد ارتأينا ترجمة هذا المقال ونشره بالعربية نظرا لاهمية الكتاب الذي يتناول بالعرض. خصوصا وأن الكتاب غير موجود بالعربية ولا زال قيد الترجمة في الشرق ونحن آسفون لاضطرارنا الى نشر المقال في حلقتين
على الحمراوي

غداة الحرب العالمية الثانية، كانت الطبقة العاملة مؤهلة موضوعيا للنهوض بدورها الطليعي نظرا لقوتها العددية المرتفعة نسبيا. بالقياس الى حجم بقية الطبقات الكادحة. ونظرا لعراقة تقاليدها في النضال السياسي آنذاك . ففي نفس الحقبة التاريخية استطاعت البروليتاريا الصينية رغم ضآلتها العددية توحيد نضال جميع طبقات الشعب الصيني والاستيلاء على السلطة المركزية.
لم تكن هناك اذن سنة 1950 أية ضرورة موضوعية لفرض الطريق الرأسمالي على مصر ، بل على العكس كانت جميع التناقضات الموضوعية تستدعي حلا بروليتاريا للازمة الرأسمالية.
وما كان النظام الناصري ليفرض نفسه في خضم تناقضات المجتمع المصري الا بفعل ظرف خاص.
وقد جسد النظام الناصري الحل البرجوازي الوحيد لازمة التحول الاقتصادي والسياسي أمام حركة الجماهير المتصاعدة.
ان هذه الخلاصة التي يتوصل إليها محمود حسين من سياق تحليل ضافي وجدي للتركيب الطبقي بعد الحرب العالمية الثانية في مصر ، لتدعونا للعودة إلى طرح مسألة البينات الفوقية الإيديولوجية والسياسية للمجتمع (وهي مسألة ذات مدى عام) قصد تعميق صيرورة أزمة التحول من الإقطاعية إلى الرأسمالية.
إذا كان كبار الملاكين العقاريين يشكلون سنة 1945 الركيزة الأساسية للطبقة الحاكمة في مصر.
فان العلاقات السائدة لم تكن مع ذلك علاقات رأسمالية محضة. فالسيطرة الامبريالية من جهة ومصالح طبقة كبار الملاكين من جهة ثانية كانت تحول دون تطور قوى الإنتاج باتجاه تكريس أسلوب الإنتاج الرأسمالي وكانت بالتالي تطمس امكانية دمج الجماهير الواسعة المحرومة في حلبة الاستغلال الرأسمالي على نحو متصاعد.
ان عدم انبثاق برجوازية متوسطة مصرية جعل البلاد تتخصص في الزراعة الموجهة للتصدير، وحال دون توسع الميكانيك في الانتاج. وقد ساعد هذا على استمرار بنيات فوقية ايديولوجية وسياسية. من نوع شبه رأسمالية.
وضمنت تلك البنيات الفوقية بدورها استمرار الهيمنة البريطانية وامتيازات الطبقات المستفيدة من فتاة مصالح الامبريالية. ذلك ان المصالح الامبريالية بالذات هي التي حددت اطار النشاطات الاقتصادية الذي لم يبق للبرجوازية المصرية الا ان تدور داخله. وبعبارة أخرى لم يكن تراكم الثورات في هذا الإطار يلعب دور التراكم الرأسمالي البدائي : فهو دون إعطاء أية استثمارات منتجة . ظل يخدم استمرار امتيازات كبار الملاكين العقاريين بما في ذلك المول ونفقات الابهة ونمط العيش الارسطقراطي إلخ ...
وفوق ذلك فإن الشرط الحيوي لتغيير صيرورة الانتاج نفسها . أي الفصل التام بين العمل ومجموع وسائل العمل أو بين العمل ووسائله في الانتاج . ظل منعدما ، ذلك أن العمال في ذلك العهد ظلو غالبا يستعملون أدوات فردية في أراضي كبار الملاكين رغم تدهور العلاقات الاقطاعية المحضة.
لم يكن هناك تكريس لعلاقة ثابثة بين من يملكون الرأسمال ومن يبيعون قوة العمل . فلم يكن هناك الا ملاكون كبار في طريق التحور الرأسمالي من جهة . وجماهير عريضة محرومة في طريق التحول الى بروليتاريا من جهة ثانية.
ونجد نفس هذا الطمس لصيرورة تطور الرأسمال على مستوى فئة «رجال الأعمال»، أيضا.
فالبرجوازية الكبرى ، مصرية كانت أم «متمصرة». لم تكن تحتل الا مواقع مالية مكملة للشبكة المالية الأوروبية. ومن أجل صيانة أرباحها الضخمة والسريعة ، اضطرت هذه البرجوازية الى الانغماس في ممارسة السمسرة والنشاطات الغير المنتجة كالأبناك والتصدير والإستيراد وشركات التأمين ومقاولات البناء ... وحافزها في ذلك هو عجزها عن التصدي لمتطلبات السيطرة الأجنبية وكذا نشأتها على أسس احتكارية حددتها كبريات الشركات الأجنبية وجعلتها تماوجات السوق العالمية ضعيفة الاستقرار.
أما البرجوازية المتوسطة فغير مائلة بثاثا للتجديد . وذلك لان أصلها أساسا فلاحي ، وهي مفتقرة للروح الرأسمالية وفكر « الأعمال » ، ولذا ظلت متضامنة مع الهياكل الطبقية القائمة خصوصا وأنها تتكون من أغلبية فلاحين أغنياء متشبثين بأشكال الإنتاج العتيقة وإنها ضعيفة التواجد في المراكز الحضرية . ومع ذلك لم تنعدم التناقضات بين أكثر فئات البرجوازية المتوسطة تفتحا من جهة وبين المصالح الأجنبية والمحلية المسيطرة على اقتصاد البلاد من جهة ثانية . وبما أنه لم تكن بيد هذه الفئات تلك الأجهزة المالية والسياسية التي تتمتع بها الطبقة السائدة فان هذه الفئات صارت بالتالي ترفض الاكتفاء بالمقاعد الجانبية وتطمح إلى التغييرات الإدارية والسياسية الضرورية للدفع باقتصاد البلاد الى النمو بديناميكية أكبر.
هكذا صارت هذه الفئات بدافع من مصالحها تعيد النظر في نظام تشله أكثر فأكثر ارتباطاته بالامبريالية البريطانية وركيزتها المحلية طبقة كبار الملاكين المحافظين اقتصاديا. تلك الارتباطات التي كان زمامها خارج متناول البرجوازية المتوسطة كلية.
وفي مواجهة تلك المصالح الإمبريالية والمحلية صارت البرجوازية المتوسطة ترغب في إصلاحات سياسية واقتصادية وإدارية للنظام القائم . انطلاقا من إصلاح زراعي يحد من سطوة طبقة كبار الملاكين ويؤدي الى توسيع السوق الداخلية.
ومع ذلك لابد من شرط حيوي وحاسم وهو أن تطرأ هذه الاصلاحات خارج أية مبادرة من جانب الجماهير المحرومة . أي بطريقة استبدادية تضمن في نفس الوقت كبت حركة الجماهير وتطبيق الاصلاحات الجديدة بحيث لا تؤدي التدابير الموجهة ضد ملكية طبقات كبار الملاكين الى التشجيع السياسي أو التقوية الإديولوجية لروح الثورة عند الجماهير الشعبية.
وبالمقارنة مع الطبقات السالفة الذكر ، المنسجمة نسبيا ، فإن البرجوازية الصغيرة المصرية تتوفر على إنسجام أضعف وتعيش وضعية تمزق بين التأثير الإيديولوجي المتناقض مع جانب الطبقات الاستغلالية ومن جانب الطبقات المعرضة للإستغلال المباشر.
ويرى محمود حسين أن البرجوازية الصغيرة تتكون من كل الذين ، يملكون رأسمال صغير أو قطعة أرض صغيرة او تكونا مهنيا مختصا ومستوى ثقافيا معينا، يسمح لهم بكسب عيشتهم من مجهود عملهم ومن ثمرة وسيلة عملهم المالية أو التقنية أو الثقافية ، دون أن يحتاجوا إلى بيع قوة عملهم للغير ودون شراء قوة عمل الغير ، اللهم بشكل ثانوي.
وبصفتها طبقة تتمتع ببعض الامتيازات بالنسبة للطبقات المحرومة ، فبوسعها أن تطمح إلى إستغلال آخرين (أي أنها تحمل بذور ميولات رأسمالية) وبصفتها طبقة نشيطة تعيش من مردود عملها ، ولأن عملها هذا فردي شديد التشتت وخاضع للضغط الدائم من جانب الطبقات السائدة ، ولأنها عاجزة عن الدفاع عن نفسها أمام سطوة تلك الطبقات، فإن البرجوازية الصغيرة تتقرب من الطبقات المحرومة.
أما عن التمايزات داخل هذه الطبقة ، فهناك أولا خط إختلاف بين البرجوازية الصغرى القروية العائمة في جو إيديولوجي ضعيف القابلية للتغير من جهة ، والبرجوازية الصغرى الحضرية التي تتمتع بإمكانيات أوسع للصعود الاجتماعي والتفتح الرأسمالي، وهناك ثانيا خط إختلاف بين الفئات التي تمارس العمل اليدوي كالفلاحين المتوسطين من جهة والفئات التي تمارس العمل الثقافي كأهل المهن الليبرالية والتقنيين وحتى الموظفين والمستخدمين من جهة ثانية.
وهذه الظواهر المتناقضة تلتقي ديناميكيا لتجعل من البرجوازية الصغرى مصدر تخوف وعدم إطمئنان بالنسبة للطبقات السائدة.
ويختلف الأمر بالنسبة لنخبة البرجوازية الصغرى. ذلك أن هذه الفئة تأتي لها ان تحتل مواقع دقيقة بفعل اختصاصاتها وبفضل التكوين الطبقي الذي تلقته خلال خدمتها في قلب أجهزة الإستغلال والقمع ( كالضباط مثلا) . وهذه المواقع تجعل تلك الفئة النخبوية مؤهلة ايديولوجيا وتقنيا لترتفع بنفسها الى مراكز القيادة ولتندمج مع الطبقة الرأسمالية ، لو تم تكسير عوائق التحول. وفي آخر التحليل نجد أن تلك الرغبة الجامحة في الصعود الاجتماعي هي التي تجعل النخبة المعينة شديدة العداء إتجاه كل ما يضيق آفاقها، من نفوذ أجنبي وأرستقراطية عقارية وموظفين ساميين. لكن طموحات الصعود تعطي بالضرورة الميل لمعادات الجماهير ، وتفضيل إجراء كل التغييرات دون أن تثأتى للجماهير الشعبية إمكانية الإستفادة منها فوق ما تحدد النخبة.
أما الطلبة فمسألتهم خاصة إذ لا يحتلون موقعا محددا وثابثا في الهيكل الإجتماعي وإذ يكادون يحتكرون النشاط الثقافي وسط الطبقات الشعبية.

البروليتاريا والجماهير الشبه بروليتارية
غداة الحرب العالمية الكبرى لم تكن البروليتاريا الصناعية تمثل إلا نسبة %3 من مجموع السكان و10 % من السكان الحضريين في مصر . غير أن البروليتاريا المصرية تتوفر على تقاليد النضال ضد الإمبريالية وضد الرأسمالية. فقد مارست منذ سنة 1924 أسلوب نضال جذري وغير معروف من ذي قبل وهو أسلوب احتلال المضانع ( كما وقع في مطروح والإسكندرية والزقازيق ...) إن احتكاك البروليتاريا بوسائل الإنتاج الميكانيكية، وما ينتج عنه من طلاق تام مع الملكية الخاصة لوسائل الانتاج ، يجعل منها عدوة لكل أشكال الإستغلال ، ويجعلها قادرة أيضا على تجاوز الفردية التي تلقنها الثقافة السائدة. ولذا تعطي البروليتاريا الأولوية لمصالح الجماعة على مصلحة الفرد ، وتتحلى بروح التضامن الفعال وتعرف كيف تستوعب تجربة الغير.
أما الجماهير الشبه بروليتارية فلم تتحرر جذريا من شبكة القيم الإقطاعية ، وخاصة في البادية.
وتعبر وضعية هذه الطبقات في القطب الذي تحتله في المجتمع عن نفس ما تعبر عنه وضعية الطبقات المالكة في القطب الآخر: إذ في كلتا الحالتين وضعية تحول مكبوت، كما يصور ذلك محمود حسين يحذق كبير.
ورغم أن الطبقات الشبه بروليتارية تحمل ثورية جارفة، فإنها لم تصل بعد حد القطيعة النهائية في جميع أشكال الإستغلال الرأسمالي. بل هي على العكس قابلة لمثل هذا الإستغلال. ونظام التبعية والتحول المكبوت هو الذي احالها على التشرد. وليست هي التي نازعته في الأصل.
وتكمن نقطة الضعف الأساسية عند هذه الجماهير الشبه بروليتارية في عدم قابليتها للتنظيم. ذلك أن شكل عيش هذه الطبقات ذاته هو الذي يجعلها متشتتة وموزعة إلى أفراد ، وجماعات عائلية وعشائر وغيرها ، (كما هو حال الفلاحين الصغار ، والعمال الزراعيين ، والعمال بدون مهنة وخدم العائلات ، والبائعين المتجولين ، أي ما يمثل الأغلبية المطلقة من السكان في البادية كما في المدينة).
ورغم أن حركة الإنتفاضات التي سجلتها هذه الطبقات سنة 1952 أتسمت بالعنف الشديد والتهديم، فإنها ظلت محكوما عليها بالفشل نظرا لحدودها كالإنعزال ، والتفاوت الزمني. وقد أتاح ذلك للطبقات الحاكمة فرصة خنق تلك الإنتفاضات بالقمع والديماغوجية معا ، دون أن تحظي بحركة تضامنية على الصعيد الوطني.
والواقع أن هذه الجماهير لا يسعها أن تغدو خطرا جذريا على الطبقات السائدة ، إلا بقدر ما تعرف كيف تلتقي مع الحركة العمالية الصناعية وتدعمها.

الإفلاس السياسي للطبقة السائدة
أنهكت الحرب العالمية قوى الإمبريالية الفرنسية والبريطانية وتفاقمت أزمة الرأسمالية العالمية من جراء تقلص السوق العالمية وبفعل تصاعد المد الثوري لشعوب المستعمرات. ولم تلبث هذه الظواهر أن صارت لها تأثيرات هامة على دول شمال إفريقيا.
وفي مصر ، بدأت تنمو بسرعة وجنبا إلى جنب مع الحركة الوطنية المناهضة للنفوذ الإمبريالي ، حركة ديمقراطية معادية للطبقات المحلية السائدة التي إتخذت تبعيتها للإمبريالية شكل الخيانة العظمى للوطن بكل وضوح إبان حرب فلسطين الأولى.
وإزاء تصاعد الحركة الجماهيرية ، إنفضح عجز الطبقات الحاكمة عن إيجاد مخرج من الأزمة. وبذات الوقت صارت هذه الطبقات تنقسم إلى عدد من التيارات بفعل إفتقارها إلى التنظيم وغياب أحزاب سياسية خاصة بها وقادرة على وضع رؤية سياسية منسجمة. ومن بين تلك التيارات:
_ الإتجاه الرستقراطي المقرب من البلاط.
_ الإتجاه الوطني الذي يطالب بتوسيع مجالات الإقتصاد وب«تمصير» مرافق الدولة، «ويعكس حزب الوفد هذا الإتجاه تقريبا».
_ الإتجاه التجديدي (العصري) وهو أكثر من الإتجاهين السابقين نشاطا، فبينما يراوغ الإتجاه الثاني ويهدف الاستفادة من الحركة الوطنية وإستغلالها يعلن الإتجاه الأخير علانية معاداته للوطنية والديمقراطية ويرفض أن يقبل أدنى مساس بإمتيازاته وبإرتباطاته مع الإحتكارات الإمبريالية ، وإن كان على استعداد للتضحية ببعض من مصالح كبار العقاريين. كما يرفض هذا الإتجاه تصور التنمية الصناعية إلا ضمن التبعية الكاملة للإمبريالية على الصعيد السياسي والتقني والمالي.
أما حزب الوفد فقد أمكنه أن يتحلى زمنا بلقب «حزب الامة» بينما لم يكن في الواقع الا حلقة من شبكة الاعدادات الموجهة لتضليل الحركة الثورية عن الطريق الصحيح. وعندما صعد الوفد الى السلطة تبدد الغموض الذي كان ينشره التفكك السياسي. ذلك أن الوفد لم يلبث أن انفضح عجزه عن التنازل لأتخاذ أدنى التدابير التي كانت الوضعية السياسية القائمة تستدعيها (جلاء الإنجليز ، الإصلاح الزراعي، إعادة النظر في إمتيازات الأرستقراطية)، تلك التدابير التي كانت وحدها كفيلة بطمأنة الجماهير. وفي غمار الأزمة التي صار سجينا لها وعجل بإنفجارها، سقط الوفد بعد حين مع الأرستقراطية في الداهية تحت الضربات الأولى للحركة الجماهيرية.
وفي القطب الآخر من المجتمع المصري ، أفتقرت الطبقات الكادحة من جهتها الى البنيات السياسية والتنظيمية الكفيلة بتمثيلها عن حق ، والقادرة على الأرتفاع بمدها الثوري وإعطائه كل الابعاد التي كانت تخولها الوضعية السياسية.

تصاعد الحركة الجماهيرية
تميزت الفترة الممتدة من سنة 1945 الى سنة 1947 بالتقاء الحركة العمالية بالحركة الطلابية:
ففي سنة 1946 بلغت أوجها المظاهرات الجماهيرية والإضرابات المصحوبة باحتلال المصانع وكذا الاشكال الفردية المباشرة للعنف كالعمليات الإرهابية . ولا شك أن أهم حدث سياسي عرفته هذه المرحلة الأولى هو تأسيس اللجنة الوطنية للعمال والطلبة في شهر فبراير 1946 أي بعد أيام قلائل من قيام الشرطة بفتح قنطرة عباس في الوقت الذي بدأت فيها مظاهرة طلابية تطالب بالجلاء ، خلف الحادث كثيرا من الضحايا وفي 21 فبراير نظمت اللجنة مظاهرة كبرى ودعت إلى الإضراب العام وانفجر حنق الطبقة الحاكمة. فآلت مظاهرة القاهرة الى مجزرة شنيعة استقبل فيها الجنود البريطانيون المتظاهرين بالرشاشات في ساحة الإسماعيلية، وعمت البلاد موجة عارمة من القمع إذ صار الإعتقال يشمل آلاف المناضلين العمال والطلاب، وتعرضت اللجنة الوطنية للتقويض . ومنذئذ دخلت مظاهرة القاهرة في الحركة العالمية المعادية للإمبريالية التي صارت منذ سنة 1950 تحيي ذكراها في 21 فبراير من كل سنة.
وبعد فترة ظلت فيها الحركة الوطنية فاقدة الاتجاه من جراء القمع ، بدأت تحاول تنظيم نفسها من جديد ، عندما اندلعت حرب فلسطين الأولى واضعة في يد القصر والأنجليز فرصة لتمسك بزمام المبادرة من جديد.
في هذه المرحلة من التحليل تشتد صرامة الكاتب(والدواعي واضحة).
لقد كان الكيان الصهيوني وما يزال عدوا حقيقيا للشعب المصري والشعوب التواقة للتحرر عامة. وعلى عكس ما يدعي البعض، فإن الإمبريالية والملك فاروق لم يكونا في حاجة إلى (اختلاق) عدو آخر (الكيان الصهيوني) لتحويل سخط الشعب عليهما إلى اتجاه آخر. حقا أن الإمبريالية البريطانية عملت على توجيه كل طاقات شعوب شمال إفريقيا ضد الكيان الصهيوني، في محاولة لتضليل الحركة الجماهيرية التي كانت تسدد سهامها الرئيسية إلى العدو الإنجليزي، حقا ان الملك فاروق وجدها فرصة ثمينة لركوب قيادة الحركة الوطنية في محاولة لاستعادة نفوذه المنهار، ومع ذلك فإن الكيان الصهيوني كان عدوا فعليا وحقيقيا ، وهكذا كان يراه الشعب المصري.
لكن توجيه العضب الشعبي في مصب حرب كلاسيكية بين دول ، وبالتالي محو الشعب الفلسطيني ومحو الشعوب الأخرى في آن معا، كان يهدف منه الإمبرياليون والملك فاروق إلى دفع الشعب المصري لحرب ليست حربه الخاصة ، بل ، وهذا أدهى في حرب تخنق كفاحة الخاص : الكفاح الشعبي ضد الإمبريالية البريطانية والتضامن النضالي في القواعد بين الشعب المصري والشعب الفلسطيني.
وقد كانت لهزيمة الجيش المصري المرتقبة ثلاث نتائج هامة:
1. لم يكن بوسع الجماهير المصرية أن تستقصي بالملموس الأسباب الطبقية للهزيمة ، وهذا الذي أوحى لها بإحساس داخلي بالضعف الذاتي. وكان هذا عنصرا حاسما في تكريس السيطرة الأجنبية والرجعية.
2. توفرت الظروف المواتية لتبلور قوة النخبة البرجوازية في قلب الجيش الذي وضعته الحرب في الواجهة الأمامية. ويتعلق الأمر «بالضباط الأحرار» الذين تلتقي نظرتهم السياسية مع مطامح العصريين أو التجديديين كما سنرى.
3. وفي المدى القصير ، أدت الهزيمة إلى توحيد كل قوى الحركة الوطنية للجماهير ضد الأعداء الداخليين الذي اعتبرتهم مسؤولين عن الهزيمة. ففي هذه الفترة بدأت جماعات حرب العصابات تنظم نفسها، وصارت المصالح البريطانية تتعرض للنسف. كما شهدت هذه الفترة إضرابات عمالية وانتفاضات فلاحية. وأخيرا كان حريق القاهرة الذي يعتبره محمود حسين حدثا شديد الأهمية:
-;- لأنه أولا يعبر بعنفه عن الحاجة الموضوعية عند الجماهير الحضرية المحرومة للمشاركة مباشرة في الحركة الوطنية في الوقت الذي تجاوزت جميع الأطر التقليدية لتلك الحركة من وفديين ووطنيين وشيوعيين.
-;- لأنه ثانيا ، وبغض النظر عن السخط المفرط والحتمي على كل ما هو أجنبي ، كان رميا إلى الجحيم بالمراقص وقاعات السينما الفخمة ، والمتاجر الكبرى والأبناك التي كان يملكها جميعا إما البريطانيون وإما يهود يختالون علانية بالنصر الصهيوني، وإما أصحاب الملايير المحليون ، وقد كان الحريق إذن ضربة جماهيرية خالصة ضد أعداء الشعب.
وكان للطابع الانتفاضي لحريق القاهرة وللتصاعد الدائم لحركة الجماهير خلال هذه الفترة نتيجة غير منتظرة: لقد صارت بريطانيا بعد يأسها من إمكانية استمرار النظام الملكي مستعدة أكثر فأكثر لقبول انقلاب عسكري قادر على ايقاف موجات الحركة الجماهيرية واكتساب جهاز الدولة فعالية جديدة.

النظام الجديد
تظافرت كل هذه العوامل وساعدت ( الضباط الأحرار ) على إنجاز انقلاب 23 يوليو 1952.
وهؤلاء الضباط الذين أظهروا أنفسهم أمام الشعب وكأنهم «رجال ملائكيون» كانوا يحملون رؤية سياسية يمكن تلخيصها في أنهم يرغبون في حل أزمة نمط الإنتاج القائم وإطلاق قدميه ، معتمدين في ذلك على التضحية بجزء ضئيل من الطبقة السائدة ( القسم الأكثر رجعية) ، وكذا على الاتجاه التجديدي في البرجوازية الوثيقة الارتباط بالرساميل الأجنبية.
واعتقد ( الضباط الأحرار ) أن تحقيق مشاريعهم يتطلب أربعة شروط:
-;- توطيد الجيش في جهاز الدولة، باعتباره ركيزة النظام الجديد.
-;- جلاء الجيش البريطاني وكسب بطولة التحرير والتجديد أمام الرأي العام الشعبي.
-;- إجراء إصلاح زراعي يضمن ذبح الجناح المحافظ من الطبقة الحاكمة ويضمن دعم الفلاحين الأغنياء للسلطة الجديدة.
-;- وأخيرا تشجيع الاستثمارات الصناعية ، محلية كانت أم أجنبية.
والواقع أن هذا التفكير يجد جذوره في الوضعية الطبقية للبرجوازية الصغرى العسكرية وما تفرزه من أوهام طبقية ، وأهم الأوهام هذه (تلك التي تعتقد بإمكانية التوصل الى الدفع بالطبقة السائدة للتجاوز ازمتها وتسير بحزم في الطريق الرأسمالي.
وتعتقد بإمكانية دفع الإمبريالية الغربية، «الأمريكية خاصة» إلى المساهمة في تصنيع مصر وحل أزمة الرأسمالية).
لكن هذه الأوهام لم تلبث أن أفسحت المجال عبر الممارسة لرؤية سياسية برجوازية أكثر انسجاما، بقدر ما صارت مصالح برجوازية الدولة النامية تحور الوعي السياسي للضباط الأحرار حسب حاجياتها.
ولم يحظ النظام الجديد بالمساندة من جانب أية طبقة كادحة حيث أن وجهه القمعي الذي أسقط عنه النقاب عندما أعدم البطل العمالي مصطفى خامس ، سار في انفضاح متزايد.
أما المرحلة الثانية من حياة النظام(1958-1955) فقد امتازت بالتحول النوعي الذي طرأ على الوضعية العالمية بفعل العوامل التالية:
-;- ولوج الاتحاد السوفيتي السوق الرأسمالية ومنحه دعما ضخما للنمو الرأسمالي للنخبات البرجوازية والبرجوازية الصغيرة الوطنيتين في البلدان التابعة للامبريالية الغربية.
-;- الازمة المتفجرة التي قامت سنة 1956 بين النظام المصري الجديد من جهة ، والامبرياليتين الانجليزية والفرنسية من جهة ثانية، على أثر العدوان الثلاثي على مصر. فقد استفاد النظام الناصري من الدعم الشعبي الذي حظي به في هذه الازمة فعمل على تقوية احتكاره السياسي داخليا وعلى توسيع المجال المناور خارجيا، كما حصل على درجة من الإستقلال الذاتي على الصعيد الاقتصادي يمكن معها نمو برجوازية الدولة.
أما المرحلة الثالثة ( 1959 _ 1963) فكانت مرحلة انبعاث نسبي للبرجوازية التقليدية التي حاولت أن تفرض على النظام ايقاف المشاريع التصنيعية، بدعم من الدول الغربية.
وكان جواب النظام أن اتخذ تدابير تتيح صعود نخبة برجوازية صغيرة مهمتها انجاز صيرورة التراكم الرأسمالي الموسع بخطى سريعة. وهذا أيضا وهم طبقي.
وفي المرحلة الرابعة (يونيو(1964 _ 1967 صارت البرجوازية الجديدة التي استكملت سيطرتها على وسائل الانتاج تتخبط في التناقضات الناتجة عن وضعيتها الجديدة. فبعد التوجعات التي تطلبها تنفيس الطريق الرأسمالي. دخل هذا الأخير في مرحلة جديدة من أزمته. وقد تجلى عجز النظام الناصري عن الاحتفاظ هذه المرة بميزته الخاصة المتمثلة في استقلاله الذاتي الواسع عن الطبقة السائدة.
لنعد الى النظرية «الناصرية» حيث تتركز على عدد من الغيبيات منها :
1) أن البرجوازية التقليدية تشكل وحدها الطبقة السائدة ومن تم صار العمل على اضعافها تدريجيا يدخل في نطاق مد مناهض للراسمالية.
2) ليس لجهاز الدولة أية طبيعة أو مهمة طبقية، إذ هو، في رأي الناصرية، لا يعدو أن يكون وسيلة محايدة لممارسة الحكم والإدارة والقمع والانتاج وغير ذلك ... أي أنه في النهاية جهاز يضمن التوازن ! وقد أكد محمود حسين على هذه الأفكار المغلوطة وعمل خلال صفحات على توضيح الطابق التضليلي لهذه الإفتراءات.
ورأى المؤلف مؤداه انه في حالة مصر، حيث يمارس جهاز الدولة مهاما اقتصادية ضخمة، تعتبر البرجوازية التي تنشأ في مراكز جهاز الدولة جزءا من الطبقة الحاكمة، ليس بحكم ارتباطاتها التاريخية والعضوية مع ذوي الملكية الخاصة لوسائل الانتاج ، وانما بحكم الدور الحيوي الذي تقوم به في خدمة اسلوب الانتاج الرأسمالي.
هنا اذن ، وكما هو الحال عموما ، تكمن «المهمة الأساسية لجهاز الدولة في ضمان استقرار التركيب الاجتماعي الخاضع للطبقات المستغلة (بكسر الغين) مع الظهور امام الطبقات المضطهدة بمظهر من يمثل مصالحها هي أيضا ».
ولهذا السبب بالضبط ظلت برجوازية الدولة رغم تكامل هيكلها وتفشي انتهازيتها «تظهر على انها انحراف لم يكن الحكم يرغب فيه ولم يلبث الحكم أن يضربه بمجرد ما يستطيع ذلك». هكذا بقيت الجماهير تفصل بين الحكم وبرجوازية الدولة الناشئة.
«وعلى هذا النمو تمكن الحكم أساسا من حماية برجوازية الدولة من الوعي الطبقي للجماهير الشعبية».
لقد جرت هذه التحولات النوعية تدريجيا كما رأينا وسنرى بتتبعنا تحليل الكتاب.
لكي تبلغ تلك التحولات النوعية نضجها الكامل، لابد من توفر شرط اساسي وهو نظام القمع الشامل لكل مبادرة حرة من جانب الجماهير. ولا يتعلق الامر بالقمع العنيف وحده لان الاهم هو المزج بلباقة بين القمع والخداع.
وقد استفاد النظام الناصري بصفة خاصة في هذا المضمار من وضعية عالمية مكنته من تبني لهجة معادية للامبريالية. وانطلق دعاة النظام على الصعيد الداخلي يعممون المفاهيم البرجوازية الخاصة منها مفهوم «الأمة ، كوحدة أساسية لا تتجزأ» «ويلوحون بالشعارات من نوع . لا لكتاتورية طبقة على الاخريات » « ومن أجل محو التمايز بين الطبقات » إلخ ...
وفي ميدان تطويق وتوجيه الضغط الجماهيري ، غالبا ما تبدلت الاشكال التنظيمية التي يقترحها الحكم . والذي لا يجوز نسيانه هو ذلكم المبدأ التعاوني « الذي يحشد العامل اليدوي الغير المتخصص ورئيسه في المشغل معا ، ويخلط الفلاح الفقير بالفلاح الغني ، والمستخدم البسيط بمديره ، إلخ ... ».
ويقوم هذا المبدأ على فكرة أساسية وهي تقسيم المجتمع عموديا حسب النشاط المهني ، سعيا وراء الحيلولة دون توحيد الشعب من القاعدة وحسب المصالح الطبقية.
غير أن تلك الأشكال التنظيمية ، من «تجمع من أجل التحرير » ، ومن «اتحاد اشتراكي عربي» فشلت جميعها لان تنظيماتها التي حملت لقب «الديمقراطية» لم تكن في الحقيقة سوى اجهزة ملحقة بجهاز القمع وشبكات اضافية للضغط.

النظام في بداياته المتعترة
منذ شهر غشت اتضح الطابع الاساسي للحكم كنظام قمع ، عندما هاجم بالعنف اضراب عمال كفر الدوار ، وحكم بالإعدام على الزعيم العمالي الكبير مصطفى خامس وعلى عامل آخر في المصنع محمد البكري.
وسرعان ما صار الشيوعيون وبقية المنظمات الفلاحية والعمالية فرائسا للإضطهاد وأجبرت الحركة النقابية على الصمت.
ثم جاء دور الإخوان المسلمين (والذين تصل بعض ذجورهم الى الجماهير على كل حال بالنسبة للضباط الأحرار) ليتلقو ضربات الجماعة الحاكمة التي حاولت استخدامهم في أول الأمر. وفي سنة 1954 اعلن عن حل تنظيمات الإخوان المسلمين ، والقي بقادتهم في السجن.
وفي القطب الآخر من المجتمع بدأ كبار الملاكين القعاريين يعبرون عن خنقهم نتيجة الإصلاح الزراعي.
وفي هذه الظروف لم يكن هناك من سبيل للتخفيف من حدة غضب جميع الطبقات غير انتظار الإنتخابات وبينما التفت قسم من الضباط الأحرار الى حزب الوفد ، ودخلوا معه في مفاوضات حول تهيء المرور الى نظام مدني برلماني ، انكب عبد الناصر على تقوية مواقعه بفضل ثلاث نجاحات سياسية:
-;- جلاء الجيش البريطاني الذي جاء نتيجة مفاوضات انتهت بالسماح لبريطانيا في مقابل قبولها بالجلاء ، بالإحتفاظ بسيادة اقتصادية ذات مدى أطول.
-;- الحصول على أسلحة اتشيكية من شأنها رفع طاقة الجيش المصري في وجه الجيش الصهيوني.
وإن كانت تلك الأسلحة يراد منها في الواقع إنعاش الجيش بشيء من الصيت والنفوذ لدى الجماهير.
-;- تصفية تنظيم الإخوان المسلمين كآخر منظمة قادرة على تهديد النظام.
وفي سنة 1955 لم يعد هناك من معارضة سوى من جانب البرجوازية التقليدية التي تصر على رفض استثمار اموالها في الصناعة رغم أنها فقدت الاملاك العقارية التي كانت في حوزتها . « غير أنها لم تكن تحارب الحكم باعتباره ممثلا لمصالح الشعب وانما باعتباره ممثلا غير مقبول لمصالحها الخاصة ».
كيف انبثقت برجوازية الدولة؟
ماهي تناقضات النظام وخلفيات هزيمة يونيو 1967؟
ماهي التناقضات بين الجماهير الشعبية والطبقة الحاكمة؟
ماهو مضمون حركة الجماهير وماهي آفاقها؟
يتبع