أربعة أيام هزت العالم


سامح نجيب
2013 / 7 / 5 - 07:09     


ما حدث يوم 30 يونيو هو بلا أدنى شك بداية تاريخية لموجة جديدة من موجات الثورة المصرية، بل أنها الموجة الأكبر منذ يناير 2011. وقد قدرت أعداد الجماهير التي تظاهرت في ذلك اليوم الأسطوري بما يتجاوز 17 مليون مواطن وهو حدث غير مسبوق تاريخياً. وهو يتجاوز في مغزاه مشاركة الفلول أو التأييد الظاهري للجيش والشرطة. فالمظاهرات الجماهيرية المليونية أحداث شديدة الندرة في التاريخ البشري وتأثيرها على وعي وثقة الجماهير في أنفسهم وفي قدرتهم على تغيير مسار التاريخ يتجاوز حدود الشعارات المرفوعة والبدائل السياسية المطروحة.

نعم أرادت النخبة البرجوازية الليبرالية استخدام هذا الزخم الجماهيري للإطاحة بحكم النخبة الإسلامية ليصلوا هم الحكم بتأييد ودعم المؤسسة العسكرية. وصحيح أن الفلول يريدون العودة إلى الساحة السياسية من خلال هذه الموجة الثورية الجديدة. ولكن للثورات الجماهيرية منطقاً خاصاً غير قابل للخضوع لأوهام ومخططات الليبرالية والفلول حتى وإن تأثرت قطاعات من تلك الجماهير بشكل مؤقت بشعارات ووعود تلك النخب كما تأثرت من قبل بشعارات ووعود النخب الإسلامية. نعم هناك تأثر بالحملة الإعلامية والدعائية الضخمة التي تقوم بها قطاع الطبقة الحاكمة المعادي للإخوان حول وقوف الجيش والشرطة مع الشعب وحول حيادتهم ووطنيتهم بل وثوريتهم! ولكن هذا التأثر لحظي وسطحي ولا يمكنه محو ذاكرة الجماهير وخبرتهم المباشرة للطبيعة المضادة للثورة والمعادية للجماهير سواء للمؤسسة العسكرية أو الأمنية.

والسبب الحقيقي لهذا التأثر المؤقت هو خيانة المعارضة الليبرالية المتمثلة في جبهة الإنقاذ لأهداف الثورة المصرية ولدماء الشهداء من أجل طريق مختصر إلى السلطة، وغياب بديل سياسي ثوري موحد قادر على فضح تلك الجبهة وكسب الجماهير حول برنامج ومشروع ثوري ملموس قادر على تجاوز النخبة الإسلامية والليبرالية معاً والمضي قدماً في تعميق الثورة المصرية وكنس كل مؤسسات النظام القديم بما فيها المؤسسات العسكرية والأمنية، وهم قلب الثورة المضادة.

لم تثور الجماهير من جديد رغبةً في الحكم العسكري أو حباً للبديل الليبرالي الفلولي للإخوان. ثار الجماهير من جديد لأن مرسي والإخوان خانوا الثورة ولم يحققوا أياً من مطالب الثورة من عدالة اجتماعية أو حرية أو كرامة إنسانية أو قصاص لشهداء الثورة، سواء الذين سقطوا على يد مبارك والعادلي أو على يد المجلس الأعلى للقوات المسلحة أو على يد الإخوان والداخلية خلال فترة حكم الإخوان.

بل عمّق حكم الإخوان من نفس سياسات نظام مبارك من إفقار وفساد ودفاع مستميت عن مصالح كبار رجال الأعمال ومن خدمة المصالح الأمريكية والصهيونية.

وبدلاً من تطهير أجهزة الدولة من الفساد ومن من لطخت أياديهم بدماء شهداء الثورة سواء وزارة الداخلية أو المؤسسة العسكرية والمخابرات، عقدوا الصفقات معهم أملاً في مشاركة الإخوان مع الفلول ورجال نظام مبارك في إدارة الدولة.

وأصبح حكم الإخوان هو مجرد امتداد على كافة الأصعدة لحكم مبارك الذي ثار ضده الشعب المصري.

هذا هو جوهر الانفجار الثوري الجديد والذي بدأ بيوم 30 يونيو التاريخي. لم يفهم الإخوان هذا الجوهر فتبخرت شعبيتهم خلال شهور. وهذا ما لا يفهمه أيضاً قادة المؤسسة العسكرية وواجهتهم المدنية المتمثلة في جبهة الإنقاذ بليبرالييهم وفلولهم. فليس بجعبة هؤلاء سوى نفس السياسات التي انتهجها مرسي والمجلس العسكري ومبارك من قبلهم. نفس السياسات الاقتصادية الليبرالية الجديدة، نفس التحالف الاستراتيجي بممالك الظلام في الخليج ونفس التبعية المذلة للاستعمار الأمريكي والصهيوني.

تحاول حكومات ووسائل الإعلام الأمريكية والأوروبية البرجوازية وصف ما يحدث في مصر على أنه مجرد انقلاب عسكري على رئيس منتخب ديمقراطياً، أي إنقلاب على "الشرعية" الديمقراطية الشكلية. ولكن ما حدث في الواقع هو تجاوز الديمقراطية الشكلية بصناديقها وشرعيتها من خلال ديمقراطية الثورة الجماهيرية؛ وهي ديمقراطية مباشرة تخلق شرعية ثورية وتفتح الآفاق لأشكال جديدة من سلطة الجماهير تتقزم أمامها ديمقراطية الصناديق المؤقتة والتي لا تنتج سوى ديمومة حكم البرجوازية بأجنحتها المختلفة واستمرار سلطة أجهزة الدولة الرأسمالية مع إيهام الجماهير أنهم يحكمون من خلال صناديق لا تفتح لهم إلا مرة كل عدة سنوات لاختيار من من النخبة البرجوازية سيحكمهم ويستغلهم وبدون الاقتراب بالطبع من أجهزة الدولة والشركات الرأسمالية المحصنة من لعبة الصناديق.

ما حدث في مصر هو قمة الديمقراطية، ثورة الملايين للإطاحة المباشرة للحكم. أما الإزاحة العسكرية لمرسي فلم تكن سوى تحصيل حاصل بعد أن رأت المؤسسة العسكرية أن الجماهير قد حسموا الأمر في شوارع وميادين مصر. فعل السيسي في 3 يوليو 2013 ما فعله طنطاوي من قبله في 11 فبراير 2011، وهو رضوخ لإرادة الجماهير الثائرة ليس من باب الثورية أو الوطنية، ولكن من باب الخوف من الثورة. فإن لم يكن السيسي قد تدخل لإزاحة مرسي، لم تكن الثورة ستتوقف عند الإطاحة بمرسي والإخوان بل كانت مؤهلة - ومازالت - للتحول إلى ثورة اجتماعية شاملة تطيح بالدولة الرأسمالية كلها بما فيها قيادات المؤسسة العسكرية.

المؤسسة العسكرية معادية للثورة المصرية، تخلصت من مبارك لتنقذ نفسها من نيران الثورة، وتتخلص الآن من الإخوان ومرسي، حلفاء الأمس أيضاً خوفاً من يصل إليها زلزال الثورة. وكما تأثرت قطاعات واسعة من الجماهير بوهم حيادية الجيش ووقوفه مع الثورة في بدايات حكم المجلس الأعلى للقوات المسلحة، تتأثر اليوم بالدعاية الكاذبة حول بطولية وثورية السيسي وجنرالاته.

وكما تجاوزت الجماهير سريعاً تلك الدعاية في أيام طنطاوي من خلال الخبرة والنضال، ستتجاوز في الأسابيع والشهور القادمة وهم "الجيش والشعب إيد واحدة" من جديد.

لقد تمكنت الجماهير المصرية من الإطاحة برئيسين في 30 شهر. هذه القوة الجبارة لم تنعكس فقط في المظاهرات المليونية ولكن أيضاً في موجات متتالية من الإضرابات العمالية والاحتجاجات الشعبية. فالثقة السياسية تتحول إلى ثقة في النضال الاجتماعي والاقتصادي والعكس صحيح.

لقد راهن الجيش بعد الموجة الثورية الأولى على قدرة الإخوان التنظيمية والجماهيرية على استيعاب وإجهاض الثورة. وقد فشل هذا الرهان وانتهى في 30/6. والآن يراهن الجيش على المعارضة الليبرالية بنفس الهدف. ولكن المساحة الشاسعة بين توقعات الجماهير الثائرة وبين ما تقدمه تلك القوى الليبرالية من سياسات اقتصادية واجتماعية وسياسية في ظل أزمة اقتصادية عنيفة ستؤدي سريعاً إلى فضح تلك القوى ومن ورائهم الحكام الحقيقيين لمصر المؤسسة العسكرية والمؤسسات الأمنية.

أحد المخاطر التي سنواجهها في الأسابيع والشهور القادمة هو أن موجة القمع الموجهة تجاه الإخوان والحركة الإسلامية ستستخدم دعائياً من قبل القوى الليبرالية وأمنياً من قبل الجيش والشرطة لضرب الحركة العمالية والاحتجاجات الجماهيرية، بحجة الاستقرار في "هذه المرحلة الحرجة". إن استعادة الأجهزة الأمنية لثقتها في مواجهة الإسلاميين سيُترجم بلا شك إلى موجات من القمع للإضرابات والاعتصامات بغطاء إعلامي برجوازي كثيف.

لذا يجب علينا أن نكون متسقين في مواجهة كافة أشكال التنكيل والقمع التي يتعرض لها الإسلاميين من اعتقالات وغلق فضائيات وجرائد، فما يحدث اليوم للإسلاميين سيحدث غداً للعمال واليسار.

إن معضلة الثورة المصرية اليوم هي الضعف السياسي للقوى الثورية المتبنية مطالب استمرار الثورة وفي القلب منها المطالب الاجتماعية. تلك القوى التي لن تكتفي بديمقراطية الصناديق ولن تقبل استمرار سياسات الإفقار الرأسمالية ولن تتخلى عن مطالب القصاص لدماء شهداء الثورة وستظل مصرة على الإطاحة بدولة مبارك بمؤسساتها الأمنية والعسكرية والقضائية والتي ما زالت تسيطر على البلاد ومازالت تحمي مصالح كبار رجال الأعمال وفلول مبارك ومازالت مستنقع كبير للفساد والنهب والاستبداد.

على القوى الثورية اليوم أن توحد صفوفها وتطرح نفسها كبديل سياسي ثوري مقنع للجماهير. بديل لقوى الليبرالية الصاعدة اليوم على أكتاف العسكر ولقوى الإسلام السياسي والتي هيمنت لعقود على قطاعات واسعة من الجماهير. علينا خلق منبر يوحد بين النضال الاقتصادي والاجتماعي في صفوف العمال والفقراء وبين كافة القطاعات المضطهدة في المجتمع، فهؤلاء هم من لهم مصلحة في استمرار الثورة وفي إسقاط قلب النظام وليس فقط ممثله سواء كان مبارك أو مرسي في السابق، وربما البرادعي في المستقبل القريب. لنبدأ من الآن التحضير للثورة المصرية الثالثة القادمة لا محال، ولنكن مستعدين لقيادة هذه الثورة للنصر النهائي. لقد أثبتت الجماهير من جديد أن طاقتهم الثورية ليس لها نهاية وأن ثورتهم بالفعل ثورة دائمة. فلنكن على قدر المسئولية التاريخية ولنعمل معاً لإنجاح الثورة.